يريدون إعمار غزّة وهدم قضيتها!

بقلم : نصر شمالي

كلّ إنسان عربي نزل إلى الشوارع انتصاراً لغزّة على مدى ثلاثة أسابيع من حرب الإبادة والتدمير الشامل ضدّها كان على قناعة بأنّ الإدارة الأميركية هي من أعطت الأمر بشنّ هذه الحرب، وهناك من ذهب أبعد من ذلك ورأى أنّ الهجوم العسكري الهمجي الإبادي ضدّ القطاع المحاصر شبه الأعزل حظي مسبقاً بموافقة حكومات حلف شمال الأطلسي، وبموافقة بعض أطراف النظام الرسمي العربي، وهي موافقة اقترنت بالتواطؤ والتعاون على أكثر من صعيد بهدف ضمان نجاح العملية العدوانية الإجرامية!

 إنّ من رأى المشهد كما عرضنا آنفاً محقّ بالطبع وإن لم يمتلك الوثائق الدامغة، يؤيّده في قناعته تسلسل الأحداث على مدى أكثر من عامين، ففي البداية، بعد الانتخابات النيابية الفلسطينية، انطلقت عمليات إرباك الحكومة الفلسطينية المنتخبة، والمحاولات المحمومة لحرمانها من جميع المقوّمات والوسائل والأدوات التي تمكّنها من القيام بواجباتها، ثمّ بدأت عمليات اختلاق الفتن والاضطرابات في الشارع، ليتكشّف ذلك عن تحضير لانقلاب ضدّ حكومة حماس بطريقة أو بأخرى، فلما حسمت الحكومة الموقف، وسيطرت تماماً على الأوضاع، اشتدّ الحصار على القطاع إلى حدّ التجويع والخنق، وبدا واضحاً أنّ ذلك الحصار يشبه ما تعرّض له العراق تمهيداً لاحتلاله، وهذا ما حدث بالفعل!

لقد كانت واضحة تماماً محاولات إخضاع المقاومة في غزّة، وإرغامها على الالتحاق بركب التسوية الظالمة والاستسلام المذلّ للمشروع الأميركي الصهيوني، فقد أغلق الوسيط الرسمي العربي في وجه المقاومة جميع السبل ما عدا سبيل الالتحاق بهذا الركب، باسم العودة إلى الوحدة والشرعية والالتزام ببرنامج السلطة الفلسطينية في رام الله، الذي هو برنامج إلقاء السلاح والانخراط في مفاوضات الموت البطيء للقضية الفلسطينية ولشعبها وأمتها، أمّا محاولات المقاومة لممارسة الكفاح المسلّح فقد حاصرتها الألسنة والأقلام الفاسدة، وصوّرتها تارة على أنّها جنون وأخرى على أنّها خيانة! لقد صارت الأسلحة البدائية، المصنوعة في ورشات الحدادة الفلسطينية، مدعاة للتندّر والسخرية بدلاً من أن تكون مدعاة للفخر والاحترام، ومدعاة للشجب والإدانة بدلاً من أن تكون مدعاة للمساعدة والإمداد بأفضل منها!

كان وضع قطاع غزّة في ظلّ الحصار الطويل مأساوياً رهيباً لا يطاق، وليس من ريب أنّ المقاومة ما كان لها أن تصمد لحظة واحدة، في وجه الضغوط الهائلة الدولية والإقليمية والداخلية، لولا أنّ شعب القطاع مقتنع ببرنامجها، ومؤيّد لمواقفها، ومطمئن لنظافتها وأمانتها وإخلاصها، وداعم لها في نضالها المشروع، وقد ثبت ذلك بصورة قاطعة أثناء العمليات التدميرية الإبادية الصهيونية الشاملة، وبعد إعلان وقف إطلاق النار من طرف واحد هو الطرف الإسرائيلي، حيث لم نسمع من أبسط المواطنين الفلسطينيين المفجوعين بأهلهم وممتلكاتهم كلمة واحدة تنال المقاومة بسوء، أو تستنكر مواقفها السياسية والعسكرية!

