اهتزاز صورة المدينة العالمية الواحدة!

بقلم: نصر شمالي

عقدت في الولايات المتحدة قبل أيام ندوة كان العراق موضوعها، وكان من أهم المشاركين فيها مستشار الأمن القومي الأسبق زبغنيو بريجنسكي، الذي يعتبر من أبرز السياسيين والمفكرين الاستراتيجيين الأميركيين، والذي يصفه الفرنسي جان بيير كوت قائلاً: إن هدف بريجنسكي هو الحفاظ على الموقع المتفوق للغرب الرأسمالي الصناعي في العالم، والحفاظ على موقع الولايات المتحدة المتفوق في الغرب المتقدم وفي العالم عموماً!

كان بريجنسكي من أوائل الذين طرحوا سياسياًَ فكرة "المدينة أو القرية العالمية الواحدة" ومن السباقين في العمل على أساسها، فقد صدر له في أواخر ستينات القرن الماضي كتاب بعنوان "بين عصرين" شرح فيه أن عالم اليوم هو مدينة واحدة، من يعيش فيها يجب أن يخضع لقوانينها، وأنها مدينة تحكمها نخبة عالمية ارستقراطية، سياسية واقتصادية، تقيم في الحيّ المركزي، الذي هو الغرب أو الشمال، وتحيط به أحياء مغلقة هي دول الجنوب، دول مثل أحياء الصفيح التي يقطنها أكثرية من الفقراء، والجماعات الدينية المختلفة، وعصابات الجريمة! ونفهم من شروحات بريجنسكي المعقّدة أن النخبة الأرستقراطية العالمية الحاكمة لا تتطلع إلى تغييرات إنسانية إيجابية، بل لا تمانع بعلاقات دولية أكثر قذارة، شرط أن تكون أكثر انضباطاً، أي أنها تتطلع إلى ترتيب الوضع الراهن وضبطه بغض النظر عن فساده! وقد نصح بريجنسكي بمأسسة الفقر والجريمة، معتبراً أن وجودهما لا مفر منه إن لم يكن ضرورياً، فقال: إن سلطات المدينة العالمية تفضّل التعامل مع الجريمة المنظمة لا مع الجريمة الفوضوية! وشرح أن أساليب التعامل تشمل الحرب المحدودة المستمرة ضدّ الدول/ الحارات الجنوبية، تماماً مثلما تشنّ قوات الشرطة الأميركية غارات على أحياء الفقراء في المدن الأميركية، لتحدّ من فوضوية الجريمة وفلتانها وتعيدها إلى دائرة المأسسة التي يمكن تنظيم العلاقة معها!

العراقيون ضربوا المصداقية الأميركية!

نعود إلى ندوة العراق التي شارك فيها بريجنسكي، لنسمع أقواله ونرى مدى تطابقها مع نظرياته حول الإدارة النخبوية للمدينة العالمية الواحدة، فالمفترض أن الإدارة الأميركية شنت غارة بوليسية ضدّ الحارة العراقية، في نطاق الحرب المحدودة المستمرة ضدّ جرائم العالم السفلي الجنوبي، لكن بريجنسكي يقول أن هذه الغارة محكومة بالفشل بغض النظر عن الزمن الذي تستغرقه، ولذلك هو يدعو إلى فك الارتباط والانسحاب الشامل من العراق خلال سنة، أما عن الأسباب فذكر منها: النفقات المرتفعة المحرّمة، ونجاح التمرّد العراقي في ضرب شرعية ومصداقية الوجود الأميركي! وأما المقصود بالنفقات المرتفعة المحرّمة فهو عدم جني الأرباح المفترضة من الحرب، بل تعّرض التوظيفات المالية الهائلة للضياع، والتي بلغت مئات المليارات من الدولارات ويقال آلاف المليارات!

لقد اضطربت نظريات بريجنسكي بعد أن اهتزت الصورة التي رسمها للمدينة العالمية الواحدة المدارة من قبل أرستقراطية مركزية، وهاهو يعترف بأن الشعب العراقي نجح في ضرب شرعية ومصداقية الوجود الأميركي في العراق، ويتحدث عن الولايات المتحدة التي تخوض حرباً غير وطنية، بدليل عدم نجاح الإدارة في تحقيق تعبئة وطنية أميركية لصالح الحرب، تتضمن فرض ضريبة على الأغنياء، وفرض ضريبة حرب على الشعب، وفرض التجنيد الإلزامي، وبدليل فشل الرئيس بوش في شحذ الروح الوطنية الأميركية، كما يقول بريجنسكي، وفي هذه العودة إلى الوطنية الأميركية والوطنية العراقية تراجع عن فكرة المدينة العالمية والارستقراطية العالمية التي تحكمها!

