ضرورة ترتيب مكونات المشهد العراقي!

بقلم: نصر شمالي

يحاول الإعلام الدولي اختزال الأحداث البشرية العظمى إلى مجرد صور فوتوغرافية تلفزيونية، مرفقاً بكل صورة تعليقاً مقتضباً منفصلاً عما قبله وعما حوله وعما بعده، فلا مقدمات تمهيدية ولا وقائع معاشة ولا نتائج متوقعة! أما الهدف فهو تعطيل الذاكرة البشرية وتحييد القوى الاجتماعية، وذلك بإخراج الحدث العظيم من سياقه التاريخي، فلا مجتمعات ولا أوطان، ولا سياسة ولا اقتصاد، ولا ظالم ولامظلوم، بل واقعة منفصلة تشبه حادث سير مروّع أودى بحافلة ركاب نتيجة خطأ من السائق أو خلل في المركبة أو عطل في الطريق.. الخ! إن من يتابع أجهزة الدعاية الأميركية في تغطيتها لأخبار فلسطين والعراق يرى بوضوح هذه المحاولات المستهترة، الفظة والمروّعة، لكنه سوف يصاب بالغثيان عندما يتابع إعلام الأقطار المنكوبة بالعدوان الأميركي الصهيوني وهو يجاري المعتدين في تقديم الصورة والتعليق بالطريقة الأميركية الصهيونية ذاتها!

انفلات أمني أم مقاومة شعبية؟

لقد لخصوا قضية العراق، مثل قضية فلسطين، في ما صوروه مشكلة "انفلات أمني" سبّبه "الإرهابيون" المسلحون الذين يحولون دون الانطلاق في عمليات إعادة الإعمار في العراق، وفي تنفيذ خطة خارطة الطريق في فلسطين! فإذا تحدثنا عن العراق حصراً، فإن مأساته تتلخص في المقاومة المسلحة التي يتوجب استئصالها لا أكثر ولا أقل، أما الاحتلال الأميركي فقد جاء لمساعدة العراق بتخليصه من الاستبداد، وإعطائه الديمقراطية، وإعادة إعماره، لا أكثر ولا أقل أيضاً! ليست هناك أية إشارة إلى الاستيلاء على نفط العراق كهدف رئيسي للاحتلال، ولا إشارة إلى النوايا الأميركية في تشكيل حكومة وقوات محلية تابعة ومطيعة، ولا إشارة إلى القواعد العسكرية الأميركية الثابتة ومهماتها التي تشمل ما بين المحيطين الأطلسي والهادي، بل التركيز كله على أولئك الخارجين على القانون الذين يرتكبون الجرائم اليومية بإمرة أشخاص محددين سوف تنتهي المشكلة بإلقاء القبض عليهم أو قتلهم!

إجمال تطورات الحرب ضدّ العراق!

لقد بدأت الحرب ضدّ العراق منذ مطلع العام 1991، أما الهدف فهو الاستيلاء على نفطه الذي يشكل الاحتياطي العالمي الثاني بعد السعودية، والمرشح أن يكون الأول، وأن يتكشف عن أكثر من 300 مليار برميل، ولم تكن لنوعية الحكم في العراق، استبدادي أم ديمقراطي، أية أهمية أو تأثير على اتخاذ قرار احتلاله منذ ذلك التاريخ، فالسيطرة المباشرة على العراق وعلى نفطه تشكل إحدى أهم الحلقات في عملية السيطرة على العالم أجمع على مدى القرن الواحد والعشرين، وبما أن الأميركيين يدركون جيداً أن العراق الثائر، مؤسس منظمة الأوبيك منذ عام 1960، ليس باللقمة السائغة التي يمكن التهامها بسهولة، فقد لجأوا إلى الحصار الطويل، السياسي والاقتصادي والعسكري، مترافقاً مع العمليات الحربية الضخمة من حين لآخر، وقد استمر الحصار المحكم واستمرت العمليات الحربية الشاملة منذ عام 1991 وحتى عام 2003، أي حتى الاحتلال الشامل المباشر الذي توقعوا له أن يكون ذروة الحرب ونهايتها، فقد هلك مئات ألوف العراقيين بسبب الحصار الحربي الطويل، واعتقد الأميركيون أن العراق صار جاهزاً للإنصياع التام من دون أي شرط، وأن الشعب العراقي سوف يرحب بهم كمنقذين من الاستبداد ومن الموت جوعاً ومرضاً، وكان يمكن للاحتلال المباشر أن يبدأ في عهد بوش الأب، أو في عهد كلينتون المكرر، غير أنهم كانوا يتردّدون ويؤجلون نتيجة معرفتهم بجبروت الشعب العراقي وقدرته الفائقة على الاحتمال، وكيف لا وقد اتخذ العراق المحاصر (في عام 2000) قراره ببيع نفطه باليورو الأوروبي بدلاً من الدولار الأميركي، الأمر الذي جعل على الفور دولاً عديدة، بما فيها دول الأوبيك، تفكر وتبادر في الاتجاه نفسه؟! لقد أصاب الذعر واشنطن بسبب ذلك القرار الذي يعني في حال شيوعه بداية انقلاب موازين القوى الدولية رأساً على عقب في غير صالحها!

