صحيفة "المجد" –الأردن_  9 آذار/مارس 1998

حوار في العمق العربي وحول العراق

مع الباحث السوري نصر شمالي

 

 

دمشق- "المجد" حوار: أحمد سعدو

مؤقتاً توقفت التهديدات الأنجلو- أمريكية للعراق، وتراجعت زمجرة الأساطيل في الخليج، وهزيم "رعد الصحراء".

غير أن النار مازالت تحت الرماد، والمؤامرات الأنجلو- أمريكية ضد العراق والأمة العربية مازالت جاهزة للتنفيذ في انتظار الفرصة السانحة.

لإلقاء الضوء على أبعاد الأزمة العراقية- الأمريكية وأعماقها التاريخية وآفاقها المستقبلية، كان "للمجد" هذا الحوار المتأني مع الباحث والمفكر السوري نصر شمالي الذي طالما عرفه قراء "المجد" كاتباً استراتيجياً متميزاً.

 

* كيف تنظرون إلى ما يواجهه العراق اليوم، من زاوية التحليل التاريخي؟

-   ما يواجهه العراق اليوم ليس فريداً في نوعه، سواء في التاريخ الحديث، وخاصة في القرن العشرين، أو في تاريخ العصر الأوروبي الأمريكي، هذا العصر الرهيب الذي بدأ انطلاقته منذ أواخر القرن الخامس عشر، ونهض على أنقاض العصر العربي الإسلامي الذي بدأ انطلاقته منذ أوائل القرن السابع.

ان ما يواجهه العراق اليوم ليس فريداً ولا جديداً، فعبر استكمال بناء هذا العصر الأوروبي الأمريكي الظالم، وعلى مدى القرون الخمسة الماضية، أبيدت أمم عن بكرة أبيها، وحوصرت أمم حصاراً محكماً على مدى سنوات وعقود، أمم متقدمة وأمم متخلفة، قديمة وناشئة، كبيرة وصغيرة.. حوصر الاتحاد السوفياتي السابق، والصين، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، وكوريا، وكوبا، وغيرها.. حوصرت مثلما يحاصر العراقِ، وعانت أكثر مما يعاني العراق، وهي صمدت عموماً، وبعضها أفلت من الحصار وغدا دولاً عظيمة متقدمة، وبعضها الآخر لا يزال صامداً بكبرياء منذ عشرات السنين.

* هل يترتب على ذلك أن محاصرة الأمم قدر لا مفر منه، يمكن أن يستمر أزماناً طويلة أو قصيرة، بمعنى أنه حالة ملازمة للحياة البشرية؟

-   كلا.. ليس الأمر هكذا. ان أساليب الغزو والحصار والإبادة والاستيطان والنهب والسلب واعتبار المركز الإمبراطوري الإمبريالي كل شيء وما هو خارج حدوده لا شيء، ان كل هذا هو من خصائص العصر الأوروبي الأمريكي ونظامه العالمي. وان لهذا العصر العبودي بداية ونهاية.. لقد بلغ في هذه المرحلة من تاريخ العالم ذروة صعوده، وإنها ذروة لا صعود بعدها أبداًَ أبداً.

لقد توقف الصعود، وان هذا مؤكد، ومن الممكن الدلالة على ذلك بالأرقام والأحداث والبراهين الواقعية القاطعة، فقد بلغ هذا العصر الأوروبي الأمريكي الذروة التي ليس بعدها سوى الانحدار، وهذا الانحدار بدأ بالفعل.  ولا يغير في ذلك أنه في ذروة قوته  وجبروته وطغيانه، إنه يعاني من الضعف والفساد القاتل، الذي لا برء منه، والذي يضرب عميقاً في نخاعه الشوكي، بينما هو حقاً، وفي الوقت نفسه، في ذروة الجبروت والطغيان والقوة.

