الوحدة، والبعث، واللجنة العسكرية

نصر شمالي

بمناسبة مرور نصف قرن على إقامة الجمهورية العربية المتحدة

 

ليس بالحدث الهيّن أن يتحرّر أحد الأقطار العربية من الإدارة الاستعمارية المباشرة، لكنّه حدث يمكن تحقيقه بالقدرات المتوفّرة مهما كانت متواضعة، خاصة عندما تساعد على تحقيقه تناقضات الأعداء الأجانب، وعندما يطمئن العدو الأجنبي إلى أن مصالحه الأساسية لن تمسّ في ظل الإدارة الوطنية القطرية، أما أن يتطلع قطران عربيان، تحرّراً حديثاً من الإدارة الاستعمارية المباشرة، إلى تحقيق الوحدة بينهما، فإن هذا يعني تطويراً للقدرات الذاتية يتعدّى الاحتياجات والحدود القطرية، وبالتالي دخولاً في منطقة المحرّمات والثوابت الإستراتيجية الدولية، حيث العلاقة الجدليّة التاريخية المصيرية بين الداخل والخارج، بين الأمة جميعها مع أعدائها جميعهم، وحيث مثل هذا الدخول يعني إمكانية تصحيح هذه العلاقة لصالح المظلوم على حساب الظالم، أي لصالح الوحدة والحضور على حساب التجزئة والغياب، وبناءً على ذلك، وبصورة من الصور، تصبح وحدة مثل وحدة مصر وسورية (1958 – 1961 ) في مستوى حدوث استقلال وانفصال ويلز واسكتلندا، مثلاً، عن بريطانيا، وانفصال كاليفورنيا ونيومكسيكو عن الولايات المتحدة الأميركية! لأنّ الأقطار العربية المنفصلة عن بعضها موحّدة بالمقابل مع المراكز الاستعمارية شاءت أم أبت، ولأنّ وحدة النظام الاحتكاري الرّبوي العالمي تشترط تجزئة العرب وغير العرب، ولكن يبدو أنّ الكثيرين ممّن خاضوا تجربة الوحدة المصرية السورية وتجربة الانفصال لم يذهبوا في تقديرهم لذلك الحدث التاريخي إلى هذا الحدّ، بينما العدو رآه كذلك، فهو حقّاً في هذا المستوى سواء من حيث عوامل ومعاني نهوضه أم من حيث عوامل ومعاني انهياره!

 

* المسافة الشاسعة بين الواقع والغايات!

لقد كانت تجربة الوحدة والانفصال، المصرية السورية، منعطفاً حاسماً، قاطعاً، لن تعود أوضاع الأمة بعده إلى ما كانت عليه قبله أبداً، فإمّا تخطّيه تخطّياً متطوّراً مقتدراً وإلاّ فالمراوحة المضنية المتخبّطة في المكان! لكنّ الكثيرين لم يلاحظوا أيضاً، كما يبدو، عمق وسعة التغييرات الاجتماعية والسياسية التي نجمت عن التجربة وعن فشلها، وما ترتّب على ذلك موضوعياً من اندثار قوى وشخصيات قديمة وانبثاق قوى وشخصيات جديدة، بحيث أصبحت العودة إلى ما كانت عليه الأوضاع قبل الانفصال، وقبل انهياره بدوره، أمراً مستحيلاً! والأهمّ أنّ تلك التجربة التاريخية، بنهوضها وسقوطها، وبنواقصها الفادحة وظروفها المعقّدة، أحدثت صدمة مزلزلة كشفت دفعة واحدة كم هي المسافات شاسعة بين الواقع والغايات، فهي، بغضّ النظر عن الحماسة الشعبية العارمة المنقطعة النظير التي احتضنت انطلاقتها، كشفت مقدار العري المزمن والضعف الشديد لقواها السياسية والاجتماعية في مواجهةً قوى الأعداء، وكشفت بدائية أدواتها وفقر وسائلها قياساً بالأهداف الوطنية والقومية العظمى التي أخذت على عاتقها مهمة إنجازها، وكشفت عدم الأخذ بالحسبان بصورة كافية وعملية أنّ كلّ محاولة بسيطة في اتجاه المقاومة والتوحيد تنعكس أصداؤها ًإجراءات عمليّة فورية مضادّة في العواصم الاستعمارية، وهو ما حدث بالفعل في مواجهة عملية الوحدة، ولذلك فإنّه ليفترض أنّ فشل التجربة الوحدوية المصرية السورية أنهى بضربة واحدة قاصمة زمن البراءة أو السذاجة السياسية!

غير أنّ البراءة أو السذاجة ظلّت تتحكّم في أفكار وأداء فئات عديدة، ربّما حتى يومنا هذا، حيث هناك من بقي بعد الانهيار السهل المجلجل لتجربة الوحدة متشبّثاً بالعصا لمواجهة قطعان الذئاب، ومن ظلّ يعتقد بالوصول إلى القمر عن طريق السلالم! وهؤلاء سرعان ما دخلوا مرحلة الاضمحلال والأفول وعوا ذلك أم لم يعوه، سواء منهم الذين أرادوا العودة إلى عهد الوحدة كما كان أو الذين أرادوا العودة إلى العهد الديمقراطي قبلها كما كان، وسواء أكانت انتقاداتهم لقوى الماضي ولقوى المستقبل صائبة أم غير صائبة، فالعودة إلى حياة التعدّدية الحزبية البرلمانية الليبرالية أو الديمقراطية التي كانت في سورية قبل الوحدة، أو العودة إلى حياة الجمهورية العربية المتحدة، صارت مستحيلة تماماً بالصورة التي كانت عليها ، من دون أن يعني ذلك أن الحياة السياسية البديلة، التي سرعان ما بدأت في الثامن من آذار/مارس 1963 ، هي الأفضل حكماً أو الأسوأ حكماً، ً فهي قد تكون الأفضل وقد تكون الأسوأ، غير أنّ مثل هذه المقارنات فقدت كل ّ قيمة وكلً ضرورة على أرض الواقع المستجدّ المعاش!

 لقد أصبح حلم العودة إلى نظام الوحدة كما كان، أو إلى النظام السوري الذي كان قبله وحاول أن ينهض بعده كما كان، مجّرد ملاذ نفسي وذهني وسياسي لأولئك الذين تجاوزتهم التطوّرات موضوعياً، والذين ظلّوا يتشبّثون بحلمهم في عودة الماضي باعتباره مشروعاً مستقبلياً في متناول اليد ويا للعجب! بينما في المقابل، تحت أنقاض دولة الوحدة المنهارة والانفصال الذي تلاها وانهار بدوره، كانت قد تكوّنت أجنّة قوى وشخصيات جديدة عديدة تحمل جميع ألوان قوس قزح، وتوالدت مشاريع المواجهات المستقبلية الغامضة، فالمناخ المستجدّ، بتعقيداته الرهيبة المرئية وغير المرئية، فعل فعله كحاضنة مواتية لإنتاج قوى وشخصيات متخطّية سلباً أو إيجاباً، ولكن من دون أن تكون تلك القوى والشخصيات الوليدة المتخطّية مقطوعة الصلة كلّياً بما سبقها وبمن سبقها! إنّها قصّة الآباء الذين يضمحلّون ويموتون بولادة الأبناء، وقصة الأبناء الذين يتخطّون آباءهم، ويحتفظون ببعض ملامحهم ومزاياهم السلبية أو الإيجابية، ويبرزونها أشدّ فظاظة وقبحاً أو أكثر رقّة وجمالاً! ولقد تكرّرت بالفعل بعض ملامح ومزايا نظام الجمهورية العربية المتحدة ورئيسها في هذا القطر أو ذاك وما زالت تتكرّر، إنّما كيف؟! ولعلّ اللجنة العسكرية البعثية (1959-1966) التي تشكّلت في رحم تجربة الوحدة كمجموعة وكأفراد، كانت بما تمثّله أحد أبرز الظواهر التي أنتجها انهيار التجربة، وأبرز مشاريع المواجهات المستقبلية الغامضة، سواء وعت اللجنة نفسها ذلك في حينه أم لم تعه، فهي سوف تثأر للوحدة من الانفصاليين بقسوة، لكنها لن تنجح أو لن تكون حازمة في إعادة سورية إلى الجمهورية العربية المتحدة التي استمرّت مقتصرة على مصر! بل لن تنجح أو لن تكون حازمة في إقامة وحدة مع العراق الذي يستولي رفاقها البعثيون العراقيون على الحكم فيه! إنها اللجنة التي نفّذت الانقلاب الثوري ضدّ عهد الانفصال في آذار/مارس1963 ، والتي لم تكن حركة شباط/فبراير 1966، التي أطاحت بالقيادة التاريخية لحزب البعث ممثلة بالأستاذين ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، سوى ذروة تطوّرها وصعودها ونهايتها!

