عقب آخيل والمحور الآسيوي العظيم

بقلم: نصر شمالي

تتميّز السياسة الأميركية بقدرتها الفائقة على الانقلاب من النقيض إلى النقيض، فلا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة، بل المصالح والمصالح وحدها، وهذه البراغماتية تحظى بإعجاب الكثيرين في بلادنا، الذين يهتف بعضهم بحماسة: ولم لا؟ أليس الأمر الطبيعي أن تهتم الولايات المتحدة بمصالحها؟ ألا يتوجب علينا أن نفعل مثلها؟ غير أن هذا البعض مخطئ وغير محق في حماسته، لأن الولايات المتحدة تهتم بمصالحها حصراً، وليس بالمصالح المتبادلة التي يتوهمها البعض، فهي لا تعطي أبداً أبداً، بل تأخذ دائماً ودائماً، وهي إن أعطت ففي معرض الأخذ، أي تعطي "الواحد" كي تسترده عشرات بل مئات!

وفي معرض الانقلابات الحادة في المواقف الأميركية هاهو الرئيس الأميركي يتحدث اليوم بإسهاب عن العدو الإيراني وضرورة إبادته، فلم يعد العدو الرئيس هو الأفغانيين أو العراقيين أو القاعدة أو المتسللين الأجانب، وأصبحت إيران فجأة مسؤولة عن عمليات التخريب في العراق من دون الإشارة إلى غيرها، مع أن هناك من يرى أن إيران سهّلت احتلال الأميركيين لأفغانستان والعراق، وأنه لولاها لما تحقق لهم ذلك!

تقويض المحور الآسيوي الكبير!

في الحقيقة، إن من لا يرى رجال الأعمال الأميركيين خلف مثل هذه الانقلابات الحادة، وخلف مواقف إدارتهم وحروبها، سوف لن يرى شيئاً آخر بصورة صحيحة على الإطلاق، فالتحول إلى إيران بهذه الحدّة والشراسة يعود إلى المحور الآسيوي الاقتصادي السياسي الذي بدأ يتشكل ما بين بكين ودلهي وكوالا لامبور وطهران، والذي يشكل النفط والغاز الإيراني ركناً أساسياً من أركانه، فقد تحققت خطوات هامة في هذا الاتجاه كان دور طهران أساسياً وحيوياً فيها، باعتبارها المصدر الرئيس للغاز والنفط، ناهيكم عن أسواقها الداخلية المهمة، وقد رأينا الرئيس بوش في جولته الأخيرة، التي شملت الهند وباكستان، وهو يحاول زعزعة هذا المحور الآسيوي والحيلولة دون تماسكه ونهوضه، ورأينا كيف سبقه بأيام، في هذا الجهد نفسه، نائبه ديك تشيني الذي زار بعض العواصم العربية أملاً في تحريكها لتخريب عملية نهوض هذا المحور! وبما أن دلهي وبكين ليستا بالضعف والسذاجة إلى الحد الذي تفوتهما معه رؤية أهداف واشنطن، وبالتالي التفريط بمصالحهما الإستراتيجية تحت ضغوطها، فإن الأميركيين تحوّلوا بقوة، وبصورة رئيسية، إلى الحلقة التي يعتبرونها الأضعف في المحور، أي الحلقة الإيرانية، فبتقويضها يتقوض المشروع الآسيوي الكبير، أي أنهم ينظرون إلى إيران الآن باعتبارها عقب آخيل في المحور الآسيوي العظيم!

مؤتمرات السلام كلام فارغ!

والحال أن لرجال المال والأعمال الأميركيين الكلمة الحاسمة في السياسة الأميركية الدولية عبر جميع العهود، ففي عام 1914 ألقى وزير الخارجية وليام جنجر خطاباً أمامهم جاء فيه ما يلي: يمكنني أن أقول لكم، ليس لمجرّد المجاملة بل للحقيقة الواقعة، أن وزارتي هي وزارتكم، فالسفراء والوزراء المفوضون والقناصل جميعهم تحت تصرفكم، وإن واجبهم هو رعاية مصالحكم وحراسة حقوقكم!

