تعثّر صناعة الموت وتجارة الجثث!

يقول بيير روسيه: الغرب ليس أهلاً إلا للقتل وجمع المال،

والمجتمع الصناعي تزدهر أرباحه من صناعة الجثث!

بقلم: نصر شمالي

الحرب صناعة رائجة دولياً لها أسواقها الصناعية والتجارية، الثابتة والجوّالة، أما سلعتها فهي الجثث! وتنهض على أرض العراق اليوم سوق رئيسة، أعظم من تلك التي نهضت بالأمس على أرض البلقان، ولا يتناقض نهوض سوق جديدة تحتل الصدارة الدولية مع استمرار أسواق حروب أخرى، كالحرب الأفغانية والسودانية الحديثتين نسبياً، ومع استمرار الحرب الفلسطينية التي لم تتوقف أبداً منذ حوالي مائة عام!

إن الحرب كتجارة سلعتها الجثث هي خاصية من خصائص هذا العصر الأوروبي الأميركي الذي نهض قبل حوالي خمسة قرون، وأسواقها الدولية المتنقلة، التي تتبادل الصدارة من وقت لآخر ومن مكان إلى آخر، يجب أن تكون في أهمية العصر، وفي حجمه، وبما يلبي نهمه الذي لا حدود له! وقد كتب  الفرنسي بيير روسيه في كتابه "مفاتيح الحرب" قائلاً: إن الغرب ليس أهلاً إلا للقتل وجمع المال، وقد تجرّد من كل قيمة أخلاقية عبر اندفاعه لتحقيق مصير لم يعد يتحكم فيه. لقد كان الناس في الماضي يخوضون الحرب لتحقيق السلم، أما في الحاضر فإن الغرب يخوض الحرب من أجل الحرب بعد أن أضفى عليها طابع القدسية! أليست "إسرائيل" دليلاً قاطعاً على ذلك؟ أقتل باستمرار! هذا هو الشعار الخالد للمجتمع الصناعي الذي تزدهر أرباحه من صناعة الجثث!

في مناطق صناعة الجثث يقوم الجنود بوظائف العمال، وهم يتعرضون لإصابات العمل التي تتراوح ما بين النفسية والجسدية، مابين الاختلال الجزئي والجنون الكامل، وما بين العاهة والموت، تماماً مثلما يحدث في المصانع العادية ذات المنتجات الأشدّ خطورة! وقد سمعنا مؤخراً عن ذلك الجندي الأميركي جيمس براون، الذي عاد من العمل في العراق عبر إيطاليا، فانقضّ على سيدة نيجيرية صادفها في طريقه، واغتصبها بعد أن كبّل يديها وضربها ضرباً مبرحاً، لتهيم على وجهها عارية في شوارع مدينة فيتشنزا الإيطالية، تصرخ مستنجدة بعد أن فشل في الإجهاز عليها! وقد احتجز براون، البالغ 27 عاماً، في سجن عسكري أميركي في ألمانيا، وقدّم للمحكمة التي أصدرت ضدّه حكماً مخففاً، حيث رأى القضاة أن الجندي يعاني:" ضعفاً في الإحساس تجاه معاناة الآخرين بسبب خدمته في العراق، حيث الجنود الأميركيين هناك يخوضون حرباً في مواجهة ثوّار، أي ضدّ عدو غير مرئي، يستخدم جميع الوسائل، وبما أن هذه المواجهة لا نهاية لها في الأفق المنظور فإنها تشكل ضغوطاً بالغة الشدّة على الجنود الأميركيين، فالجندي براون تعرّض لعبء نفسي طويل أضعف إحساسه بأهمية حياة الآخرين..الخ"!

صدّقوا أو لا تصدّقوا، ولكن هذا ما قاله القضاة الأميركيون بالضبط! أي أن المجرم الحقيقي، كما يشير كلامهم، هو الشعب العراقي، لأنه لم يستسلم لصانع الجثث، وواجهه بالثورة وبوسائل مقاومة غير مرئية، فأنهكه نفسياً وجعله مريضاً يستحق الشفقة والرعاية، بل إن العراقي (الخبيث الشرير مثل ذئب!) هو المسؤول عما أصاب السيدة النيجيرية في إيطاليا!