لقد كان الوسيط الرسمي العربي يساهم في إحكام الحصار الجغرافي والسياسي على قطاع غزة، فهو يغلق الحدود من جهة، ويمنّي المقاومة من جهة أخرى بفتحها إن هي جاءت إلى المفاوضات مستعدّة للتخلي عن برنامجها الكفاحي والخضوع لتسوية الاستسلام المميتة، متّهماً إيّاها بالانقلاب والتمرّد ضدّ السلطة الشرعية في رام الله، ومتّهماً إياها بتفكيك الوحدة الوطنية والعمل على إقامة "دولة غزّة المستقلة"! وهكذا صار التمسّك بالمقاومة المسلّحة الضرورية خروجاً على الشرعية، وصار إغلاق القطاع في وجه الإسرائيليين خروجاً على الوحدة الوطنية! وعندما بلغت مناورات الوسيط حدّاً لا يحتمل، وصار واضحاً أنّ الهدنة لا تعني سوى الشلل والجمود ومن ثمّ الموت البطيء للقضية والإنسان، وجدت المقاومة نفسها مدعوّة لعدم تجديد اتفاق الهدنة الخبيث، فكانت تلك ذريعة للهجوم الصهيوني المبيّت، المقرّر مسبقاً بذريعة أو من دون ذريعة!

نعود إلى الهجوم العسكري الإسرائيلي/الأطلسي على قطاع غزّة فنقول: إذا كان هناك كثيرون جدّاً يعتقدون أنّه تمّ بإيعاز من الإدارة الأميركية الراحلة، فإنّ هناك من يعتقد أنّه تمّ بموافقة الإدارة الأميركية الجديدة، وإنّ مثل هذا الاعتقاد يبدو منطقياً ومقنعاً، يؤيّده صمت أوباما المطبق مثلما تؤيّده تصريحات وتصرّفات بوش ورايس! ففي لحظة انتقالية رئاسية مناسبة، وفي شرط دولي ملائم، أعطي الإسرائيليون وقتاً كافياً لإغلاق القضية الفلسطينية، بتدمير قطاع غزّة تدميراً شاملاً كفيلاً باستسلامه التام خلال الساعات الأولى أو الأيام الأولى، وهم كانوا متأكّدين من تحقيق هذا الهدف، وكيف لا يكونوا متأكّدين وهم يهاجمون جوّاً وبرّا وبحراً، بأحدث الأسلحة وأشدها فتكاً، كتلاً بشرية مكتظة عزلاء، ومقاومة مسلّحة شبه عزلاء؟

 إنّ قطاع غزّة من حيث المساحة والسكان لا يزيد عن حيّ شعبي من أحياء القاهرة! ولكن هاهو يصمد ويصدّ الاجتياح، وبعد ثلاثة أسابيع من عمليات التدمير الشامل والقتل العشوائي كان لا بدّ للهجوم من أن يتوقف، ليس فقط لأنّ الاجتياح يحتاج لعام من القتال كما قال القادة الإسرائيليون، وليس لأنّه لم تعد ثمّة أهداف تنقضّ عليها الطائرات الجبارة وتقذفها المدافع الضخمة من بعيد، بل لأنّ المهلة الزمنية انتهت، ولا يجوز أن يستمرّ التدمير والقتل والاحتجاج العالمي المتصاعد عشية احتفالات تنصيب الرئيس أوباما!

لقد نجح الصهاينة في تدمير آلاف البيوت والمنشآت، وفي قتل وجرح آلاف الفلسطينيين من غير المقاتلين، ولكن ماذا حققوا غير ذلك من أهداف شنّوا العمليات الحربية من أجل تحقيقها؟ ولا هدف واحد! لم يهرب أحد، ولم يتوسّل إليهم أحد، ولم ينالوا من البنية الإجمالية للمقاومة، ولا من عزيمتها وثباتها وحيويتها، ولم يقنعوها بالتراجع قيد أنملة عن مطالبها السياسية وبرنامجها الاستراتيجي!

 لقد أعلن الإسرائيليون وقف إطلاق النار من طرف واحد للأسباب التي أشرنا إلى بعضها، أما النظام الرسمي العربي فقد فاجأته النتائج المذهلة كما لم يفاجأ من قبل أبداً، فهبّ معلناً حزنه على ما حلّ بالقطاع من قتل ودمار, وعن استعداده لإعادة إعماره، علماً أنّ مليارات الدولارات التي يمكن أن تحتاجها عملية الإعمار هي قطعاً أقل من تلك المليارات الأربعة التي خسرها قبل حوالي شهرين أمير عربي واحد، في يوم واحد، وفي مصرف أميركي صهيوني واحد!

 أخيراً، ليس ثمة شكّ في أنّ بعض أطراف النظام الرسمي العربي كانوا يتأهّبون مسبقاً لإعمار غزّة، إنّما بعد استسلامها لو كان ذلك ممكناً! ولذلك فالمتوقع أن يحاولوا إعمارها وهدم وتصفية قضيتها وإنسانها في الوقت نفسه! أي تحقيق ما لم ينجح العدو في تحقيقه، فهل هذا ممكن؟  

[email protected]

 

  

Hosted by www.Geocities.ws

1