المستثمر الأجنبي والمقاول المحلي وديمقراطية الاحتلال!

بقلم: نصر شمالي

لم تكن فلسطين أرضاً خلاء كما زعم اليهود تبريراً لاغتصابها لكنهم لم يأبهوا لوجود شعبها العريق ومقاومته، وأعلنوا لاحقاً أنهم الواحة الديمقراطية التي تستحق وحدها الحياة في منطقة استبدادية لا تستحق كلها الحياة! وفي العراق لم يكن ثمة أسلحة دمار شامل و لا منظمات إرهابية تهدد العالم كما زعم الأميركيون تبريراً لاحتلاله، لكنهم لم يأبهوا لانهيار مزاعمهم، وواصلوا الاحتلال باعتبارهم كما أعلنوا لاحقاً رسل الحرية والديمقراطية للشعب العراقي، بل للعرب والمسلمين والعالم عموماً!

وسواء في فلسطين أم في العراق لم تتوقف المقاومة ضدّ المحتلين منذ البداية، فاضطر الإسرائيليون ثم الأميركيون إلى اعتماد سياسة "الاحتلال الديمقراطي" وتطبيق تجربة الحكم الذاتي أو الإدارة الذاتية، المنبثقة عن انتخابات نيابية عامة، تأتي بحكومة ديمقراطية يلقي الاحتلال على عاتقها مسؤولية إدارة الحياة اليومية وضبط الأمن نيابة عن المحتلين الذين يحتفظون بالسيطرة على الأرض عموماً، وعلى المرافق الاستراتيجية، وعلى الموارد والثروات العامة، والحدود، إضافة إلى التحكم تماماً بالسياسة الخارجية!

وبالطبع فإن ما يستحق السخرية هو أن الأميركيين والإسرائيليين (رسل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان!) في تعاملهم مع الشعوب التي يزعمون أنهم يناصرونها ضدّ الاستبداد، لا يبدؤون من حيث يجب أن يبدؤوا، أي بدعوتها للاستفتاء أولاً على وجودهم في بلادها، ثم بالاستفتاء على الدستور وانتخاب النواب سواء في وجودهم المقبول أم في غيابهم المرغوب، بل يتجاوزون كلياً وجودهم كمحتلين، كأنما هو الثابت الذي لا يقبل الجدل، وكأنما وجود أصحاب البلاد هو الطارئ الذي يستحق الجدل!

لماذا لا يبدأ الإسرائيليون (في الضفة والقطاع على الأقل) والأميركيون في العراق بتطبيق التجربة الديمقراطية بصورة صحيحة، فيطرحون على الاستفتاء أولاً موضوع الاحتلال، طالما أنهم يعلنون إصرارهم على المضي في تحقيق رسالتهم الديمقراطية الإنسانية على صعيد العالم أجمع؟ وكيف سيحظون بالمصداقية التي تجعل البلدان الأخرى تدعوهم بحماسة لاحتلالها وإنقاذها إذا لم يبدؤوا في فلسطين والعراق بالاستفتاء الشعبي على احتلالهم، قبل الاستفتاء على الدستور وانتخاب النواب والحكام المحليين؟!

المتعهد الرئيسي والمقاول الثانوي!

إن الدخول في صلب الموضوع يرينا أن الانتفاضة الفلسطينية الأولى أرغمت الإسرائيليين على الزجّ بعدد كبير من جنودهم ودباباتهم ومدرعاتهم في الميدان بهدف تعزيز الاحتلال، فأدّى ذلك إلى تحوّل الاحتلال الإسرائيلي (للضفة والقطاع تحديداً) من مشروع مربح إلى مشروع خاسر اقتصادياً، فكان أن ومضت فكرة "الاحتلال الديمقراطي" في رؤوس القادة الصهاينة، وذلك بالتعاقد مع "مقاول ثانوي" فلسطيني (حسب مصطلح نيف غوردون في صحيفة هاآرتس) يؤتى به عن طريق الانتخابات والاستفتاءات، وتلقى على عاتقه مسؤولية إدارة شؤون الفلسطينيين اليومية وضبط الأمن نيابة عن المحتلين، فمثل هذه العملية الديمقراطية ستساعد الإسرائيليين على خفض تكاليف الاحتلال الباهظة وتقليص أعداد الجنود والقوات المنتشرة، بعد أن تتوقف الانتفاضة والمقاومة، فيعودون إلى وضعية الرابح اقتصادياً بفضل استمرار سيطرتهم الإجمالية على الأرض والموارد والتجارة والحدود!