إن العراقيين ومقاومتهم، وأمثالهم، هم من وجهة نظر الطغاة مادة لصناعة الجثث/ السلع لا مشاعر لها ولا حياة فيها، مادة شديدة الخطورة، لكن خطورتها في مستوى الأرباح الفاحشة المتوقعة من تصنيعها ولذلك فإن تصنيعها يستحق المخاطرة! وإن الاهتمام بالمشاعر والصحة والحياة ينحصر بالصانع لا بالمادة، وبالتالي فليس مهماً أن نعرف عدد العراقيين الذين فتك بهم الجندي براون جزئياً أو كلياً، بل المهم أن نتابعه في مأساته وقد نسي المسكين نفسه، فهو يحاول مواصلة عمله في العراق بصنع جثة نيجيرية في إيطاليا، خارج مركز العمل النظامي، وخارج الدوام الرسمي، وبمادة غير مرخصة وغير مجزية، كما فهمنا من قضاته، بل علينا الأخذ بيده ومساعدته في العودة إلى جادة الصواب، جادة قتل العراقيين أصولاً!

لقد عمل الإسرائيليون في مصنع الجثث الفلسطينية عقوداً طويلة، برأسمال تأسيسي هائل، وبدعم سنوي أميركي لا يقل عن ثلاثة مليارات دولار، غير أن هذا المصنع الإسرائيلي المستمر لم يعد كافياً، كما يبدو، لتلبية احتياجات السوق الرأسمالية الشرهة، فنهض المصنع العراقي بإدارة أميركية وبعمال أميركيين بلغ تعدادهم حوالي مئة وسبعين ألفاً، منهم حوالي ثلاثين ألفاً من الوحدات الخاصة، وحوالي عشرين ألفاً من المرتزقة! وقد بلغت التكاليف حتى اليوم، كما سمعنا، تريليونين من الدولارات، أي ألفي مليار دولار! وهو رقم مفزع للممولين إلا إذا كان حقق مردوداً بعشرات آلاف المليارات، الأمر الذي تستبعده الأخبار والوقائع، فهي تشير جميعها إلى ذعر رأسمالي وسعار أميركي حقيقي يعبّر عن نفسه بهذه الاستماتة من أجل تحقيق نشوب حرب أهلية عراقية!

تقول الإدارة الأميركية:" إن اندلاع حرب أهلية في العراق بات أمراً مرجّحاً لا يحتاج إلا إلى شرارة انطلاق"! وهذا الكلام يعني أن الأميركيين يريدون من العراقيين أن يتحملوا نيابة عنهم أعباء المهمة الإنتاجية، الصناعية التجارية في ميدان الجثث، والتي كلفتهم (بسبب إصابات العمل وتدمير الآلات تماماً كالمصانع العادية!) تريليونين من الدولارات حتى الآن، يخشون أن تكون تبدّدت عبثاً وهدراً!

إن الأميركيين يتظاهرون كذباً أنهم لا يريدون الحرب الأهلية (كأنما لا تدور حرب في العراق منذ الاحتلال!) فهم يريدونها ولكن منظمة ومدارة بحكومة "وحدة وطنية عراقية" تتولى عنهم أعباءها حسب الأصول وبطرق نظامية! وهم يتظاهرون أن لا علاقة لهم بحادث سامراء، بينما السفير الأميركي في بغداد يقول: " في حال وقوع حادث شبيه بتفجير مرقد الإمامين فإن العراق سيكون معرّضاً للحرب الأهلية حقاً هذه المرة"! ويفهم من كلام السفير أن الحادث كان إنذاراً، فمن أنذر من؟ لعل الإجابة تتضح في دعوة السفير من يفترض أنهم متهمون طائفياً بالحادث للاشتراك في الحكومة، ودعوته للحدّ من اشتراك من يفترض أنهم طائفياً متضررون! ثم يتحدث وزير الدفاع رامسفيلد متهماً الحرس الثوري الإيراني بعمليات تخريبية في العراق، فهل الحرس هو من نسف المرقد المقدّس؟ وهل هذا نفي للتهمة عن الجهة المتهمة، أم ماذا؟

الخلاصة: إن الأميركيين يتخبطون بعد أن تعثّر مشروعهم الضخم، فغدت تكلفة صناعة الجثث مرتفعة جداً وغير مريحة، لأن المواد الأولية (الشعب العراقي) تقتل عمالهم وتدمّر آلاتهم، ليس هذا فحسب، بل هي تلتهم رساميلهم وأصحابها الكبار!

www.snurl.com/375h        

 

Hosted by www.Geocities.ws

1