 

* السوريّون يضحّون بواحة الحرّية الخضراء !

لقد كان تكوّن وتشكيل اللجنة العسكرية البعثية، أو غيرها من التكوينات والتشكيلات السورية، أثناء تجربة الوحدة المتعثّرة ظاهرة متوقّعة بل طبيعية بمعايير الحياة السياسية السورية الخصبة الكثيفة قبل الوحدة، فلو عدنا إلى أوضاع سورية، عشيّة الوحدة مع مصر في أواخر عام 1957، فسوف نجد بلداً يعيش بحبوحة من التعدّدية الحزبية والحياة الديمقراطية البرلمانية، حيث على قمة الدولة رئيس جمهورية بورجوازي، ليبرالي ديمقراطي، السيد شكري القوتلي، ومثله رئيس مجلس الوزراء، السيد صبري العسلي، بينما رئيس مجلس النواب اشتراكي قومي، السيد أكرم الحوراني، ومثله رئيس أركان الجيش الاشتراكي القومي المصنّف كشيوعي، الفريق عفيف البزري، الذي يرأس أيضاً هيئة عسكرية/ سياسية متحالفة لها دورها المسلّم بضرورته في الحياة العامة! ولسوف نلاحظ أنّ هذه الهيئة العسكرية/السياسية تحظى بالاحترام والتقدير من الشعب السوري المفعم بالعنفوان والاعتزاز، خاصة بعد تجربته في الاستعداد لمواجهة الحشود العسكرية التركية/ الأميركية عام 1957، حيث سلّحت قيادة الجيش مئات الألوف من المدنيين السوريين الذين انخرطوا في صفوف المقاومة الشعبية لفترة من الزمن لم تشهد البلاد خلالها حادثاً واحداً يعكّر صفو الأمن الداخلي! لقد كان ذلك دليلاً على الثقة القويّة المتبادلة بين الجماهير وقياداتها وحكومتها وجيشها، فاستحقّت سورية نتيجة لتماسكها ومواقفها الوطنية والقومية كراهية شديدة من الأميركيين الذين صنّفوها حينئذ بلداً شيوعيّاً عدوّاً! لكنّها بالمقابل حظيت بتعاطف ومؤازرة الأحرار في جميع أنحاء العالم، حتى أنّ إحدى الصحف الفرنسية وصفتها بأنها "واحة الحرّية الخضراء"! كما أنّ الاتحاد السوفييتي لم يتردّد في مؤازرتها عملياً ضدّ التحشّدات التركية/الأميركية فحشد قواته على الحدود التركية، وأصدر إنذاره الشهير المعروف بإنذار بولغانين، محذّراً من مغبّة مهاجمة سورية!

 ولكن حدث أنّ الشعب السوري، في تلك اللحظة التاريخية الإيجابية من تاريخه الحديث بالضبط، قد استنفر بقضّه وقضيضه من أجل تحقيق الوحدة الفورية الاندماجية مع مصر بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر، فعرّض للخطر طوعاً تلك المزايا والامتيازات التي كان يتمتّع بها في حياته الداخلية! فلماذا حدث ذلك وكيف حدث وجميع السوريين، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، كانوا يعرفون أنّ الحياة السياسية في مصر مختلفة عن الحياة السياسية في سورية، وأنّ النظام المصري ليس ديمقراطياً برلمانياً، وأنّ الأحزاب المصرية الموازية ممنوعة ومقموعة؟ كيف حدث ذلك وجميع السوريين كانوا قد خرجوا قبل زمن قصير في مظاهرات ضخمة احتجاجاً على إعدام قادة الإخوان المسلمين في مصر؟ كيف حدث أنّ الشعب السوري اندفع غير مكترث ولا حذر ولا حريص على أحزابه وديمقراطيته وبرلمانه؟

في محاولات الإجابة على مثل هذه الأسئلة تركّزت المشاهدات والتحليلات، والتفسيرات والاستنتاجات، على البنية الفوقية للأمة، أي على مواقف القيادات والمؤسسات العليا، بينما لم تنل هواجس ومواقف بنيتها الاجتماعية التحتية العريضة ما تستحقه من الاهتمام، مع أنّ هذه البنية التحتية هي التي لعبت الدور الحاسم في الدفع نحو الوحدة الاندماجية الفورية، أو في تغطية تحقيقها على الأقلّ، وهو دور تخطّى بما لا يقاس الدور الفوقي للمؤسسات والعلاقات السياسية الديمقراطية أو غير الديمقراطية في البلدين الشقيقين، الأمر الذي يستدعي الغوص في أعماق هذه البنية التحتية الضخمة لتلمّس دوافعها التي حوّلتها إلى سيل وحدويّ اندماجيّ جارف، فإذا غصنا فسوف نرى الأعماق الاجتماعية السورية مسكونة حينئذ بالخوف من أخطار عظمى ماثلة تتهدّد وجودها من أساسه، وهي الأخطار التي تجسّدت أول ما تجسّدت في الاجتياح الإبادي الاستيطاني لفلسطين، أي في ذلك السرطان الصهيوني الذي كان قد تبلور "دولة" قبل الاندفاع السوري الجارف نحو الوحدة بأقلّ من عشر سنوات، ناهيكم عن الحشود التركية/الأميركية التي ذكّرت السوريين باغتصاب محافظة الإسكندرونة، إضافة إلى المؤامرات التي كان حلف بغداد الأميركي يحيكها ضدّ سورية على مدار الساعة، بل إنّ الغوص في أعماق البنية التحتية المجتمعية سوف يكشف لنا أنّ الأمة المجزّأة، المسلوبة المنهوبة، والمستضعفة المهانة على مدار الساعة، كانت من خلال جزئها السوري حينئذ تأخذ في حسبانها مصير القطر الجزائري الذي لا يزال يكابد أهوال الاستعمار الاستيطاني الإبادي الفرنسي منذ حوالي قرن وربع من الزمان، وكانت ترى أنّ ما يعانيه القطر الجزائري انتقل إلى فلسطين، من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، بأدوات أشدّ فاعلية وأعظم فظاعة وخطراً، وهكذا، أمام الأخطار العظمى، التي لا قدرة لسورية وحدها على مواجهتها ودحرها، تطلّع السوريون إلى مزايا الرئيس جمال عبد الناصر كقائد عربي، وأممي أيضاً، تتوالى إنجازاته الوطنية والتحرّرية وخطاباته وخطواته القومية التوحيدية، ونصرته للثورة الجزائرية تحديداً، واستوقفهم ظهوره في القاهرة أكبر وأقوى عواصم العرب بكلّ دلالاته التاريخية، فكيف لا يلتقطون بفطرتهم النزيهة تلك الفرصة التاريخية السانحة لإقامة دولة الوحدة بقيادته؟ كيف لا تفعل الجماهير السورية ذلك والكيان الصهيوني نهض حاجزاً مباشراً بين مصر وسورية قبل غيرهما؟ وكيف لا يعتبر السوريون كلّ ما عدا الوحدة المتاحة ثانويّاً بما فيه مكتسباتهم القطرية الديمقراطية؟

 

* الوحدة تتحقّق كأنّما بانقلاب عسكري!

