الحرية شرط لتحقيق الديمقراطية

بقلم: نصر شمالي

بحذر شديد، وبنبرة مهذبة، أشار الرئيس البرازيلي السابق فيرناند هنريك كاردوسو إلى العقبات الكأداء التي تحول دون نجاح تطبيق الديمقراطية في بلده، فقال أنه على مدى ثمانية أعوام ظل يجابه مراراً وتكراراً بشكاوى دول الشمال من عدم تسهيل وصولها إلى الأسواق البرازيلية، ومن عدم توفّر وسائل التنبؤ بجدوى تدفقات رساميلها إلى البرازيل في المدى القصير! غير أن دول الشمال كانت ومازالت غير مستعدّة لإعادة النظر بسياساتها المجحفة، كالحواجز غير الجمركية التي تحمي بها واشنطن بعض منتوجاتها العاجزة عن المنافسة! قال الرئيس البرازيلي السابق أن مثل هذه السياسات غير المنصفة تلقي بظلال قاتمة على برامج التنمية في بلدان أميركا اللاتينية، وخاصة برامج التنمية الإجتماعية الديمقراطية، لأنها تحول دون توفير وتعميم الخدمات، كالتعليم والصحة والتأمين والضمان والتقاعد، أي أنها تحول دون رفع أكثرية الشعب فوق حاجز ما تحت خط الفقر، ودون جعل هذه الأكثرية متمتعة بحقوق المواطنة! ثم أوضح قائلاً: لا أرى في المدى المنظور إمكانية لإعلاء شأن الديمقراطية إذا لم ننجح في توسيع نطاق سياساتنا الإجتماعية، ولا مجال لإقحام القدرية والجبرية هنا، فما يسرقونه عياناً، عبر المضاربات المالية والسياسات الحمائية، هو ما يجب توفيره لإنفاقه على مشاريع تنمية الديمقراطية الإجتماعية! وختم بقوله: لابد من النضال في سبيل نظام اقتصادي دولي أكثر استجابة لمصالح الغالبية!

الاستبداد الديمقراطي والاستبداد الديكتاتوري!

على مدى أكثر من مائة عام تناوب على الحكم في بلدان أميركا اللاتينية نوعان: سلطة ديمقراطية برلمانية على الطريقة الأميركية، وسلطة استبدادية ديكتاتورية مدعومة غالباً من الإدارة الأميركية، التي كان الإنتقال من هذا النظام إلى ذاك، وبالعكس، يحدث عموماً بمعرفتها وبرعايتها، أما البلد الذي خرج من لعبة الشيطان هذه وتمسك باستقلاله، فقد ضرب عليه الحصار الطويل المحكم، وظلّ عرضة للمؤامرات المتوالية المعوّقة والمدمّرة! وفي جميع الأحوال فإن شعوب أميركا اللاتينية، التي لم تملك حق التصرّف بثرواتها المادية والمعنوية، ظلت عاجزة عن الخروج من مهازل ومآسي الديمقراطية على الطريقة الأميركية، وعن تحقيق برنامج تنمية اجتماعية مستقل يقودها إلى ديمقراطية حقيقية.

أما عن البلاد العربية، فقد قال الوزير الصهيوني الأميركي هنري كيسنجر، قبل ثلاثين عماً تقريباً، أن ثلاث جهات ممنوع عليها التدخل في شؤون المنطقة العربية وهي: اوروبا الغربية، واليابان، و.. العرب! ولم تكن معاناة الأمة من النظام العربي، الفاسد والمستبدّ عموماً، سوى معاناة من السياسة الأميركية الراعية للفساد والاستبداد، وهاهي الإدارة الأميركية اليوم، بسبب مستجدات أميركية ودولية مصلحية وغير نزيهة، تقرّر إعلان مشروع لنشر الديمقراطية في بلادنا! لكنها توجهت بمشروعها إلى الحكومات الأوروبية طالبة دعمه، وليس إلى الحكومات العربية، الأمر الذي يؤكد ما ذهب إليه كيسنجر من أن العرب لا يحق لهم التدخل في شؤون بلادهم!

إن مشروع الديمقراطية للبلاد العربية، الذي ستناقشه الدول الصناعية الثماني الكبرى أثناء اجتماعها في حزيران / يونيو القادم،  قد أتى بعد احتلال العراق، أي أن صلته وثيقة بالعقابيل القائمة والمتوقعة التي نجمت وستنجم عن الاحتلال، نعني تعاظم المقاومة واتساعها، حيث المشروع في أحد أهم وجوهه طريقة عمل لإحباط المقاومة ولقطع الطريق على مضاعفاتها الإقليمية، فالنظام الديمقراطي العربي المزمع فرضه من الخارج سوف يكون بالطبع معادياً لما يسمى بالإرهاب ومجنّداً ضدّه!