حساب الحقل وحساب البيدر!

لقد اعتقد الأميركيون في مطلع عام 2003 أن الحصار الطويل المبيد نجح في إنجاز ثلاثة أرباع العمليات العسكرية القتالية اللازمة للسيطرة على العراق، وأن مسألة احتلاله مباشرة والانطلاق منه في وضع يدهم على مجمل المنطقة الشاسعة المسماة بالشرق الأوسط الكبير قد حسمت، وأنهم لن يصطدموا بأية مقاومة فعالة لا في العراق ولا في شرقه ولا في غربه، وأن قواعدهم في أفغانستان والعراق وفلسطين سوف تقضي سلفاً على كل أمل بالمقاومة، غير أن المفاجأة المذهلة التي لم يتوقعوها بتلك السرعة وبذلك الحجم كانت المقاومة العراقية التي انطلقت فعالة منذ الأيام الأولى للاحتلال، وإذا بهم في مأزق حقيقي لم يعدّوا أنفسهم له، وسرعان ما اختفت التصريحات الواثقة وبدأ الحديث القلق عن ورطة فيتنامية جديدة، وقد اعترف الرئيس الأميركي بالمأزق الخطير حين صرح للإذاعة البريطانية، بعد أشهر من الاحتلال، أن الولايات المتحدة لن تغادر العراق قبل الأوان رغم كثافة الهجمات ضدّ قواتها، وأن على العراقيين أن يعرفوا أنها لن تسارع بالرحيل، مع أن الوضع صعب بالتأكيد!

اللجوء إلى العمليات القذرة!

في مطلع خريف 2003، بعد أشهر فقط من الاحتلال، بدأ الأميركيون بمراجعة سريعة وشاملة لأوضاعهم العسكرية في العراق، وصرح أحدهم أن الطريقة الوحيدة للانتصار هي اتباع وسائل غير تقليدية:" يجب أن نلعب لعبتهم.. رجال عصابات ضد رجال عصابات.. هذه القوات التقليدية الكبيرة أهداف سهلة، وما نفعله لا جدوى منه، فلماذا لا نرسل فرق قناصين لقتلهم؟"! وهكذا تقرر، منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2003 اللجوء إلى ما يسمى برنامج فينكس الذي نفذته الوحدات الأميركية الخاصة في فيتنام خلال الأعوام 1968-1972، والذي يعتمد الاعتقال والقتل على أوسع نطاق لكل من يشك في مجرّد تعاطفه مع المقاومة! غير أن برنامج فينكس لا يطبق من دون قوات محلية تقوم بدور الدليل، وحكومة محلية تقود شكلياً وظاهرياً مثل هذه القوات، وهكذا بدأت عمليات التفكير في إعداد القوات المحلية والحكومة المحلية في العراق، وفي الوقت نفسه بدأت الوحدات الأميركية الخاصة عملياتها الرهيبة الواسعة النطاق التي كنا نتابعها في صور المداهمات الليلية للبيوت، إضافة إلى الاستعانة بأكثر من عشرين ألفاً من المرتزقة القتلة، من الأميركيين خصوصاً ومن مختلف الجنسيات عموماً، غير أن الأميركيين فوجئوا مرة أخرى، إلى درجة الذهول والتقهقر، بصمود مدينة الفلوجة البطلة، ثم بدأت مدن العراق الأخرى تسير على نهج الفلوجة لتبلغ ذروتها في النجف كما رأينا في هذه الأيام!

أمام هذه الوقائع العظمى من الذي يصدّق أن المشكلة في العراق هي مشكلة "فلتان أمني" يتوقف الخلاص على مجرد ضبطه؟ نعود فنكرر ما كتبه السناتور بول فندلي قبل أيام: إن الحرب في العراق لا يمكن كسبها، وعلى الإدارة الأميركية التحلي بالحكمة الكافية لإصدار الأوامر بإنهاء جميع العمليات القتالية على الفور، فالحرب على العراق كانت خطأ في الأساس وهي خطأ في الممارسات، وسوف تدخل كتب التاريخ بصفتها حماقة كبرى! غير أن إدارة بوش لن تعمل بنصيحة فندلي، الأمر الذي يعني أن المقاومة سوف تتصاعد، وأن المعتدين سوف يتجرعون كأس الهزيمة العلقم!

www.snurl.com/375h

 

 

Hosted by www.Geocities.ws

1