كان الرئيس جمال عبد الناصر قد غدا محطّ أنظار جماهير الأمة ومعقد آمالها منذ حرب السويس، وكانت الصلات قد توثّقت بقوة بينه وبين قادة حزب البعث العربي الاشتراكي منذ ما قبل حرب السويس، إلى الحدّ الذي جعل السيد محمود رياض، سفير مصر في سورية، يبدو كأنما هو واحد من قادة البعث، صلته بهم مثل صلتهم ببعضهم، بل أقوى مع بعضهم أحياناً (مع أكرم الحوراني تحديداً) أما حزب البعث، فكاد يكون الحزب الوحدوي بل الحزب الناصري الوحيد! و كان البعثيون ينظرون إلى عبد الناصر باعتباره يكاد يكون بعثياً، وهو الذي تأثّر بشعاراتهم وتبنّاها (وحدة، حرية، اشتراكية) وقدّر للبعث مواقفه القويّة إلى جانبه في معاركه الوطنية والقومية، وعندما بدأ الاستعداد الجدّي لتحقيق الوحدة كان دور حزب البعث في سورية أساسياً وحاسماً في تحقيقها، يعادله في مصر، على صعيد القيادة، دور عبد الناصر شخصياً!  غير أن ذلك كله ما كان ليجعل عبد الناصر يتزحزح قيد أنملة عن اشتراطه حلّ الأحزاب السورية، وفي جملتها البعث، كي يوافق على تحقيق صيغة الوحدة الاندماجية عندما طرحت! لقد اقترح عبد الناصر في البدايات التأنّي والتروّي، والتقدّم مرحلة فمرحلة على طريق الوحدة، وكان قادة البعث، كما تؤكد الوثائق، معه في اقتراحه، ولكن سرعان ما بدأت الأمور بالخروج من أيدي القيادات الحزبية والحكومية السورية لصالح وحدة فورية اندماجية، ورجحت كفّة هذا الاتجاه الاندماجي بفعل ضغط جماهيري هائل لا يقاوم، وبسبب التناقضات والمناورات التي بدأت تتفاقم في أوساط القيادات الحزبية والحكومية السورية، وأيضاً بسبب الخوف من عملية اعتراضية معادية للوحدة قيل أنها أصبحت وشيكة! وعندما بدا طريق الوحدة الفورية الاندماجية شبه إجباري أصرّ عبد الناصر على حلّ الأحزاب السورية جميعها بما فيها حزب البعث!

 والحال أن تحقيق الوحدة الاندماجية كان يستدعي فعلاً وبالضرورة أحد شرطين: إمّا أن تحلّ الأحزاب السورية مثلما حلّت الأحزاب المصرية، وإمّا أن تعود الأحزاب المصرية إلى الحياة السياسية مثلما هو الحال في سورية! وبالطبع، كانت عودة الأحزاب المصرية مستحيلة تماماً بمعايير القيادة المصرية في ذلك الزمن، وبما أنه صار من شبه المستحيل عدم الاستجابة لإرادة جماهير الأمة ومخالفة تيارها الهادر الجارف، إضافة إلى الخوف من انقلاب عسكري ضدّ مشروع الوحدة من أساسه، فقد غدا حلّ الأحزاب السورية هو الإجراء الوحيد الممكن الذي لابد منه! وهكذا، قبل أن ينتهي شهر شباط/ فبراير 1958، كانت الجمهورية العربية المتحدة قد نهضت بإقليميها الجنوبي والشمالي، في نطاق وحدة اندماجية وبقيادة سلطة رئاسية شديدة المركزية، وأصبحت حقيقة واقعة، فكيف حدث ذلك؟

لقد تحققت الوحدة بتلك الصورة الفورية الاندماجية الشديدة المركزية عندما انطلقت الروح العسكرية السورية المتوثّبة فجأة لحسم الموقف، في الثاني عشر من كانون الثاني/يناير1958، منجذبة باستقامة نحو شقيقتها المصرية كأنما بفعل قوة لا تقاوم، وإذا بوفد عسكري سوري مؤلف من قادة الجيش، برئاسة الفريق عفيف البزري رئيس الأركان، ينتقل على الفور إلى القاهرة ويبرم مع الرئيس جمال عبد الناصر بسرعة قياسية أساس اتفاقية وحدة فورية اندماجية، لا أحزاب مستقلّة فيها، وتعطي رئيس الدولة أوسع الصلاحيات! لقد أنجز العسكريون السوريون والمصريون كل شيء بمثل لمح البصر، متخطّين ببساطة جميع القيادات السياسية والحكومية في دمشق وفي القاهرة أيضاً! وبذلك استجابوا للمزاج الشعبي العام من جهة، ومن جهة أخرى قطعوا الطريق آنيّاً، ومؤقتا ًفقط، على أي عمل عسكري أو غير عسكري، واقعي أو محتمل، من شأنه إجهاض مشروع الوحدة، أي أنّ الوحدة تحققت، من حيث الشكل على الأقلّ، كأنّما بانقلاب عسكري! وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ وقوع انقلاب ضدّ مشروع الوحدة كان سيعني لو حدث قلب الموقف رأساً على عقب داخلياً وخارجياً، وإلى جعل سورية في مواجهة عدائية مع مصر لصالح حلف بغداد الأميركي، الأمر الذي جعل هاجس القيادات في سورية ومصر هاجساً أمنيّاً أيضاً، بكلّ ما يترتّب على مثل هذا الهاجس من لجاجة وتسرّع وارتجال ليس في مصلحة الوحدة المنشودة، فالوحدة كعمل تاريخي يجب أن تتحقق كي تبقى وتتطور بالدرجة الأولى، وليس كي تقطع الطريق على مؤامرة استعمارية آنيّة بالدرجة الأولى! وهكذا فإنّ العسكريين السوريين والمصريين، الذين قطعوا الطريق بالوحدة الفورية الاندماجية على المتآمرين، جرّدوا في الوقت نفسه دولة الوحدة من الحركيّة السياسية الميدانية الجماهيرية، المنظّمة المستقلّة، والقادرة على حمايتها وتطويرها، حيث أقصيت تلك الحركيّة لصالح نظام الضبط والربط السلطوي، وأحيلت تنظيماتها السابقة وجماهيرها إلى البيروقراطية الحكومية تفرّغها من مضمونها وتبدّدها، فأصبحت التجربة الوحدوية خطوة غير مضمونة النتائج لأنّها تفتقر إلى الكثير من العتاد، ولأنها تعتمد على الحظّ أكثر من اعتمادها على حساب موازين القوى التاريخية، ونتيجة لذلك لم يكن مستبعداً ولا مستغرباً أن ينتهي المطاف بانهيارها ، فما شيّده العسكريون بسرعة وبسهولة سوف يقوّضه عسكريون آخرون بسرعة وبسهولة أيضاً (في أيلول/سبتمبر 1961) أي أنّ الانقلاب الذي كانوا يخشون وقوعه في سورية وحدها قبل الوحدة سوف يقع لاحقاً في الجمهورية العربية المتحدة! وبالطبع، شتّان بين هذا الانقلاب وذاك، فلو أنّ الانقلاب وقع في سورية وضدّها وحدها لهان الأمر كثيراً جدّاً قياساً بالمعاني والأبعاد العظيمة الخطورة التي ستترتّب على وقوعه في دولة الوحدة وضدّها!

ها هنا يخطر في البال السؤال التالي: ترى، هل كان العسكريون المصريون والسوريون القادة ، وأوّلهم الرئيس جمال عبد الناصر، يعتقدون بكفاءة وجدوى النظام الذي اختاروه لدولة الوحدة، وأنّه كاف لحمايتها وديمومتها؟ إننا لا نستطيع سوى الافتراض أنهم ولا بدّ كانوا يقدّرون كفايته وبحسن نيّة، غير أنّ تقديرهم لكفايته يثير الشكوك حقّاً حول كفاءتهم أو كفايتهم هم بالذات!