* ولكن الضعف والفساد، إن كان موجوداً أو خطيراً إلى هذا الحد، فإنه لا يقتصر على الدول الاستعمارية الغنية، وإنما هو يشمل الدول الفقيرة أيضاً، فهل تقصدون بذلك فساد الأمم كلها واضمحلال العالم عموماً؟

-   العصر الأوروبي الأمريكي، ومن ثم النظام الاحتكاري العالمي، لا تقتصر تشكيلته على البلدان الاستعمارية الأوروبية والأمريكية الغنية.. إن هذا العصر يتكوّن من المتقدمين والمتخلفين، من المتسلطين الاحتكاريين والمستنزفين المستعبدين، من الأقوياء والضعفاء، من الشمال والجنوب.. إن وجود أحد الطرفين يشترط ويفرض وجود الطرف الآخر، وان زوال أحدهما، سواء القوي أو الضعيف، الغني أو الفقير، يترتب عليه زوال الآخر. إن هذا العصر، بنظامه الاحتكاري العالمي، يتكون فعلاً وحقاً من مجمل التشكيلات البشرية والدولية الموجودة  على الكرة الأرضية.

وهكذا، فإن عقائد العصر ومذاهبه  وسياساته المفروضة فرضاً، والمعمول بها في كل أنحاء الأرض، هي التي تعمم الفساد من المراكز. غير أن الأطراف تقاوم وتناضل ضد الفساد، أي ضد العصر الأوروبي الأميركي ونظامه العالمي، دون أن يتناقض ذلك طبعاً مع كونها جزء لا يتجزأ من مكوناته الأساسية.

* نعود إلى العراق..  إذا كان الأمر كذلك، فما هو المدلول التاريخي لمحاصرته بهذه الصورة الرهيبة؟

-   والشعب الفلسطيني محاصراً أيضاً بصورة رهيبة أكثر.. إن فلسطين محاصرة منذ عشرات السنين حصاراَ لا يقل فظاعة ورهبة، إنما بأساليب مخاتلة.

هاهنا في العراق يريدون أن ينجزوا في سنين ما أنجزوه في فلسطين خلال عشرات السنين. إنه جهد مكثف ومركز، ففي فلسطين اتبعوا أسلوب التقسيط  إن صح التعبير، أما في العراق فإنهم يتبعون أسلوب القبض المباشر الكامل. ولكن يتوجب علينا أن نلحظ، رغم الخطورة البالغة لما يحدث، ان التحليل التاريخي يمكن أن يعطينا مدلولاً إيجابياً. إن العرب يعاملون اليوم، من خلال العراق، كدولة عظمى وكأمة عظمى. هاهنا لا يزجّون في الميدان مجرد تشكيلات الهاغاناه والعصابات الصهيونية ويتخفون وراءها ويحاربون من خلالها. إنهم ينزلون مباشرة وصراحة وعلناً إلى الميدان، بقضهم وقضيضهم، وبكل قواهم العسكرية والسياسية والاقتصادية.

إنهم يتعاملون اليوم مع العرب مثلما تعاملوا مع السوفييت والصينيين واليابانيين والألمان والكوبيين.. لقد حدث تبدّل نوعي في أسلوب التعامل مع العرب جعل الخطر أرهب وأعظم دون شك، لكنه دلل على حدوث ما يستحق هذا الأسلوب العدواني العالي المستوى جداً. وما الذي حدث وأين حدث؟ في البنية العربية الداخلية غير المرئية، تحت السطح. وهذا الذي حدث، واستوجب كل هذا الحجم العدواني يجب أن يكون خطيراً، ولا بد أنه لا يقتصر على العراق وحده. وإن ما نراه من تظاهرات عسكرية وسياسية، ضخمة بهذا المقدار الذي لم يعرفه العالم من قبل، يعني أن العرب، في هذا الموقع المحدد الذي هو العراق، وبغض النظر عن الأسباب والتفاصيل والخطأ والصواب، يعني أن العرب يؤخذون بعين الاعتبار إلى أبعد الحدود، وإلى هذه الدرجة من الأهمية، وبهذا القدر من الجدية والخطورة على مصير النظام العالمي الفاسد. وان هذا يؤكد أيضاً أننا أمة ممتنعة على الإبادة، يحسب لها ألف حساب فيما يتعلق بمصير العالم، وتملك جميع الشروط التي تؤهلها للنهوض العظيم والفعل الدولي المؤثر. وما الغريب في ذلك بالنسبة لأمة قديمة، عظيمة، تكاد تحارب اليوم وحدها؟ ثم من ينخدع بمظاهر الهوان والضعف العربي الخارجية السطحية غير الأحمق والأعمى؟ إن العدو نفسه يعرف أن ما يظهر على السطح من نفايات ليس هو حقيقة الأمة العربية وليس له علاقة بالقوى الإيجابية الهائلة الكامنة في أعماقها. وإذا كان الموقف يبدو مقتصراً على العراق فإن لهذا المشهد المخاتل أسبابه المفهومة.. إنهم يستميتون من أجل الانفراد بكل قطر على حدة ومن أجل إظهاره بمظهر النشاز والمخالف، وإظهار إخوانه بأنهم يختلفون عنه، بل ويقفون ضده. وواقع الحال أن العراق ليس إلا جزءاً لا يتجزأ من هذه الأمة العربية العظيمة في جميع أقطارها وأمصارها.

