صحيفة "المجد" – الأردن -  الإثنين 23 كانون الثاني/يناير 1995

نصر شمالي: النظام العالمي الاحتكاري

بحاجة إلى تغيير وليس ترميم أو تجميل

دمشق – المجد

منذ صدور المجد، كان للأستاذ نصر شمالي إسهامه المميز في الكتابة الفكرية والسياسية على صفحاتها، كما كان لتشجيعه المتواصل في مختلف المجالات الأثر الكبير في دفع مسيرة "المجد"، والتعريف بها... سورياً ولبنانياً.

في لقاء اليوم يجيب الأستاذ شمالي عن أسئلة مندوب "المجد" في دمشق حول موازين القوى العالمية والنظام الدولي الجديد وحركته القيادية في مساحات الجغرافيا والتاريخ، علاوة على مستقبل البشرية في ظل ذلك النظام الذي يستوجب التغيير، وليس التجميل والترميم.

 

* كيف توجزون أوضاع العالم في ظل ما يسمى بالنظام العالمي الجديد؟

- ليس النظام العالمي السائد بالجديد. إن الجديد هو النظام الدولي، وليس النظام العالمي، النظام العالمي موجود وقائم منذ وجد ونهض هذا العصر الأوروبي الأميركي، أي منذ خمسمائة عام، منذ سقوط غرناطة آخر معاقل النظام العربي الإسلامي العالمي وآخر دفاعاته، عام 1492. ما بين عام 1492 وعام 1521 تحقق انتقال العالم من العصر العربي إلى الأوروبي، وتغير النظام العالمي العربي القائم على التكافؤ في العلاقات ليحل محله النظام العالمي الأوروبي القائم على الاحتكار والتمييز، والذي لا يزال سائداً في جوهره حتى يومنا هذا.

* نريد أن نستوقفكم قليلاً، لقد أثرتم عدداً من الموضوعات والأسئلة الجديدة عبر إجابتكم، ما هو الفارق، بتحديد أكثر، بين النظام العالمي والنظام الدولي. ثم أنكم حددتم الفترة الواقعة ما بين عام 1492 وعام 1521، ما معنى ذلك؟

-   النظام العالمي مرتبط بعصر عالمي، إنهما ينهضان معاً ويتغيران معاً،العصر العالمي هو عصر سيادة  عقيدة معينة، ونهج تاريخي معين، ومناطق معينة يتمركز فيها أصحاب تلك العقيدة، إن النظام العالمي هو الوجه الواقعي، التنفيذي، للعصر العالمي وعقيدته، أما النظام الدولي فهو مرحلة من مراحل النظام العالمي، تاريخ النظام العالمي يتكون من سلسلة من الأنظمة الدولية، إن تغيير الحدود السياسية، وتغيير الخارطة الديمغرافية، وتغيير العلاقات الاقتصادية في شكلها وليس في جوهرها، وكذلك العلاقات السياسية، وانتقال العاصمة الأولى في العالم من بلد إلى بلد، أو من قارة إلى قارة.. الخ، هو تغيير للنظام الدولي من دون أن يعني ذلك تغييراً في عقيدة العصر، وفي منهجه التاريخي الذي يتجسد في نظامه العالمي، أما عن الفترة الواقعة ما بين العام 1492 والعام 1521، فهي تلك الفترة التي شهدت أحداثاً جساماً على صعيد العالم أجمع، أدت إلى انتقال مراكز الإدارة من أيدي العرب إلى أيدي الأوروبيين، تلك الأحداث هي: سقوط غرناطة عام 1492، واكتشاف القارة الأميركية في العام نفسه، واكتشاف رأس الرجاء الصالح عام 1497، والوصول إلى الخليج العربي والتمركز في مضيق هرمز ثم الوصول إلى الهند في الأعوام القليلة التالية، والتأكد من كروية الأرض عملياً، وبالتجربة المباشرة، عبر رحلة ماجلان التي انتهت في العام 1521، هذه الأحداث الهائلة حققت انقلاباً جذرياً أسقط العصر العربي الإسلامي، ونظامه العالمي، الذي خسر طرقه التجارية الدولية، وانقطعت صلته بعمقه التاريخي الاستراتيجي المتمثل بحوض المحيط الهندي، فعزل العرب في بلادهم التي كانت مراكز إدارة العالم، لتتحول إلى مناطق محاصرة، أو تابعة، أو ثانوية في السياسة الدولية، بينما نهض العصر الأوروبي، وبدأت عواصمه تبرز وتحل محل العواصم العربية الإسلامية التي انكفأت واضمحلت، إنها ثلاثون عاماً، نهض منها هذا العصر بفضل سيطرته على حوض الثروات الأزلية، حوض المحيط الهندي، واكتشافه القارة الأميركية بكل ثرواتها، ووضع يده عليها.