 

* دولة الوحدة تتخبّط في عامها الثاني!

على أيّة حال، وأيّاً كان الأمر بصدد الكفاية والكفاءة، فإنّ البديل للنظام الديمقراطي البرلماني المتعدّد الأحزاب في سورية لم يكن في دولة الوحدة بديلاً ديمقراطياً شعبياً متقدّماً، تتمتع مؤسساته بمقدار محترم من الحقّ في إصدار القرارات، ومراقبة التنفيذ، واقتراح العزل .. الخ، بل كان نظاماً رئاسياً، صارم المركزية، تؤازره تشكيلات سياسية شبه معيّنة تعمل بتوجيهه وإشرافه، بينما تسانده من جهة أخرى بيروقراطية حكومية/ أمنيّة ضخمة تبسط ظلّها الكئيب على كل شيء، وتنفّذ أوامره وقراراته بطريقتها التي لا تتعارض مع مصالحها، وهي التي تعرف جيداً كيف تحقق ذلك تحت غطاء كثيف من النفاق والرياء! وقد وجد البعثيون أنفسهم، بعد حلّ حزبهم، مدعوين للإنخراط والإنصهار في تلك التشكيلات السياسية والبيروقراطية، وفي ظل نظام لا هو بالعسكري الاستبدادي السافر، ولا هو بالمدني البرلماني المعقول، ولا هو بالديمقراطي الشعبي الحقيقي! فسواء في الميدان السياسي أم البيروقراطي، نهض ذلك النظام على تشكيلات تنظيم الضباط الأحرار المصريين بالدرجة الأولى، حيث أريد لتلك التشكيلات العسكرية الثورية ممارسة حياة سياسية وإدارية مدنيّة على أوسع نطاق من دون التخلّي عن روح الضبط والربط الصارمة التي تحكم العلاقات في الجيش! وبالمقابل أريد للتشكيلات المدنيّة السياسية والبيروقراطية، في سورية مثل مصر، الخضوع لعلاقات تحكمها روح الضبط والربط العسكري، إنما من دون التخلّي عن خصائصها المدنيّة! فكان تحقيق ذلك شديد الصعوبة وبالغ القسوة، خاصة بالنسبة للسوريين، وسرعان ما بدأت النتائج السلبية لذلك النظام تظهر في الإقليم السوري ، بل سرعان ما بدأت تجربة الوحدة بالتعثّر جملة قبل أن تتصلّب ساقاها وتشتدّان لتنهض عليهما باستقامة، ودخلت دولة الوحدة بمجملها في حالة تعيسة من الفراغ والغموض والتوجّس والخوف منذ عامها الثاني!

لقد كانت الحركيّة المجتمعية السياسية الميدانية، التي لجموها عن قصد لصالح الوحدة الفورية وعن غير قصد لصالح الانفصال، ضرورية ضرورة حاسمة من أجل نجاح التجربة الوحدوية واستمرارها وتطورها، ولنأخذ هنا مثالاً عن ضرورتها من حزب البعث، علماً أنّ المثال ليس وقفاً عليه وحده ويصحّ تماماً أخذه عن أحزاب سورية أخرى، ففي تموز/ يوليو 1957، أي قبل ستة أشهر تقريباً من تحقيق دولة الوحدة، انعقد في دمشق مؤتمر قطري لحزب البعث في سورية حضره القادة الثلاثة، ميشيل عفلق وأكرم الحوراني وصلاح الدين البيطار، وقد عبّر ذلك المؤتمر عن عدم ارتياح قواعد البعث في سورية إزاء الأداء السياسي لقيادته الثلاثية التاريخية، وأدان الهوّة العميقة التي تفصلها عن القواعد، ونبّه إلى ضرورة الابتعاد عن العمل السياسي "التجريبي" كما يمارسه أكرم الحوراني، وإلى ضرورة الخروج من حالة "الغموض النظري" في صياغات ميشيل عفلق! لقد حدث ذلك، كما أشرنا، بحضور القادة الثلاثة، فلا مجاملة ولا حرج ولا خوف، وأيضاً لا عداء ولا ضغينة! وبعد ذلك أقرّ المؤتمر الفصل بين مهام القيادة القومية ومهام القيادة القطرية، بحيث يتوقف تدخل القيادة القومية في ما ليس من اختصاصها من شؤون الحزب في سورية، أي أنّ المؤتمر كان يريد وضع حدّ لتفرّد القادة الثلاثة في اتخاذ القرارات القومية المتعلّقة بسورية! ثم انتخب المؤتمر قيادة قطرية سورية ليس فيها أيّ من القادة الثلاثة، أي أنّه استبعدهم مواجهة! وانتخب الدكتور مدحت البيطار (لا يمتّ بقرابة لصلاح الدين البيطار) أميناً قطرياً! إنّ هذا المؤتمر الذي لم يحظ بالاهتمام والذكر، والذي طمسته الأحداث الهائلة المتلاحقة، يعطي صورة عن الضرورة الحاسمة للحركيّة السياسية الجماهيرية الحرّة، ويعطي فكرة عن الوعي المسبق بصدد العوامل التي تسبّبت في فشل تجربة الوحدة التي كانت بحاجة إلى مثل هذه الحركيّة كي تستمرّ وتتطوّر وتكبر، كذلك هو يعطينا توضيحاً كافياً عن طبيعة القوى الكامنة وراء التغييرات والتطورات الكبرى التي سوف تلي  فشل تجربة الوحدة. ولكي يكتمل المثال نذكر انعقاد المؤتمر القومي الثالث للبعث في لبنان، في آب/ أغسطس 1959، أي في عهد الوحدة، وقد استثنيت الجمهورية العربية المتحدة من حضوره لأن الحزب لم يعد قائماً فيها، وحضره ميشيل عفلق (السوري) بصفته القومية كأمين عام للبعث، وكان استعراض تجربة الوحدة وما تواجهه من أخطاء وانحرافات هو البند الأهم في جدول الأعمال، لكنّ المؤتمر أكّد على التعاون الوثيق بين حزب البعث (خارج سورية ومصر) وبين الجمهورية العربية المتحدة، ومن جهة أخرى وافق على قرار القيادة التاريخية الثلاثية بحلّ الحزب لصالح الوحدة! وإنه لمن الواضح أن قرار حلّ الحزب لم يتّخذه المؤتمر القومي، بل القادة الثلاثة، على مسؤوليتهم اللاحقة أمام المؤتمر، وهاهو المؤتمر الثالث يتبنى قرارهم لاحقاً، وهو إجراء "توفيقي" لا يعكس قناعة وموقف قواعد الحزب في سورية على الأقل، غير أن المؤتمر الرابع الذي تلاه أدان قرار حلّ الحزب!

 

* الأناشيد تتقدّم ودولة  الوحدة تتراجع!

لقد غرق البعثيون في أحاسيس الخيبة والأسى والقهر حين بدأت دولة الوحدة بالتعثّر قبل أن تجتاز عامها الأول، وإنها لأحاسيس العاجز الذي حيل بينه وبين القيام بواجباته، بينما المعتقلات صارت تغصّ بالمشتبه في إخلاصهم للوحدة من الوحدويين أيضاً، وبالذين تفوّهوا بكلمة أسيء فهمها سياسياً، أو عبّرت عن مجّرد التململ والشكوى من قسوة الظروف المعيشية! وكانت البيروقراطية الأمنية وغير الأمنية، المتبلّدة الإحساس والعديمة الوجدان، تصبّ الزيت على النار، وتعالج المشاكل المستجدة بطرائقها التي تحقق ذاتها المتضخمة بالدرجة الأولى! وللأسف الشديد فإن هذا ما يمكن توقّعه دائماً في ظل نظام مفرط في مركزيته، يتمحور حول الفرد بغض النظر عن فضائله الشخصية، ففي ظل هكذا نظام، وتلقائيا،ً يغدو المجتمع أعزلاً وفريسة سهلة لأجهزة لا تعقل ولا ترحم، بينما إنجازاته الكبرى وآماله العريضة تتعرّض لخطر الانهيار والضياع بلا مقاومة!