الديمقراطية العراقية نقيض المقاومة والحرية!

في العراق تنهمك الإدارة الأميركية بكليتها في إنجاز ثلاثة مرتكزات متكاملة سوف تنهض عليها الديمقراطية، وهي: تأمين انتظام تدفق النفط، باعتباره موضوع الإحتلال وهدفه الأول، وذلك بتوفير الحماية الكافية للأنابيب ضدّ عمليات المقاومة القائمة والمحتملة، وقد أوكلت هذه المهمة إلى شركات أمن أميركية خاصة تتقاضى لقاءها عشرات ملايين الدولارات! ثانياً، الإسراع في إنجاز القواعد العسكرية الأميركية الثابتة، من 5 إلى 7 قواعد، بعيداً عن المدن ومناطق الكثافة السكانية، لتنهض بمهمات عراقية وإقليمية ودولية! ثالثاً، بلورة نظام حكم عراقي ديمقراطي لا يقيد حرية المظاهرات الصاخبة، بل يضبطها سلمياً بواسطة البوليس على الطريقة الكورية الجنوبية، ولا يمنع عشرات الصحف من تدبيج المقالات المعارضة بشدّة! ولن تأبه الإدارة الأميركية إذا ما استمرت عمليات المقاومة المسلحة في نطاق مسيطر عليه، بعيداً عن النفط المتدفق وعن القواعد العسكرية الثابتة، وهكذا تنهض الديمقراطية العراقية على الطريقة الأميركية، فتعطي الحق للعراقيين في الصراخ والهيجان السلمي كما يشاؤون، بعيداً تماماً عن النفط والقواعد، وتعطي نفسها كل الحق بالتصرف بالنفط وبالسيادة العراقية!

الحرية أولاً، والديمقراطية لاحقاً

لقد وحّدت الإدارة الأميركية موعد إقرار مشروع نشر الديمقراطية في البلاد العربية مع موعد بدء انتقال العراق إلى الحكم الديمقراطي، ولا ريب في أن الصلة وثيقة بينهما من حيث المضمون والأهداف، ولا تأبه الإدارة الأميركية، مثلما لا يأبه الكثيرون منا للأسف، إلى الحقيقة البسيطة المفهومة التي تؤكد أن الديمقراطية لن تكون حقيقية وفاعلة، أي لن تكون ديمقراطية، من دون الحرّية!

إن الحرية هي امتلاك الأمة المستقلة لأراضيها وثرواتها ولحقها في ممارسة ذاتها انطلاقاً من ثقافتها وتراثها. إنها حق الأمة في تنظيم علاقاتها الخارجية والداخلية من دون قسر ولا إملاء، وهذا التنظيم لحياتها هو عمل قانوني، تعاقدي، تنفيذي، تتبنى تطبيقه أطراف اجتماعية حرّة، بهدف ضبط علاقاتها ببعضها سلمياً ومنطقياً، والديمقراطية ليست سوى هذا التنظيم. غير أن البعض يخلطون بين الديمقراطية وبين الحرّية التي هي قضية فلسفية إنسانية أزلية، تقرّها وتؤكد عليها جميع الشرائع، وبينما أمتنا تحتاج إلى الحرية أولاً، فإن البعض يقدّم الديمقراطية عليها، وهي القضية اللاحقة!

إن حكم الشعب بالشعب، لمصلحة الشعب، هو الديمقراطية، غير أن تحقيق ذلك مشروط بالحرية والاستقلال والسيادة، وأمتنا محرومة من هذا الشرط بسبب الولايات المتحدة وحليفاتها. لقد قطّعوا أوصال أوطاننا أرضاً وأمة، ونهبوا ثرواتنا، ورعوا الفساد والاستبداد في دويلاتنا التي صارت في معظمها مجرد مناطق مدارة بحكم ذاتي! وهاهم اليوم يعدّون مشروعاً ظاهره الرحمة وباطنه المزيد من العذاب، حيث سيترتب عليه في حال نجاحه مزيد من الإنكفاء والفساد والقهر والإذلال، وهكذا لا يبقى أمام الأمة من طريق سوى الطريق الذي اختارته: استمرار المقاومة وتصعيدها من أجل نيل الحرية والاستقلال أولاً، والديمقراطية لاحقاً.

www.snurl.com/375h

 

 

Hosted by www.Geocities.ws

1