* ولكن لقد اجتاح العراق الكويت.. ألم يكن ذلك عملاً عدوانياً ضد قطر عربي؟

-   إن العراق ينطوي على جميع إيجابيات الأمة العربية وجميع سلبياتها أيضاً. وإن أي فرد عراقي هو بالتأكيد مثل أي فرد جزائري، أو مصري أو سوري أو صومالي أو كويتي. نعم.. إن في الفرد العراقي جميع خصائص ومكونات الفرد الكويتي، وإن حادثة الاجتياح العراقي للكويت هي، في التحليل التاريخي، لا تستحق الذكر، وإن تاريخ الخليج العربي والجزيرة العربية والمناطق العربية الأخرى في المغرب والمشرق والشمال والجنوب، مليء بأخبار مثل هذه الإجتياحات التي لم يتوقف عندها أحد منا طويلاً، والتي لم يترتب عليها أي أمر خطير يتناول الوجود العربي بمعنى الكلمة. ولو أن الكويت اجتاحت العراق فإن ذلك لن يكون أيضاً، في التحليل التاريخي، حدثاً خطيراً. وإذا ما غضبنا من فعلتها فإننا لن نستعدي ضدها ذئاب وضباع العالم. فنحن أمة واحدة، وأوضاعنا وأخلاقنا وعاداتنا وتواريخنا جميعها مثل بعضها ومن بعضها.

إن أوضاعنا الراهنة هي عموماً مرفوضة، وإننا كثيراً ما نشعر أنها مهينة ومذلة ومؤلمة إلى درجة تجعل الموت أفضل منها، تجعل باطن الأرض خير من ظاهرها كما يقول العرب.

* ولكن، أليس في هذا تبسيطاً لحدث خطير هو الاجتياح العراقي للكويت؟

-   أنا لا أقول أنه ليس حدثاً خطيراً، ولا أستهين به، ولا أهمل تفاصيله المريعة، ولكن الاجتياح انتهى بعودة كل شيء إلى ما كان عليه في الكويت: الحكومة ذاتها، والشرطة ذاتها، والجيش ذاته، والمجتمع ذاته، والنفط ذاته. لقد عاد كل شيء، عموماً، كما كان. وإذا ما كانت هناك، يوم الاجتياح، نوايا عند الحكومة العراقية لإبادة الكويتيين عن بكرة أبيهم، كما فعل الأوروبيون والأميركيون بشعوب أخرى، فإن ذلك لم يحدث بغض النظر عن النوايا، وإن الأوروبيين والأمريكيين ليسوا هم، قطعاً ويقيناً، من يؤتمن على حياة الإنسان ومصيره كذلك، وإذا كانت هناك نوايا عند الحكومة العراقية، يوم وقع الاجتياح، لتشريد الشعب الكويتي في المنافي وملاحقته في مختلف بقاع الأرض، مثلما فعل الأوروبيون والأميركيون والصهاينة اليهود بالشعب الفلسطيني (أي بنا جميعاً) فإن ذلك أيضاً لم يحدث بغض النظر عن النوايا. لقد عاد كل شيء كما كان عليه تقريباً، وبسرعة قياسية فعلاً، ولم نشاهد لحسن الحظ في أي بلد عربي أو أجنبي أخاً كويتياً شريداً طريداً، جائعاً عارياً، متسولاً في الطرقات، أو عاملاً في الأشغال الشاقة لإعالة أسرته. إن هذا لم يحدث أبداً أبداً.