 ولعل من الطرائف السوداء أنه، بينما دولة الوحدة تتعثّر وتتقهقر، كانت الأناشيد الثورية الوحدوية تتكاثر وتتعالى، فكأنما هي كافية وحدها لتغطية النواقص الفادحة وأوّلها غياب الفعالية الجماهيرية غير الاستعراضية! لقد كانت تلك الأناشيد رائعة حقاً، ونحن مازلنا نحفظ كلماتها ونحبّ الاستماع إليها حتى يومنا هذا، غير أنها بدت في حينه للكثيرين مدعاة للسخرية والمرارة، حيث المفترض أن تنطلق الأناشيد من تلقاء ذاتها تمجيداً وتتويجاً للنجاحات والإنجازات الوحدوية المادية والمعنوية، بينما أجهزة النظام هي من كانت تصنع تلك الأناشيد وليس الجماهير(خاصة في ما يتعلّق بسورية التي تقهقرت أوضاعها عموماً) وهكذا ضاعت دولة الوحدة وبقيت للسوريين خصوصاً أناشيدها فقط، تتردّد أصداؤها المؤثّرة في الفراغ الموحش!

وعلى ذكر الأناشيد الثورية الوحدوية، ولإعطاء مثال عن التحولات الكوميدية السوداء، فإن ما لا يمكن نسيانه تلك المعاناة النموذجية التي عبّر عنها الشاعر السوري البعثي سليمان العيسى، صاحب النشيد الثوري المتميّز الذي طالما صدحت به إذاعة صوت العرب: "من المحيط الهادر/ إلى الخليج الثائر/ لبيك عبد الناصر/ اخفقي يا أرض باللهب/ وأشرقي يا دولة العرب/ من المحيط الهادر/ إلى الخليج الثائر/ رايات عبد الناصر.. الخ"! ولكن بعد عامين، أقلّ أو أكثر، انقلب هذا الشاعر رأساً على عقب، وإذا به ينظم قصيدة مختلفة، صارت توزّع بخطّ اليدّ مثل منشور سّري: "وطلعت في شرفاتك العليا إلهاً أوحدا/ ووقفت فالأبصار عالقة لترقب مشهدا/ يزهو الصديق به ويملأ بالأسى قلب العدا/ ما كان أروع ساعديك على الحبال وأجملك/ اسلم لجمهور العطاش الضائعين على الحواشي/ أما أنا فأسرّه نبأ ولو هو زلزلك/ في الحشد بعض الناظرين سمعتهم يرثون لك/ فرثيت للحشد الذي بين الجوانح أنزلك/ ورثيت إعجابي الذي قطف النجوم وكلّلك/ ورثيت لك/ يا رائع الوثبات باسم الخائبين رثيت لك.. الخ"!

 

* مناخ ملائم لتوالد التنظيمات السرية!

في السنة الثانية من العمر القصير لدولة الوحدة انطلقت المبادرات السرّية شبه التنظيمية، المتفرّقة والمرتجلة غالباً، من قبل أولئك البعثيين الأكثر شباباً وحيوية وجرأة، فكانت تلك المبادرات في حقيقتها مجرّد معالجة تلقائية لحالة الفراغ والغموض والاستفزاز السائدة التي صاروا يعانون منها! ولقد حدث ذلك من دون الرجوع إلى قيادات حزبية عليا لأنّ مثل هذه القيادات لم يعد لها وجود شرعي، إضافة إلى أنّ أعضاءها كانوا يلازمون بيوتهم تحت الحصار الأمني والمراقبة المكشوفة، خاصة بعد أن استقال قادة البعث من مناصبهم الرسمية، أو أرغموا على الاستقالة بطريقة أو بأخرى، وأولهم أكرم الحوراني نائب رئيس الجمهورية العربية المتحدة!

كانت المعاناة من الضغط الأمني، ومن الفراغ والوحشة، دافعاً ملحّاً لتحقيق قدر من التواصل السياسي ولو في أشكاله الأولية البسيطة، من دون برنامج ومن دون مواقف، حيث السوريون عموماً لم يعتادوا الفراغ السياسي، فاقتصرت تلك المبادرات على توفير ما يشبه التنظيمات كملاذات تبدّد شيئاً من تلك الخيبة والوحشة ومن ذلك الأسى، وتخفّف من وقع صدمة التحوّلات السريعة في الأوضاع إلى نقيضها! وإنّه لمن المذهل حقّاً أنّ الرئيس عبد الناصر لم يأخذ مثل هذه الظواهر الخطيرة المستجدّة بعين التفهّم والاعتبار، بل فعل العكس، فقواعد البعث وجماهيره  كانت القوى الأساسية الهامة التي تناصره، بل التي كادت تكون قواعده الناصرية في سورية، فإذا كانت علاقاته مقطوعة وسلبية مع الشعبيين، والوطنيين، والإخوان المسلمين، والقوميين السوريين، والشيوعيين وغيرهم، فمن يبقى له في سورية عندما  يقف في اللاذقية خطيباً، في الذكرى الثانية أو الثالثة لقيام الوحدة، ويهدّد علناً أنّ الشعب سوف يدوس البعثيين أو يدوس قياداتهم (بالجزم!) بالأقدام أو بالأحذية؟! لقد كان موقفاً غريباً مذهلاً وشديد الضرر حقاً! وبالطبع كان الصحيح هو العمل على استرداد القوى السورية جميعها إن أمكن إلى صفوف الوحدة وليس القطع البات مع من بقي منها، خاصة الشركاء في تحقيقها، ولا بدّ أنّ الرئيس في الموقع العظيم الذي يحتلّه كان مؤهّلاً لذلك وقادراً على ذلك، وبالمقابل فإنّ أحدا من جميع الأحزاب بلا استثناء،ً على الأغلب، ما كان ليرفض الاستجابة لدعوته وترتيب علاقات طيّبة معه ولو في الحدّ الأدنى، إنّما في نطاق الكرامة! وبصدد خطاب اللاذقية أذكر وضعي شخصيّاً على سبيل المثال، فقد سمعته في مدينتي حماة، وأنا في مقتبل العمر فتى بعثياً ناصرياً أو العكس، وقد تغيّرت في تلك اللحظة بالضبط تغيّراً مؤلماً معذّباً بعد أن استمعت مصعوقاً إلى تهديد الرئيس! لقد كنت فخوراً بالوحدة وبرئيسها بالدرجة الأولى، لكني كنت فخوراً أيضاً بنائبه الأستاذ أكرم الحوراني الذي تأثّر وعينا منذ الطفولة بحضوره الاجتماعي والسياسي الهام في حماة خصوصاً وفي سورية عموماً ، ولقد كان ممكناً أن لا تنال من انحيازي للرئيس عبد الناصر استقالة الحوراني ورفاقه من مناصبهم، لكنّ خطاب اللاذقية كان مؤلماً وأثره السلبي كان قويّاً جدّاً! وعندما زار الرئيس مدينة حماة بعد خطابه في اللاذقية استقبلته المدينة استقبالاً شعبياً محدوداً جدا ًمن حيث الحجم والحرارة قياساً بالاستقبالات السابقة الهائلة، الأمر الذي زاد في  اضطرابي وتشوّشي! لقد شاهدت بأمّ عيني ذلك الاستقبال الفاتر المحدود للقائد العربي الكبير، بل وأتيحت لي بسهولة فرصة التمعّن في وجه الرئيس الشاحب، من على بعد حوالي خمس خطوات، عندما مرّ من أمامنا في شارع القوتلي، وقد وقف في السيارة المكشوفة يلوّح بفتور لأعداد قليلة من الناس تصفّق له على جانبي الشارع! لكنني بقيت بعد ذلك وحدوياً لحسن حظي، إنّما ليس كما ينبغي أن أكون حينئذ كمواطن في دولة الوحدة التي أنتمي إليها بإيمان وحماسة!