* ما هي الميزة الفاصلة، والفارق الحاسم، بين العصر العربي والعصر الأوروبي؟

-   إنها العقيدة، وإنها الوظائف المنبثقة عن هذه العقيدة، عقيدة العصر العربي إنسانية، تقوم على التكافؤ، ولا تفرق بين عربي وأعجمي ولا بين أسود وأصفر وأبيض، وترفض التمييز والاحتكار، وتحض جميع الناس في جميع مناطق العالم على التطور والتقدم والارتقاء، وعلى التفاعل الإيجابي السلمي، فيما بينهم، أما عقيدة العصر الأوروبي فهي تلمودية تقوم على النقيض، فتستبيح دماء الآخرين وأراضيهم وأموالهم كحق مشروع لها، إن العالم محكوم منذ خمسمائة عام بهذه العقيدة التلمودية التي يجسدها نظام احتكاري عالمي. وأن المطلوب، والواجب، هو تغيير هذا النظام العالمي، وليس تجميله أو ترميمه.

* إذن، نحن نعيش اليوم في ظل نظام دولي جديد، وليس نظام عالمي جديد، ما هي سمات وملامح  وخصائص هذا النظام الدولي، وبماذا يتميز عن الأنظمة الدولية التي ظهرت قبله؟

-   إن الإجابة تقتضي عرضاً سريعاً للأنظمة الدولية، أو المراحل التاريخية، في خطوطها العريضة، التي توالت عبر هذا العصر الأوروبي، ففي البداية، منذ مطلع القرن السادس عشر، سادت المرحلة الإيبيرية، أو البرتغالية الإسبانية، التي دامت مائة عام تقريباً. إنها المرحلة الكاثوليكية اللاتينية، التي كان للبابوية في روما دور بارز فيها، وقد حاولت هولندا وفرنسا منافسة البرتغاليين والإسبان، غير أنهما لم تنجحا في تحقيق نجاح حاسم، طبعاً كان العالم بأجمعه ميداناً لذلك التنافس الرهيب، الحربي والسلمي، ثم برزت إنجلترا متأخرة قليلاً عن غيرها، إنجلترا البيوريتانية أو البروتستانتية، إنجلترا الأنجلوسكسونية، التي نهضت سياستها بالدرجة الأولى على "العهد القديم"، حيث فهمت منه بحماسة أنها مخولة بالتصرف بالآخرين وبأراضي الآخرين كما تشاء، إن إبادة الآخرين والاستيلاء على ممتلكاتهم يرضي الرب الأنجلوسكسوني ولا يغضبه، لقد نجحت إنجلترا، منذ أواخر القرن السادس عشر، وبعد إلحاق الهزيمة الماحقة بأسطول الأرمادا الإسباني، في احتلال موقع الصدارة في العصر الأوروبي ونظامه العالمي، واستمرت في موقعها الرئيسي إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى، ثم بدأت تضمحل، ثم خسرته نهائياً بعد الحرب العالمية الثانية، حيث برزت الولايات المتحدة كإدارة عالمية لا ينازعها أحد على موقعها الأول.

* معنى ذلك أن القيادة العالمية انتقلت إلى قارة أخرى، ألا يبدل ذلك في هوية العصر؟

-   صار العصر أوروبياً أميركياً، الولايات المتحدة تطاول أوروبي، امتداد أوروبي، وكذلك استراليا، والكيان الصهيوني في فلسطين العربية المحتلة. ولكن حتى لو أصبحت طوكيو عاصمة أولى للعصر، فإنه سوف يظل أوروبياً سوف يغدو أوروبياً يابانياً. لماذا؟ لأن ما يغيره هو تغير العقيدة والنهج التاريخي، أما إذا استمرت العقيدة ذاتها، والنهج ذاته، فإنه سيبقى عصراً أوروبياً حتى وإن أصبحت عاصمته الأولى القاهرة، أو الدوحة. في العصر العربي الإسلامي حدث ذلك أيضاً، عندما انتقلت العاصمة المركزية، في نهاياته، إلى الأستانة، لقد بقي العصر عربياً. عربياً عثمانياً.