      ومع ذلك، لنقل أنه كانت هناك نوايا شريرة تم التراجع عنها أثناء الاجتياح، ولا يمكن لأحد أن يشك في أن الفرصة كانت أكثر من مواتية لارتكاب "جريمة" نوعية، مثل الجرائم التي ارتكبها الأوروبيون والأمريكيون حقاً وفعلاً وعلى نطاق واسع. ولكن، من الواضح أنه لا وجود لنوايا من هذا النوع، غير أن الأوروبيين والأمريكيين، يتعاملون مع العراق منذ سبعة أعوام بنوايا شريرة خطيرة من هذا النوع فعلاً.

* هل تعتقد أن بالإمكان تجاوز ما حدث بمثل هذه البساطة، وإن الكويت تستطيع أن تفعل شيئاً من أجل العراق بغض النظر عما أصابها؟

-   نعم. الكويت تستطيع أن تفعل شيئاً هو من صلب أخلاق العرب والمسلمين. نعم، إنها تستطيع.. لقد غفر النبي محمد بن عبد الله لخالد بن الوليد ذنبه العظيم في موقعة أحد. ألم يهاجم خالد الرسول الكريم، ويلقيه أرضاً، ويدميه، ويكسر أسنانه، ويحاصره في حفرة، ثم يكاد يقتله بسنابك حصانه؟ ألم يغفر محمد لقاتل عمه الحمزة، أحب الناس إليه؟ ألم يغفر لهند التي حرضت على القتل ومضغت كبد الشهيد الخالد؟ ألم يقبل النبي إسلام جميع أولئك، ويمتدح فيما بعد خصال ومزايا بعضهم ويقدرها تقديراً عالياً جداً؟

وهل يعقل أن نتمسك بواقعة ذلك الاجتياح كذريعة يستخدمها الأعداء الصهاينة لإبادة أمتنا بكاملها، بما فيها الكويت والكويتيون؟

* ولكن الكويتيين يعتقدون أن الأميركيين هم الذين حرروا الكويت، وهم الذين  يأخذون اليوم على عاتقهم حمايتها والحفاظ على سيادتها؟

-   لنعد إلى التاريخ القريب ولننظر ماذا فعلت واشنطن بالمنتصرين والمنهزمين في أوروبا، كلاهما معاً، بعد الحرب العالمية الأولى وبعد الحرب العالمية الثانية. لننظر ماذا فعلت بأعدائها وبأصدقائها، كي ندرك ماذا نفعل بأمتنا حين نسمح للولايات المتحدة، التي هي حقاً إسرائيل الكبرى، بأن تكون حامية الحمى في بلادنا.

منذ عام 1907 كتب الرئيس الأميركي ويلسون يقول أن على وزراء الخارجية الأميركية ضمان حماية الامتيازات التي يحصل عليها الممولون الأميركيون حتى لو انتهكت  في سبيل ذلك سيادة الأمم التي لا تبدي رغبة في التعاون (هذا كلامه حرفياً تقريباً) ثم أضاف أن السلام لن يكون إلا مسألة مؤتمرات أو تجمعات دولية (أي كلام فارغ، وهذا ما نطق به بالضبط). لقد كان ويلسون يأمر بانتهاك سيادة الأمم الحليفة، فما بالنا بالأمم التي لا يعترفون بها أمماً، بل لا يعترفون بها بشراً؟

وفي الحرب العالمية الأولى ذهبت صرخات الاستنجاد التي أرسلها الحليف الفرنسي كليمانصو إلى واشنطن أدراج الرياح.. كان يطلب إمداده بالنفط للاستمرار في حربه ضد المحور، وكانت واشنطن، بواسطة روكفلر، تبيع النفط نقداً وبالدين لحلفائها ولأعدائها، للفرنسيين وللألمان. وكانت تراقب وتتابع عن كثب هلاك الجميع كي ترث الجميع وتسيطر على الجميع. وبالفعل، انتهت تلك الحرب بانتصار واشنطن وحدها إذا ما نظرنا إلى المسألة في العمق.