 بالإجمال، فإن تلك المواقف السياسية والممارسات الميدانية الغريبة، خاصة الدعائية أو الإعلامية مضافاً إليها ممارسات الاستخبارات أو المباحث كما كانت تسمّى، لم تكن في صالح الجمهورية العربية المتحدة على الإطلاق! وقد بدا حينئذ، لسوء الحظّ، كأنّما قيادة دولة الوحدة تراهن بالضبط على السّديم الشعبي الاستعراضي الخلّبي، المجرّد من مؤسّساته القيادية الميدانية الحرّة، والذي تسمع ضجيجه ولا ترى طحينه! وبذلك تكون قيادة الوحدة قد ساهمت بالتأكيد في تسهيل مهمة المتآمرين ضدّها وضدّ الوحدة! وإنّه لمن المذهل ، الذي يصعب فهمه، أنّ قائداً كبيراً عظيما محبوباًً، يحظى بتأييد ونصرة بل طاعة عشرات الملايين، لا يطيق رأياً مختلفاً أو موقفاً مخالفاً، لا من خصم تقليدي ولا من رفيق وحليف سابق أو مستمرّ، فيعمل على تشويهه تماما،ّ وعلى إقصائه أو استئصاله جذريا،ً حتى لو كان مجرّداً من أيّة قوة مادية تستحق الذكر! فإذا تجاوزنا مواقفه من الأعداء والخصوم التقليديين، كالملك فاروق والنحاس باشا مثلاً، على قسوتها المفرطة وتجنّيها الدعائي الفظّ والظالم على الحقائقً، فكيف نفهم مواقفه من الرئيس محمد نجيب وأمثاله من رفاقه، ومواقفه من الإخوان المسلمين والشيوعيين والبعثيين عموماً، التي اتسمت جميعها بالنزعة الاستئصالية، وبنفي أيّة ميزة إيجابية حتى عن القواعد العريضة الشعبية لهذه القوى بمجملها وليس عن قياداتها فحسب، وبالتحريض الإعلامي ضدّها بلا أدنى شفقة أو رحمة أو هوادة، بالحقّ وبالباطل لا فرق، وبحيث تغدو تصفيتها عملية مقبولة من الرأي العام إن لم تكن مرحّب بها! ترى، ألم تكن ثمّة طريقة إنسانية أخلاقية للتعامل مع الذين يخالفون الرئيس أو يختلفون معه من دون أن يتآمروا ضدّه وضدّ نظامه؟ هل يجوز التشهير بهم وتجريدهم من كل فضيلة على رؤوس الأشهاد في الصحف والإذاعات الحكومية بينما هم عزّل من أيّ حقّ أو أداة للدفاع عن أنفسهم؟ وإذا كان لا بدّ من التصدي المفهوم لهم، فلماذا لم يقتصر تناولهم بالنقد الشديد على حدود القضايا المختلف حولها تحديداً، ولم يحافظ على علاقات لائقة معهم ولو في الحدّ الأدنى؟ هل كان من الحكمة تنظيم حملات الكراهية والاحتقار والحقد على أوسع نطاق ضدّ البعثيين والشيوعيين والإخوان المسلمين عموماً بتلك الطريقة الجائرة وإلى الحدّ الرهيب الذي بلغته، حيث اشترك فيها كبار وصغار الصحفيين ومعهم الملحّنين والمطربين، وبلغت حدّ التشهير تلفيقاً بخصوصيات قادتهم، والسخرية من .. طريقة كلامهم مثلاً؟ تخيّلوا المطرب محرّم فؤاد ، مع الموسيقى والكورس، وهو يغنّي مقلّداً طريقة الأستاذ ميشيل عفلق في الكلام! هل هذا معقول حتى ولو في الهجوم على الأعداء الأجانب؟!

 

* أكرم الحوراني والوجه الآخر للمأساة!

لكنّ أغرب ما في الأمر، وما زاد الوضع العام سوءاّ واضطراباً، أنّ الأستاذ أكرم الحوراني خرج عن طوره تماماً، وراح يتعامل مع القضية التاريخية العظمى بطريقة الشاعر سليمان العيسى! أي بالخيبة والغضب والحقد على قيادة الجمهورية العربية المتحدة وممارساتها، مهملاً التجربة التاريخية الوحدوية المصيرية التي يفترض أن تكون شغله الرئيسي الشاغل مهما كانت ممارسات الأجهزة ومهما بلغت معاناته منها، فهو أحد القادة الثلاثة الكبار لحزب البعث العربي الاشتراكي، وهو كان من أشدّ المتحمّسين لتحقيق الوحدة، فإذا كان قد تطلّع إلى تحقيقها تدريجياً حرصاً على الحياة البرلمانية الديمقراطية في سورية فإنّه لم يعترض، أو ينسحب بصمت وهدوء وبالتراضي، عندما تحوّلت إلى وحدة فورية اندماجية بصلاحيات واسعة لرئيسها، وعندما ألغي سلفاً كلّ هامش ديمقراطي يستحقّ الذكر، بل قبل منصب نائب رئيس الجمهورية، مع الإشارة مرّة أخرى إلى أنّ الرئيس عبد الناصر كان بدوره في البدايات مع التقدّم المتدرّج على طريق الوحدة! أمّا إذا كان قبول الحوراني لمنصب نائب الرئيس انسجاماً مع التوجّه الجماهيري الوحدوي الاندماجي الكاسح، بغضّ النظر عن قناعته ومخاوفه، فإنّ المفترض والمتوقّع منه، سواء بقي في منصبه أم غادره، هو بلورة وإعداد تفسير علمي موضوعي لظاهرة اندفاع الشعب السوري بكل ذلك الزّخم وراء الرئيس عبد الناصر، لا إدارة الظهر لتلك الظاهرة وتجاهلها إلى حدّ كبير جدا كما حدث، فقد أهمل الحوراني مدلولات ذلك الاندفاع الجماهيري، ولم يأخذه في الحسبان كما يجب سواء في تصريحاته وخطاباته أثناء عهد الانفصال أم في مذكّراته العظيمة الأهمية، التي صدرت بعد عقود طويلة، في أواخر التسعينات، وتضمّنت أدقّ التفاصيل عن الأحداث التاريخية التي عاشها وساهم في صنعها!

لقد انخرط أكرم الحوراني بكلّ ثقله في الحياة البرلمانية الديمقراطية المترنّحة لعهد الانفصال بالدرجة الأولى بدلاً من الانخراط في معالجة المآل المأساوي لتجربة الوحدة بالدرجة الأولى! ومع الأخذ بالاعتبار مواقفه النقدية من نظام الانفصال سياسياً واجتماعياً فقد ظهر بوضوح حرصه على نجاح هذا النظام، وذلك بعودته إلى ما كان عليه حاله قبل الوحدة، أكثر من حرصه على معالجة ما آلت إليه تجربة الوحدة، بل قضية الوحدة المصيرية التاريخية! ومنذ ذلك التاريخ وحتى نهاية حياته، التي قضى معظم ما تبقى منها في المنافي خارج سورية، ظلّ هاجسه الأكبر هو العودة بسورية إلى الحياة البرلمانية الحزبية الديمقراطية قبل أيّ اعتبار آخر، غير أنّ مثل هذه العودة إلى الماضي تحوّلت إلى مجرّد حلم بمستقبل لن يتحقق، سواء أكان محقّاً في حلمه أم غير محقّ، وسواء أكانت انتقاداته واتهاماته لما هو قائم صحيحة أم غير صحيحة!

