الجذور الأقرب لعقيدة بوش المتعثرة!

بقلم: نصر شمالي

مثلما في القصص الخيالية، حيث الملك يأمر بقتل جميع المواليد الذكور لأن أحدهم سيحل محله حسب توقعات المنجمين، تقوم الإستراتيجية الأميركية، أو عقيدة بوش كما يصفونها، على قتل الأجنة التي يحتمل أن تنافس الولايات المتحدة بعد ولادتها وترعرعها ونهوضها! وهذه العقيدة الصهيونية تبدو تطبيقاتها واضحة خاصة في فلسطين والعراق، وحتى تجاه الصين وروسيا، غير أن ما يشهده العالم اليوم من أهوال هذه السياسة الأميركية يعود بجذوره الأقرب إلى مطلع التسعينات، بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، ففي شهر آذار/ مارس 1992 نشرت صحيفة نيويورك تايمز موضوعاً تحت عنوان: إستراتيجية أميركية لضمان عدم نمو قوى منافسة! فكانت تلك إشارة أخرى إلى عالم ما بعد الاتحاد السوفييتي، عالم القطب الواحد، وقد جاء في الموضوع أن وزارة الدفاع الأميركية تؤكد على أن رسالة واشنطن السياسية والعسكرية، في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، هي العمل على ضمان عدم نهوض قوة منافسة للولايات المتحدة! لقد قالت الصحيفة أن وثيقة مؤلفة من 46 صفحة جرت دراستها في أعلى مستويات وزارة الدفاع، بإشراف ديك تشيني وزير الدفاع حينئذ، وأن الوثيقة تقول أن جزءاً من إستراتيجية الولايات المتحدة سوف يتركّز على إقناع المنافسين المحتملين بعدم التطلع إلى أدوار أكبر! أما محرّر الوثيقة فهو الصهيوني بول وولفويتز نائب وزير الدفاع والمكلف بمهام التخطيط الإستراتيجي!

صورة العالم حسب عقيدة بوش!

إنه لمن الثابت أن الوثيقة التي أصدرتها الإدارة الأميركية، في 17/9/2002، بعد مرور عام على أحداث أيلول/ سبتمبر، والتي حملت عنوان (إستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة) ومهرت بتوقيع الرئيس بوش الابن، لم تكن ردّ فعل على تلك الأحداث ونتيجة لها، بل استمراراً متطوراً لسياسة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، جرت صياغتها بحلّتها الجديدة، القابلة للتنفيذ الفوري، بإشراف كوندا ليزا رايس مسؤولة الأمن القومي، متضمنة بالتفصيل المبادئ الرئيسة للإستراتيجية العسكرية الأميركية المعلنة موقعة من قبل رئيس الدولة، وهو ما ليس معتاداً أن يحدث في واشنطن!

لقد جاء في مقدمة الوثيقة التي أطلق عليها اسم (عقيدة بوش) أن القوة الأميركية تتميز بتفوق غير مسبوق، حيث تتمتع الولايات المتحدة بموقع قوة عسكرية لا مثيل لها، وأن هذه القوة تنهض في مواجهة معضلة أمنية موجودة منذ ما قبل نهاية الحرب الباردة، وهي معضلة الإرهاب التي أضحت تهديداً رئيساً للأمن العالمي الراهن، وذلك لأن هذه المعضلة تتجسّد في تحالف دول مارقة تكن العداء للولايات المتحدة، وتمتلك أسلحة الدمار الشامل، وترهب شعوبها، وتدير ظهرها للقوانين الدولية، وتموّل الإرهاب حول العالم، وترفض القيم الإنسانية الأساسية، وتكره الولايات المتحدة والمبادئ التي يؤمن بها الأميركيون!