وبعد الحرب العالمية الثانية، التي هي التتمة الأميركية المنطقية للحرب الأولى، وتحت غطاء مشروع مارشال، وضعت واشنطن يدها على أوروبا، وعلى كنوز مادية وعلمية لا تقدر بثمن، سواء في بلاد المحور أم في بلاد الحلفاء، ولم تكن المساعدات التي زعمت واشنطن أنها تقدمها لحليفاتها (ولأعدائها أيضاً) تعني شيئاً آخر غير الخضوع للسياسة الأميركية، حيث انتشرت لجان التفتيش والمراقبة الأميركية متظاهرة بأنها تعمل على التأكد من التزام المحور والحلفاء، الأعداء والأصدقاء، بتنفيذ برامج البناء، أو ما سمي بمشروع مارشال.

هل يعقل أننا نرجو الحماية والأمن والاستقلال والكرامة على أيدي واشنطن؟

هل هي من يعيد الحق إلى نصابه؟

ليس عند واشنطن لنا سوى ابتلاع الأخوين والجارين، ابتلاع الظالم والمظلوم، والقاتل والمقتول.

إنه ليتوجب علينا استرداد أخلاقياتنا ومآثرنا العربية الإسلامية. فهناك ظلم وظلم، وقتل وقتل. هناك ظلم عابر وظلم سرمدي استعبادي  أو إبادي. هناك قتل لأسباب محددة، طارئة، يدفع إليه الغضب الداهم أوالحماقة، وقتل محسوب ومدروس يستهدف الأجيال كلها ووجودها برمته.

* هل تعتقدون أن العراق عرضة للتقسيم أو للحرب الأهلية؟

-   العراق يتعرض اليوم فعلاً لخطر التقسيم أو الحرب الأهلية، أو لكلاهما معاً.. قد يكون تقسيماً مع وقف التنفيذ يبرر افتعال الحرب الأهلية التي لا أساس لها في الأصل ومن ثم استمرارها زمناً يقدر العدو الغاشم طوله وعرضه. وقد تكون حرباً أهلية مصطنعة تستمر حتى يتحقق التقسيم وتبرره. ثم قد يوحد العراق، فيما بعد، إذا ما قدر لمشاريع العدو أن تنجح لا سمح الله. ولكنها سوف تكون وحدة أسوأ من التجزئة بما لا يقاس.

إن العدو يقسم ويجزئ عندما تقتضي مصالحه ذلك، وأيضاً يجمع ويوحد إذا وجد في ذلك خدمة لمصالحه. ليست المسألة مسألة شعارات وعناوين فضفاضة وإنما هناك المضمون، وهناك الوظيفة. إن وحدة بلا روح هي وحدة قطيع وليست وحدة بشر. وعندما تكون هذه الوحدة بلا روح يمكن أن تكون أسوأ من التجزئة. أي أنه يتوجب علينا التدقيق في وظائف الوحدة التي يجب أن تكون نقيض وظائف التجزئة. يجب أن تكون وظائف إنسانية وأخلاقية وإيجابية وليست وحشية وقذرة وسلبية.

نحن أمة تريد أن تستعيد وحدتها من أجل خيرها وازدهارها ومن أجل خير وازدهار العالم أجمع. نحن نؤمن أن الوحدة العربية ضرورة إنسانية عالمية مثلما هي ضرورة عربية، لأن غياب أمتنا الطويل ساهم في فقدان هذا العالم لتوازنه ولحكمته.

لقد أدى هذا الغياب القسري إلى إطلاق الأشرار أيديهم، تعبث وتخرب وتقتل. إن هؤلاء الأشرار يتطلعون اليوم إلى تقسيم العراق على هواهم، وفي الغد ربما توحيده على هواهم أيضاً. ولكن هذا التقسيم ليس هو هدفهم النهائي، وإنما هو هدف ووسيلة في آن معاً، إنهم يريدون إحكام السيطرة على العراق المدمر، المجزأ، ومن ثم استخدامه كمدخل، كمفاعل، كمحرك، لتدمير أشقائه وجيرانه. إنهم يريدون اصطياد الطريدة بطريدة أخرى من فصيلتها. يريدون اصطياد الطريدة الحية بواسطة أختها الميتة!، إنهم يتطلعون إلى السيطرة الكاملة على المنطقة الواسعة، الشاسعة، من قزوين إلى الأطلسي عبر الوطن العربي وإفريقيا.