بل أكثر من ذلك، فقد دفع الحنين إلى الماضي الأستاذ الحوراني إلى التصالح في اللاشعور مع خصومه القدامى الألدّاء الذين شاركوه تلك الحياة العامة البرلمانية الديمقراطية، فبدا كأنّما غفر لهم ما ارتكبوه ضدّه وضدّ المجتمع والوطن! لقد سامحهم إلى حدّ كبير كما ظهر في مذكّراته، فأبدى تفهّماً لماضيهم وتعاطفاّ مع حاضرهم حتى وإن كانوا من كبار الإقطاعيين السابقين الذين خاض ضدّهم وخاضوا ضدّه أشرس المعارك! أمّا قادة مصر في عهد عبد الناصر وقادة سورية في عهد البعث فلن يجدوا عنده أيّ عذر أو تفهّم، ولا ذرّة واحدة من تعاطف في جميع الأحوال والمراحل، بل الإدانة القاطعة دائماً وأبداً، والتي غالباّ ما بلغت حدّ الاتهام بالخيانة العظمى للعهد بكامله وليس لفرد بعينه!

غير أنّ الإنصاف يقتضي تفهّم أخطاء تلك الشخصيات الكبيرة، من أمثال الحوراني، التي حافظت على طهارتها الوطنية والمادية حتى النهاية، فلم تضع يدها أبداً في أيدي أعداء الوطن الأجانب ولم تعتدي أبداً على حقوق الناس وحرماتهم وعلى المال العام، والإنصاف يكون بعدم تسطيح تاريخها وسحب مرحلة منه على المراحل جميعها، بل الإقرار بإنجازاتها التاريخية الجليلة في مرحلة ما  بغضّ النظر عن أخطائها الكبيرة في مرحلة أخرى، وتفهّم وضعها بعد أن أخرجت من دائرة الفعل العام، وصارت تعاني أشدّ المعاناة من حالة العزل والحصار والعطالة الإجبارية المفتوحة، التي ستجعل موقفها الوجداني يستقرّ شيئاً فشيئاً متكاملاً لا يتجزّأ من ذاك العهد وهذا العهد، وسوف تجعله متعاطفاً بالكامل مع ذاك العهد بمجمله ومتخاصماً بالكامل مع هذا العهد بمجمله!

 إنّ الشخصيات الكبيرة التي خسرت مواقعها المرموقة التي انتزعتها ميدانياً عبر معارك طويلة، ثم وجدت نفسها فجأة خارج دوائر الفعل العام بحقّ أو بدون حقّ، سوف تتعامل مع عهدها الماضي ومع العهد الحاضر الذي تخطّاها مثلما تتعامل مع كائن حيّ محدّد، أي بجميع مكوّناته وأطرافه، وهذا مفهوم، حيث العهد أيّ عهد لا ينهض إلاّ بجميع أطرافه المتآلفة والمتناحرة، وهكذا تأخذ رؤيتها للعهد الذي كانت طرفاً فيه شكل صور حيّة لذكريات هامّة تستعرضها وتستعذبها عموماّ، بما فيها صور وذكريات خصومها الألدّاء وخصوماتها المريرة معهم! إنّها تستحضر بحنين وتعاطف إجمالي جميع أطراف عهدها الماضي، من والاها ومن خاصمها، باعتبارهم شكّلوا معها جسماً واحداً، أمّا العهد الحاضر الذي تجاوزها وألغاها، أو شطبها، فإنّه بمجمله لا يستحقّ سوى لومها ونبذها وإدانتها!   

 

* انطلاقة اللجنة العسكرية البعثية الثانية! 

 وهكذا، للأسف الشديد، ما كان لتلك الاضطرابات الخطيرة في دولة الوحدة إلاّ أن تحدث، وما كان لتلك المبادرات السرّية التنظيمية وشبه التنظيمية، البعثية وغير البعثية، إلاّ أن تتوالد في مثل تلك الظروف والشروط، وأن تؤسس لتيارات حزبية سوف تغدو علنيّة في عهد الانفصال وبعده، وسوف تغطّي لاحقاً الميدان السياسي ، وترفع رايات مختلفة، يحسب بعضها على الانفصال، ويحسب بعضها الآخر على الناصرية، والثالث على البعث..الخ! أمّا ما سوف يغدو شديد الغرابة فهو أنّ حزب البعث سوف يكون بعد الانفصال المنتج الأول لأشهر الأحزاب الناصرية المستمرّة منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا وهي ظاهرة تستحق التوقف والدراسة في حدّ ذاتها، ودلالتها إيجابية لصالح حزب البعث بغضّ النظر عن المماحكات في التفاصيل!

 إنّ أهمّ المبادرات التنظيمية السرّية التي بدأت تتشكّل منذ العام الثاني لقيام الوحدة هي تلك التشكيلة البعثية التي ولدت في القاهرة عام 1959 تحت اسم "اللجنة العسكرية"! فقد تداعى عدد من الضباط البعثيين المتواجدين في مصر لتشكيل تنظيم عسكري يملأ الفراغ السياسي الخاص بهم، ويؤهّلهم لمواجهة ما يخبّئه التعثّر والفراغ والغموض من مفاجآت وأخطار عامة باتوا يعتقدون أنّها قادمة لا محالة، وكذلك لمواجهة ضغط أجهزة الاستخبارات المفسدة المبدّدة للأفراد والجماعات، التي تهدّد أخلاقهم وقناعاتهم وتماسكهم الطبيعي كأفراد وكجماعة سابقة، وهم كانوا محقّين، على الأقلّ، في مخاوفهم هذه المتعلّقة بأذى أجهزة المخابرات! وقد تشكّلت تلك اللجنة العسكرية البعثية الأولى (عام 1959) على النحو التالي: 1 -العقيد بشير صادق 2 - الرائد مزيد هنيدي 3 - الرائد محمد عمران 4 - الرائد ممدوح شاغوري 5-الرائد الطيار عبد الغني عياش!

لقد كان العقيد بشير صادق رئيس اللجنة، الدمشقي من حيّ الميدان، أحد أعضاء وفد قادة الجيش السوري إلى القاهرة لوضع أسس اتفاقية الوحدة الفورية الاندماجية مع عبد الناصر (في كانون الثاني/ يناير 1958) فكيف حدث وتحوّل هذا الرجل ورفاقه من حال إلى حال خلال عام واحد، أقلّ قليلاً أو أكثر قليلاً؟ إنّ أحداً لم يأبه ولم يسأل، لا في حينه ولا فيما بعد ويا للعجب، وما كان لهؤلاء وأمثالهم أن يجدوا أيّ تفهّم أو عذر! وها هي تلك اللجنة تسلك منذ البداية الطريق التي تسلكها غالباً تنظيمات العسكريين السرّية، من حيث أساليب الاتصال والتنظيم المعفيّة من الرجوع إلى قيادة سياسية مدنية أعلى! لكنها تميّزت باقتصار نشاطها على البعثيين ومؤيديهم فقط، فقد كانوا رفاقاً تجمعهم علاقات حميمة قديمة سياسية واجتماعية وأسرية، وما دفعهم إلى التنظيم، للوهلة الأولى وبالدرجة الأولى، خوفهم من التشتت والضياع والإفساد الاستخباراتي! وكان الضباط السوريون عموما قدً وجدوا أنفسهم في مصر شبه مهملين كأنما عن عمد، وشبه مبعدين كأنما عن عمد أيضاً، يعانون من البطالة والرقابة الأمنية، مثلهم مثل الوزراء السوريين في الحكومة المركزية في القاهرة! ولعل ذلك لم يكن مقصوداً ضدّهم تحديداً، بل هي طبيعة النظام يعاني منها المصري والسوري، غير أنهم عموماً اعتبروها تقصّداً لهم، وعانوا منها أكثر من إخوانهم المصريين، ولعلّهم كانوا على حق في تقديراتهم، فقادهم ذلك إلى العمل السرّي!