غير أن نواياهم المضمرة إلى حد ما كانت واضحة تماماً للفلسطينيين، وإن اختلفت أساليب تعامل الفلسطينيين معها، ما بين التصدّي الحازم والمناورة المحسوبة، وهكذا شهدنا انطلاقة الانتفاضة الثانية ورفض الرئيس ياسر عرفات دور "المقاول الثانوي"، وتمسكه بموقفه بعد أن تلاشت إمكانية المناورة المحسوبة، وبعد أن سجنه الأميركيون والإسرائيليون في مقره الرئاسي وأعلنوا صراحة أنهم ينوون التخلص منه! لكن استشهاد الرئيس عرفات، وإيغال الإسرائيليين في ارتكاب جرائم التجويع والاغتيال والإبادة والتدمير الشامل، لم تنل من صلابة الشعب الفلسطيني العظيم الذي لم يتراجع قيد أنملة عن ثوابته، فبقي الوضع العام على حاله مكلفاً وخاسراً للإسرائيليين، ووجد الأميركيون والإسرائيليون أنفسهم مرغمين على تكرار تجربة "ديمقراطية الاحتلال" التي لم يجدوا أمامهم سواها، وذلك للحصول على إدارة ذاتية تدير شؤون "سكان المناطق" حتى وإن اضطروا في ما بعد  لإعطائها اسم الدولة!

الفصل بين الشعب ووطنه!

أما في العراق المحتل فقد اندفع الأميركيون سريعاً على طريق التجربة الإسرائيلية بالضبط (التي هم شركاء فيها بالطبع) فعملوا منذ البداية على الفصل بين الشعب العراقي وبين موارده وثرواته وأرضه، وسعوا على الفور إلى التعاقد مع "مقاول ثانوي" عراقي يتولى إدارة شؤون الحياة اليومية للعراقيين ويتولى ضبط الأمن نيابة عن قواتهم المحتلة، وذلك من أجل تقليص تكاليف قوات الاحتلال البالغة الضخامة المنتشرة في كل مكان، ومن أجل التفرغ لأهداف الاحتلال الحقيقية وأولها السيطرة على حقول النفط العراقية وإدارتها واستثمارها من منابعها وحتى أسواقها، خاصة وأنهم تطلعوا مسبقاً إلى عائدات خرافية سريعة، حيث حلموا برفع الإنتاج العراقي إلى 200% في المرحلة الأولى فقط، أي من 2.1 مليون برميل إلى 6 ملايين برميل يومياً!

لقد عكفت الإدارة الأميركية بحزم وبإصرار على تطبيق التجربة الإسرائيلية (الاحتلال الديمقراطي!) في العراق على الرغم من تعثرها الشديد في فلسطين، فكانت الانتخابات النيابية وكان الاستفتاء على الدستور، الأمر الذي يدل على أنها لا تملك خياراً آخر، ولذلك فهي تحاول تطوير التجربة بعد تلافي نواقصها وعثراتها في فلسطين المحتلة، وبالطبع فإن الإسرائيليين من جهتهم يعوّلون على نجاح المحاولة الأميركية في العراق، حيث يتوقعون أن يحسم نجاحها الوضع لصالحهم في فلسطين ضمناً ونهائياً، فيتجاوزون تلقائياً ودفعة واحدة جميع المعوّقات، بل إن نجاحها في العراق سوف يجعل البلدان العربية جميعها تخضع لمعايير "المقاول الثانوي" المحلي الديمقراطي، علماً أن بعضها خاضع لهذه المعايير سلفاً، إلى هذا الحد أو ذاك، من دون احتلال عسكري مباشر!

بالمقابل، فإن الشعب العراقي، مثله مثل الفلسطيني، لا يمكن أن تنطلي عليه مثل هذه العمليات الإحتيالية، فتستغرقه لعبة الانتخابات والاستفتاءات وتشغله عن الهم الأساسي (الاستقلال والسيادة والوحدة في وطنه) وفي حال فشل المحاولات الأميركية المستميتة، وهو الاحتمال الأقوى، فإن ذلك سينسحب على الوضع في فلسطين تلقائياً، وستتعرض المشاريع الاستعمارية الصهيونية، بصدد الشرق الأوسط الكبير، بمجملها للتقهقر والإخفاق.

www.snurl.com/375h     

Hosted by www.Geocities.ws

1