* وكيف حدث أن انتقلت إدارة النظام الاحتكاري العالمي إلى واشنطن، إلى قارة أخرى؟

-   حدث ذلك نتيجة الحرب الأزلية بين أطراف رأس المال الأوروبي، بين البلدان الأوروبية، التي تتشكل من فسيفساء عرقية ودينية معقدة جداً، لقد خاضت الدول الاستعمارية ضد بعضها حروباً ضارية على طريق اقتسام العالم، سواء على الأرض الأوروبية بالذات، أو في القارات الأخرى، وكان هاجس توحيد أوروبا خلف عاصمة واحدة عنصراً ثابتاًًًًً وراء نشوب الحروب العظمى، استماتت باريس من أجل تحقيق ذلك وبالمقابل استماتت برلين بدورها لتحقيق الهدف نفسه، وعندما وصلت الدول الاستعمارية جميعها إلى مرحلة اقتسام العالم بكامله، في مطلع  القرن الحالي، كانت أوروبا قد غدت منهكة مبددة القوى، مادياً وبشرياً، كانت بريطانيا قد أصبحت إمبريالية منذ عام 1895، أما الولايات المتحدة فقد أصبحت إمبريالية في عام 1897، أي بعد عامين. وبينما كانت بريطانيا منهكة أشد الإنهاك، مثلها مثل بقية الدول الاستعمارية الأوروبية، كانت الولايات المتحدة في ذروة حيويتها وعنفوانها وازدهارها، فهي قابعة خلف المحيط، موحدة، لا تشترك في الحروب وتستفيد من الحروب إلى أقصى حد. كانت توّرد السلع والرساميل للمتحاربين دون تمييز، وتستقبل الرساميل والصناعات الأوروبية المهاجرة في بلادها، وهكذا، عندما بلغت بريطانيا مرحلة الإمبريالية لم تعد قادرة على مواصلة دورها القيادي الرئيسي في الحياة الدولية أما الولايات المتحدة فكانت تمتلك من الإحتياطات، ومن الحيوية، ومن أسباب التطور، ما جعلها قادرة على المضي بعيداً وطويلاً إلى الأمام، وعلى احتلال مركز قيادي عالمي لا يقبل المنافسة في الأساسيات.

* ولكن، أين كان موقع الاتحاد السوفياتي في تلك التحولات الهائلة، وهو الذي كان طرفاً رئيسياً في الحربين العالميتين الأولى والثانية؟

-   ظهور الاتحاد السوفياتي كان حدثاً نوعياً، إن التجربة السوفياتية بكل نواقصها هي الوجه الإيجابي للعصر الأوروبي، باعتبارها نتاجه، لقد استفادت الثورة البولشفية من ظروف الحرب العالمية الأولى لتحقيق انتصارها الرائع، ولكن الشروط التاريخية الأخرى لم تكن في صالحها، مثلاً: تلك الثورة الاشتراكية انتصرت في لحظة تاريخية كان النظام الرأسمالي فيها قد بلغ أوج صعوده ببلوغه مرحلة الإمبريالية، وكان يمتلك طاقات واحتياطات هائلة، وبخاصة في الولايات المتحدة، تمكنه من الاندفاع  بقوة إلى الأمام على مدى عقود طويلة من السنين، ولذلك، فقد كان بإمكانه محاصرة التجربة الاشتراكية في مواقعها الأولى مهما أبدت من ضروب البسالة والصمود، حيث هو، النظام الرأسمالي، يسيطر تماماً على السوق الدولية ويستطيع الحيلولة دون وصول الاتحاد السوفياتي إليها، وإبقائه معزولاً مهما طال به الزمن، هذا الشرط لم يكن مواتياً أبداً لثورة ذات أفق أممي، أما الشرط الثاني فيتعلق بمسرح الحدث الثوري، لقد انتصرت الثورة في بلاد نائية، متطرفة، على تخوم الثلاجات السيبيرية، بعيداً جداً عن مناطق الثروات العالمية والأسواق الدولية العملاقة، بعيداً عن حوض المحيط الهندي بالذات، هذا الحوض الذي كان تحت سيطرة الدول الاستعمارية الأوروبية، ثم وقع عموماً في قبضة الولايات المتحدة. وهكذا افتقدت الثورة الاشتراكية شرط اللحظة التاريخية المناسبة، فيما يتعلق بجاهزية النظام الرأسمالي للهزيمة، حيث هو لم يكن جاهزاً للهزيمة، وإنما كان في حالة تقدم قوية، وافتقدت شرط المكان المناسب، ومع ذلك، فإنها صمدت لمدة سبعين عاماً، ومن يصمد سبعة عقود يمكن أن يصمد سبعة قرون، أي أنها برهنت عن إمكانية تغيير النظام الاحتكاري العالمي، بالإضافة إلى فضحها لعيوبه، وكشفها عن سيرورة أزماته، لقد كانت تجربة تاريخية فذة رائعة، على الرغم من جميع عيوبها ونواقصها، كانت إرهاصاً للعصر القادم، والنظام العالمي القادم مثلما كانت المسيحية إرهاص الإسلام.