وحدث أن تشتّت شمل تلك اللجنة العسكرية البعثية الأولى قبل أن تمضي طويلاً وقدماً في نشاطها، ربّما بالصدفة وربّما للاشتباه في أمرها، حيث جرى تعيين أربعة من أعضائها كملحقين في سفارات الجمهورية العربية المتحدة في الخارج، وأولهم العقيد بشير صادق الذي عيّن في بكين! غير أنّ عضواً لم تشمله تلك التعيينات هو الرائد محمد عمران، الذي ترقّى حينئذ إلى رتبة مقدّم، وسرعان ما تشكّلت لجنة ثانية بديلة من: 1-المقدم محمد عمران 2 - الرائد صلاح جديد 3 - الرائد عبد الكريم الجندي 4 - الرائد أحمد الأمير (أحمد المير محمود) 5 - الرائد عثمان كنعان 6 - الرائد الجوّي منير جيرودي 7 - النقيب الطيار حافظ الأسد!

لقد كانت اللجنة الثانية استمراراً للأولى، حيث العقيد صادق كان يتصل بأعضائها أثناء زيارته للقاهرة ويتشاور معهم، الأمر الذي يعني أنها تشكلت بمعرفته إن لم يكن بتوجيه منه قبل سفره، إضافة إلى أن هناك ما يشير للتواصل مابين أعضاء اللجنة الأولى واللجنة الثانية بعد انقلاب آذار/ مارس 1963الذي قادته الثانية! وسبب التأكيد هنا على تلك الصلة وذاك التواصل أنّ العمل السياسي تلوّث في ما بعد بالتوصيفات والتصنيفات الطائفية والمناطقية والعشائرية وما إلى ذلك ويا للعار، خاصة في الخصومات السياسية الكيدية المريرة مع اللجنة العسكرية الثانية الحاكمة في سورية باسم البعث، التي اعتبر خصومها تشكيلها مريباً من أساسه، بتركيبتها الريفية والمذهبية، مع التجاهل التام المتعمّد والخبيث لوجود اللجنة العسكرية الأولى بتركيبتها المعاكسة! لكنّ الوقائع تؤكّد أن تشكيل اللجنة العسكرية الأولى والثانية كان تلقائياً، انطلق من أسس ومعايير سياسية محضة، وطنية وقومية، إضافة إلى معيار عسكري واضح يتعلق بتمثيل مختلف أسلحة الجيش، حيث تمثلت في اللجنة الثانية، بالتساوي تقريباً، أسلحة المدفعية والدبابات والقوى الجوية، والأهمّ أنّنا لو دققنا في تشكيلة اللجنة الأولى ثم الثانية، من حيث أصول أعضائها من المدن أو الأرياف ومن هذه الطائفة أو تلك، فلسوف يستحيل علينا القبول بأنه كان ثمة انتقاء على أساس مديني أو ريفي أو طائفي، حيث اللجنة الأولى مدينيّة في معظمها واللجنة الثانية ريفية في معظمها، مما يؤكد أن الاعتبارات كانت سياسية وموضوعية، وأن الظروف المتعلقة بتطوّر بنية الجيش، خاصة الضباط، هي ما يفسّر التطور الذي طرأ على بنية اللجنة الثانية! ولسوف يبرهن توسيع اللجنة، والتغيير في بنيتها لصالح أبناء المدن في العهد الأول من حكم البعث، أن ما نذهب إليه هو الحقيقة، وأن الاعتبارات كانت سياسية ووطنية وقومية!

لقد انطلقت اللجنة العسكرية البعثية الثانية تتصل بأي من الشخصيات السياسية الوحدوية، وفي مقدمتهم قادة البعث السابقين، إنما بصفاتهم الشخصية وليس الحزبية، أما جهدها الرئيس فقد انصب على تشكيل التنظيم العسكري، فهي كانت قيادة سياسية/ عسكرية، بلا مرجعية مدنية ملزمة أعلى، مثلما كان مثلاً سلوك تنظيم الضباط الأحرار المصريين قبل ثورتهم تجاه الأحزاب المدنية الصديقة، بل إنّ مستقبلها ومصيرها جماعة وأفراداً سوف يكون مشابهاً لمستقبل ومصير الضباط الأحرار المصريين في علاقاتهم الداخلية وفي مصائرهم المأساوية! ولعلّها مصادفة مثيرة للاهتمام أن ينتهي ما تبقّى من الدور التاريخي لكلا التنظيمين العسكريين المصري والسوري في أواخر العام1970 مفسحاً المجال لأوضاع جديدة كلّ الجدّة في كلا القطرين الشقيقين! وهكذا، فإنّ ما يجب أن يكون مفهوماً بداهة في حالة كهذه، وفي ظروف كتلك الظروف، أن التنظيم، سواء أكان عسكرياً أم مدنياً أم مختلطاً، سوف يضع نصب عينيه إن عاجلاً أو آجلاً هدف التأثير في السلطات الحاكمة، بمشاركتها أو معارضتها، أو الإطاحة بها والحلول محلها دستورياً أو انقلابياً! إنه لمن الطبيعي أن يفكّر على هذا النحو أعضاء أي تنظيم ، وإلا فما الذي يريدونه من وراء المخاطرة بإقامة تشكيلاتهم ووضع برامجهم سراً؟ وبالتالي فإنه لمن المفترض بداهة أن تلك اللجنة العسكرية صارت، منذ نهضت، مشروع هيئة سياسية في مستوى قيادة ثورة أو دولة، منفردة أو شريكة، ولابدّ أن أعضاءها قد انتقلوا ذهنياً ونفسياً، منذ البداية، إلى مناخ قيادة سياسية عليا، وصاروا كذلك سواء وصلوا في ما بعد إلى السلطة أم لم يصلوا، وسواء اتفقنا معهم وأعجبنا بهم أم لم نتفق معهم ولم يعجبونا، ولا بدّ أنّ بعضهم كانت له منذ البداية حساباته المستقبلية الشخصية التي قد تعجبنا وقد لا تعجبنا! أما عن دولة الوحدة فنحن لا ندري بالطبع ما الذي كانت اللجنة العسكرية البعثية ستفعله لو أن دولة الوحدة استمرّت بالصورة المهزوزة التي كانت عليها لسنوات أطول بكثير من عمرها القصير! ترى هل كانت ستحاول إصلاح نظام الوحدة من داخله، وكيف؟ هل كانت ستتمرّد ضدّ أخطاء قيادة الوحدة وانحرافاتها من دون أن يؤدي ذلك إلى الانفصال، وكيف؟ وإذا كانت اللجنة العسكرية قد تشكّلت لحماية الوحدة وليس ضدّها، رغم ما لمجرّد تشكيلها من دلالات خطيرة بمعايير أمن الدولة، فهل يعني ذلك أنّ اللجنة كانت على شبه يقين من وقوع الانقلاب الانفصالي لا محالة وقريباً جدّاً؟ وأنّ الوظيفة التاريخية لتشكيلتها هي إسقاط نظام الانفصال والعودة إلى دولة الوحدة بعد تصحيح أخطائها والتخلّص من انحرافاتها؟ لا ندري!

 غير أنّ ما حدث هو قيام القوى المعادية أصلاً للوحدة بانقلاب الانفصال(28/9/1961) وهو الحدث الذي حرّر اللجنة العسكرية من المأزق الخطيرالذي افترضناه نحن، وفتح لها آفاقاً واسعة للعمل ضدّ نظام الانفصال وليس ضدّ نظام الجمهورية العربية المتحدة في مرحلتها الأولى التي ضمّت القطرين الشقيقين! أما المراحل التالية بعد سقوط عهد الانفصال، حيث واصلت مصر لوحدها حمل اسم الجمهورية العربية المتحدة، فإنّها أوضاع أخرى لها أحاديث أخرى!

 

Hosted by www.Geocities.ws

1