إنه "الشرق الأوسط الجديد" كما أسموه وأعلنوا عنه والذي يعتبرونه ملكا ًخالصاً لهم، لا حقوق فيه لأعداهم ولا لأصدقائهم.

كلا. ليس تدمير العراق وتقسيمه هو الهدف النهائي، وإنما هو هدف ووسيلة في آن معاً. وما أن يتحقق ذلك حتى تضعف أكثر روسيا والصين وأوروبا، وتنهار جبهات المقاومة في لبنان والجولان وفلسطين، وقبل ذلك في إيران. إن مثل هذا الانهيار المطلوب يمتد من حدود أفغانستان المنهارة سلفاً وحتى المتوسط. وسوف تطلق اليد الصهيونية اليهودية كإدارة إقليمية عليا بالنيابة عن الإدارة الأميركية العالمية في مجمل المشرق،. إن انهيار المقاومة، وإرادة المقاومة، والقوى الداعمة للمقاومة، والمؤيدة للمقاومة، سوف ينشأ عنه وضع مأساوي مروع، تكون فيه للصهاينة اليهود الكلمة الفصل في أصغر الشؤون وأكبرها. ولسوف تصبح مصر معزولة نهائياً عن المشرق العربي، وبعيدة عنه أكثر من بعد الولايات المتحدة بما لا يقاس، فكأنما تفصلها عن أخواتها المحيطات.

* وهل يمكن اليوم استرداد زمام المبادرة؟ هل من الممكن الاستفادة من ورقة العراق؟

-   إن استرداد زمام المبادرة لا يزال ممكناً. إن الأوان لم يفت بعد. إن وضع العراق الراهن هو جزء من الوضع العربي الإجمالي، وإن محنته هي تكثيف لجميع المحن والعذابات العربية، بغض النظر عن الخطأ والصواب  في التفاصيل التي لن يقيم لها التاريخ وزناً كبيراً. إن وضع العراق يمكن أن يشكل مدخلاً إلى الطريق الصحيح، طريق تحرر الأمة ووحدتها، ويمكن أن يشكل رافعة لنهوض الأمة، واستنهاضها على الأقل، ويمكن أن يشكل مقياساً لتمييز المواقف والأفكار والأفعال.

على أية حال، إن ما يحدث اليوم هو مجرد جولة، إنما هي جولة نوعية، تاريخية، شرط أن لا تلغي هذه الجولة عقولنا ووجودنا. أي أن لا تكون جولة ختامية. وهكذا، لا تزال أمامنا جولات، خمس جولات؟ عشر جولات؟ أكثر أو أقل؟ ولكن أمتنا سوف تنتصر في إحدى الجولات القادمة انتصاراً حاسماً مؤزراً. إن هذا مؤكد. إننا إذا ما تصرفنا كأمة عظيمة، وإذا ما عرفنا كيف نراكم خلاصات التجارب عبر كل جولة، فسوف تكون انتصاراتنا متوالية بنيوياً، تراكمياً، بالنقاط كما يقول الرياضيون.

سوف يكون انتصارنا متوالياً، وداخلياً، عبر نهوض معارفنا وأدائنا في جميع ميادين الحياة، وعبر تعزيز مناعتنا، حتى تحين جولة النصر الحاسم. إن الأمم لا تهزم إلا من داخلها. إن الجولات، والانتكاسات والهزائم المؤقتة، هي الثمن الواجب الأداء لقاء نيل النصر المؤزر.

وهكذا فإن علينا التعامل مع الموقف الراهن، سواء في العراق أو في فلسطين، التعامل بصفتنا أمة عظيمة تمر بمحنة عظيمة، وليس بصفتنا قبائل مشتتة ضيقة الأفق والحيلة، أو كأننا مجرد مدينة تتعرض لخطر السيول أو لهزة أرضية، إنه ليليق بأمتنا، على الرغم من فظاعة الأوضاع وخطورتها، أن تقدم للعالم أجمع مشروعاً حضارياً فيه خلاصها وخلاص الإنسان عموماً.

إن أمتنا أهل لذلك، وقادرة على ذلك، بعكس ما توحي به كل الظواهر الخارجية السطحية.  

                 

 

 

Hosted by www.Geocities.ws

1