وكان الرئيس الأميركي الشهير تودور ولسون قد كتب منذ عام 1907 يقول: على وزراء الخارجية أن يضمنوا حماية الامتيازات التي يحصل عليها المموّلون، حتى لو انتهكت في سبيل ذلك سيادة الأمم التي لا تبدي رغبة في التعاون، أما السلام نفسه فليس سوى مسألة مؤتمرات أو تجمعات دولية!

أي أن ولسون، وأمثاله حتى يومنا هذا، ينظرون إلى المؤتمرات الدولية على أنها مجرّد "كلام فارغ"! وإنها الحقيقة التي تبدو اليوم أشدّ وضوحاً من أي وقت مضى.

لقد بقي رجال الأعمال الأميركيين لأكثر من نصف قرن يهيمنون على أسواق النفط، ويدمرّون كل من يحاول إيجاد منفذ مستقل إلى هذه الأسواق، وعندما تحاول دولة مثل الصين إقامة علاقات مستقلة مع البلدان المنتجة، قائمة فعلاً على المصالح المتبادلة والاحترام المتبادل، فإن الأميركيين يجأرون بالشكوى من هكذا محاولة "تهدّد أمنهم القومي"! فتنطلق حكايات الإرهاب والتخريب، والدول التي تدعم الإرهاب والتخريب، وضرورة معاقبة من يأوون الإرهابيين ويمولونهم.. الخ! وهذا عين ما يحدث اليوم إزاء الصين بطريقة مواربة وإزاء إيران بطريقة مباشرة!

الأساس رجال المال والأعمال!

إن الأميركيين يحلّون لأنفسهم ما يحرّمونه على غيرهم، فعندما كان البريطانيون في العراق، ومنذ ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، خاضت الخارجية الأميركية ضدّهم صراعاً ضارياً، مستميتاً، كي تضعف هيمنتهم على العراق وتكسر احتكارهم لنفطه، أما شعب العراق، الذي يعذبونه اليوم عذاباً لا يطاق، فلم تكن لمصالحه ولوجوده أية قيمة من وجهة نظرهم، فهو مجرّد عشائر وطوائف لا تستحق الذكر، وإذا ما ذكروه فذلك من باب استخدامه كذريعة ضدّ منافسيهم، وقد كتب مؤرخ شركة ستاندرد أويل النفطية الأميركية هذا الكلام المعبّر، أثناء سعي الأميركيين للحلول محل البريطانيين في العراق، فقال: لا يسع صناعة النفط العالمية إلا أن تنحى باللائمة على زعمائها بسبب ما لهذه الصناعة من سمعة سيئة، فهم يتقاتلون بكل ما في متناول أيديهم من وسائل لتمزيق صفوف الحركات الوطنية المناضلة، ولإعادة نظام اقتصادي لا يمكن له أن يعود!

لقد كانت واشنطن في ذلك العهد، أواسط القرن الماضي، تتظاهر بالعطف على الحركات القومية المناضلة، وتشجب الاستعمار القديم والاحتلال المباشر، وهي ظلت تفعل ذلك حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وإلى أن حلّت محل الاستعمار القديم بأساليبها الحديثة الأفظع، وقد نجم عن ملاحظة مؤرخ ستاندرد أويل، بصدد الحركات الوطنية المناضلة، أن تكتّل الاحتكاريون بقيادة واشنطن، وأوقفوا صراعاتهم إلى حد كبير، وتجدر الإشارة إلى أن واشنطن كانت تمدّ الطرفين المتحاربين، في الحربين العالميتين الأولى والثانية، بالنفط والسلاح، فتسعّر النيران التي أحرقت عشرات الملايين من شعوب أوروبا، فما بالكم بشعوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية!

نعود إلى السياق فنقول أننا، ونحن نستمع إلى الرئيس الأميركي اليوم، ونتابع ما يجري على أرض العراق وحوله، وأبعد منه حتى بكين، ينبغي علينا أن نرى وراء ذلك رجال المال والأعمال الأميركيين وشركاءهم وخدمهم، الذين لا يمتلكون ذرة من الرحمة والشفقة والإحساس بالعدل إزاء الشعوب.

www.snurl.com/375h        

 

Hosted by www.Geocities.ws

1