تلك هي صورة العالم كما رسمتها الإستراتيجية الأميركية، أو عقيدة بوش الابن، وبناء عليها لم تعد العمليات العسكرية ضدّ الإرهابين هي الهدف الأميركي الرئيس، بل تحطيم القوى السياسية المعادية للولايات المتحدة في ميادين سيطرتها الجغرافية المحدّدة، أي تدمير دول بأسرها على أنها دول مارقة!

من الردع إلى الاستباق!

إن طبيعة العدو، كما عرضتها الوثيقة التنفيذية التي وقعها بوش الابن، تفرض التخلّي عن مفهوم الردع، وضرب الدول المارقة قبل تورطها في أعمال معادية، أي اعتماد سياسة الحرب الاستباقية، فمفهوم الردع لا يستدعي التدخل العسكري المباشر، كما كان الحال طيلة زمن الحرب الباردة، أما مفهوم الحرب الاستباقية، كما تشرح عقيدة بوش، فيعني أن على الولايات المتحدة أن تكون مستعدّة لضرب الدول المارقة وأعوانها الإرهابيين قبل أن يصبحوا قادرين على تهديدها وعلى استعمال أسلحة الدمار الشامل ضدّها وضدّ حلفائها وأصدقائها!

تقول الوثيقة التنفيذية الأميركية: لقد مضت حوالي العشر سنوات قبل أن ندرك الطبيعة الحقيقية لهذا التهديد الجديد، فلا يمكن أن ندع أعداءنا يضربوننا أولاً، وأسلوب الردع الذي كان دفاعاً فعالاً، والذي كان يرتكز على التهديد بالردّ، لم يعد ناجعاً لمواجهة قادة الدول المارقة الذين هم اليوم أكثر تصميماً على المخاطرة بحياة شعوبهم وثروات أممهم! إن الدول المارقة والإرهابيين لا يعملون على مهاجمتنا باستعمال الوسائل التقليدية، بل يعتمدون على الأعمال الإرهابية، وبإمكانهم استعمال أسلحة الدمار الشامل ضدّنا، ومن أجل منع أو استباق مثل هذه الأعمال المعادية سوف تلجأ الولايات المتحدة إلى سياسة الحرب الاستباقية!

الانفراد بالقرن الحادي والعشرين!

لقد تصاعدت الدعوة إلى تبني إستراتيجية الحرب الاستباقية في أواسط عقد التسعينات الماضي، حيث بدأ تيار ما يسمى بالمحافظين الجدد بالبروز، ومع أن معظم شخصيات هذا التيار تعود إلى أصول يسارية (تروتسكية) فقد نهضت باعتبارها الأشد إخلاصاً لتوجهات العهد الريغاني/ التاتشري اليميني المحافظ، حيث راحوا ينشرون في الصحف مقالات تتحدث بوضوح عن الريغانية الجديدة، ويدعون إلى تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية تمهّد لإستراتيجية الحرب الاستباقية، وبناء على جهودهم أصدر الكونغرس الأميركي عام 1996، في عهد الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون، ما يسمى توجيه ليبرمان لتصحيح السياسة الدفاعية الأميركية، وهو توصية اقترحها النائب ليبرمان بإنشاء مجلس غير حزبي للدفاع الوطني، يراجع الإستراتيجية الدفاعية الأميركية ويعيد صياغتها، بما في ذلك البنية العسكرية وخطط تحديثها، والبنية التحتية، وعناصر البرنامج العسكري للقرن القادم! أي أن المسؤولين الأميركيين، باختصار، تطلعوا إلى قرن قادم يخصهم وحدهم، ولا مجال فيه لظهور منافسين آخرين تحت طائلة إبادتهم وهم أجنة، غير أن هذا التطلع الطموح ينكفئ اليوم متعثراً متخبطاً في جميع القارات تقريباً، خاصة في العراق حيث تعطل القطار الأميركي في محطته الأولى، ولا يدري أحد ما إذا كان قادراً على الانطلاق من جديد نحو المحطة الثانية!

    www.snurl.com/375h  

 

 

Hosted by www.Geocities.ws

1