المأزق تاريخي والإخفاق ممنوع!

لقد تحدث في الندوة الأميركية حول العراق أحد الجنرالات الذين اشتركوا في الحرب، فقال أن الحرب بدأت في اللحظة التي اعتقدوا فيها أنها انتهت! وتلك بالطبع إشارة إلى الأيام الأولى التي تلت احتلال بغداد، فقد اعتقدوا أنها الذروة والنهاية بعد الحصار المحكم المميت الذي استمر حوالي ثلاثة عشر عاماً، والذي اعتبروه الحرب في معظمها إن لم يكن كلها، وإذا بهم يجدون أنفسهم في البداية وليس في النهاية، فكان المأزق التاريخي الذي جعل بوش يردّد أن الإخفاق غير مسموح به، أي أنهم صاروا عرضة للإخفاق وما زالوا بعد ثلاث سنوات من الاحتلال! غير أن الرئيس بوش يبدو متمسكاً بمساره العام الذي يحتاج المضي فيه إلى نصف مليون جندي أميركي، وهو ما أشار إليه بريجنسكي، مدخلاً إياه في باب النفقات الحرام، مضيفاً أن الولايات المتحدة ليست في وضع يسمح لها بزيادة عدد القوات المحاربة، إضافة إلى أن ذلك لن يكون مجدياً، أي أنه لن يحول دون الإخفاق! وبناءً على ذلك دعا إلى التفكير واتخاذ القرارات بعقل بارد، فالحفاظ على مسار الحرب غير ممكن، وحتى تحويلها إلى حرب أهلية يبدو غير متاح، فالعراق لم يدخل فيها رغم أن الأميركيين يغذون هذا التوجه، وإذا نشبت الحرب الأهلية وانشغل العراقيون بأنفسهم عن الأميركيين فإن مضاعفاتها يمكن أن تكون أكثر تدميراً للمصالح الأميركية، فهي قد تخرج عن السيطرة لأن المظلة الأميركية المعدّة لاحتواء مثل هذه النزاعات مليئة بالثقوب كما يقول بريجنسكي!

فرصة لا تجوز إضاعتها

ولكن، إذا كانت التكاليف الباهظة لمسار بوش السياسي والعسكري محرّمة، لأنها مجرّد خسائر فادحة بلا طائل، وإذا كانت الحرب الأهلية العراقية غير متاحة أولاً وغير مضمونة النتائج ثانياً، فما الحلّ؟ يقول بريجنسكي: في حرب الاستنزاف يكون المحتل الأجنبي دائماً في الوضع غير المواتي، وبما أن وضع الأميركيين هو كذلك فإن احتلال العراق فاشل مهما طال أمده، أما السياسيين العراقيين الذين يدعون لاستمرار الاحتلال فهم قيادة سيئة، وأما الصحيح فهو أن تطلب الإدارة الأميركية من القادة العراقيين أن يطلبوا منها الانسحاب! أضاف بريجنسكي: إننا نتصرف وكأن العراقيين رعايانا المستعمرون، الذين نعلمهم الديمقراطية عبر اعتقالهم وقصفهم وإذلالهم!

وهكذا نسمع اليوم أحد أبرز فلاسفة نظرية المدينة العالمية الواحدة، التي تتكون من حيّ أرستقراطي حاكم وأحياء تعجّ بالعصابات، والتي تدار بالحرب المحدودة المستمرة، أي بالغارات على طريقة الشرطة، وهو يعيد مرغماً الأمور إلى نصابها، فيتحدث عن الحرب الوطنية واللا وطنية، وعن المقاومة الوطنية للشعب العراقي الباسل، التي ضربت مشروعية ومصداقية الاحتلال، وبينما الحال كذلك، بمعانيه ومدلولاته الخطيرة المتعلقة بالمصير البشري عموماً، نجد البعض في بلادنا مشغولاً عنه بتفاصيل يومية لا قيمة لها، غافلاً عن ضرورة الإمساك بهذه الحلقة المتميزة من حلقات النضال الإنساني، التي يمكن أن يحقق الإمساك بها التأثير إيجابياً على مجمل السلسلة الدولية.

www.snurl.com/375h

Hosted by www.Geocities.ws

1