* ولكن قوة المعسكر الاشتراكي بدت لسنين طويلة متكافئة مع قوة المعسكر الرأسمالي؟

-   صحيح كان ذلك تكافؤاً عسكرياً نووياً، دفع الاتحاد السوفياتي ثمنه غالياً في النهاية، فهو كان يمول برنامجه الدفاعي الحربي من لحمه الحي، من عرق ودماء أبنائه. كان يصرف من أصل كل خمسة روبلات ثلاثة روبلات لصالح الدفاع، والخارجية، تلك كانت كارثة. الاستمرار على ذلك النحو لم يكن ممكناً، لقد كان محاصراً طوال الوقت، معزولاً عن السوق الدولية بحزم، وهذا الحصار وتلك العزلة  أدتا إلى توقف التطور التقني، هذا التطور الذي يشترط وجود الأسواق الدولية وقيام المنافسة القوية، ان الأسواق الدولية والمنافسة القوية هي سر التطور التقني المتواصل في البلدان المتقدمة الرأسمالية، الحصار والعزل، والتخلف التقني، والفساد الإداري، والنفقات الحربية الهائلة، وانسداد الأفق الكفاحية في المناطق الأخرى من العالم، كل هذا وغيره أدى إلى انهيار التجربة السوفياتية.

* هانحن قد وصلنا إلى انسداد الأفق الكفاحية، أي إلى تقهقر حركات التحرر العالمية، ومنها حركة التحرر العربي، ما هي قصة هذا الانسداد؟

-   قد تبدو الإجابة غريبة، لكن قصة الانسداد، طالما أننا استعملنا هذه الكلمة، تتعلق بسوية وعينا للعصور البشرية المتوالية، ومن ثم طريقة فهمنا للمرحلة الراهنة من هذا العصر الأوروبي الأميركي، غني عن التوضيح أن معارفنا، ومعارف الأمم جميعاً، التي تكونت عبر الخمسمائة عام الماضية، صاغتها وأشاعتها عالمياً إلى حد كبير جداً المركزية الأوروبية، هذه المركزية التي أقنعت العالم، طوعاً أو كرهاً، باعتبار أوروبا مركز جميع العصور التاريخية، وهكذا أصبحت المعايير والمقاييس والمراجع الأوروبية هي الأساس في التفكير والسلوك، ولها القول الفصل في جميع المسائل، ولا يخفى أن الأمم انصاعت للمركزية الأوروبية بسبب الاستعمار الذي جعل مخالفتها أمراً شبه مستحيل، وجعلها قادرة على صياغة العلاقات الرئيسية داخل الأمم المستعمرة بسبب سيطرتها على التعليم وعلى الاقتصاد، عندما انتهت الحرب العالمية الثانية استبشرت شعوب المستعمرات خيراً وهي ترى جلاء القوات العسكرية الاستعمارية عن بلادها، لقد اعتقدت قيادات البلدان المستقلة حديثاً أنه قد آن الأوان لردم الهوة بين بلدانها وبين البلدان المتقدمة، كانت المركزية الأوروبية قد أدخلت في روع تلك القيادات أن تخلفها يعود إلى أسباب ذاتية تتعلق بخصائص بلدانها، هي اعتقدت أن تحقيق جلاء قوات الاستعمار القديم كفيل لوحده بجعل بلدانها تنطلق سريعاً على طريق التنمية والتقدم، الخداع الأوروبي على مدى مئات السنين جعلها لا ترى وحدة شبكة النظام الاحتكاري العالمي، لقد اعتقدت أن تحقيق التقدم متاح لها وإنه مسألة محض ذاتية ومحض إرادية، بعد الحرب العالمية الثانية كانت الولايات المتحدة قد أمسكت بزمام العالم، وكانت تتطلع إلى إنجاز مهمتين عاجلتين هما: تحديث الاستعمار الذي أصبحت أشكاله وأساليبه القديمة، وأولها الاحتلال العسكري المباشر، تتناقض مع أسلوبها وطرائقها، فبات ضرورياً بالنسبة إليها كنس كل نفوذ استعماري أوروبي، عسكري أو غير عسكري، من المستعمرات، وإحلال أسلوبها الحديث الذي يعتمد على القروض وفوائد القروض، وعلى المستشارين ونصائح المستشارين، وعلى الاستخبارات وعملاء الاستخبارات، وعلى الخبراء وألاعيب الخبراء المكلفة، وعلى القوى المحلية، الخائنة بحكم تربيتها وتكوينها.. الخ. أما المهمة الثانية العاجلة فكانت إجهاض حركات التحرر التي انتعشت نتيجة "الإستقلالات" الوهمية، نتيجة أوهام الاستقلال. وهكذا فقد كان جلاء الاستعمار القديم، واندفاع المستعمرات على طريق أوهام الاستقلال وتحقيق التنمية، كلاهما يصبان في صالح الاستعمار الأميركي الحديث، لقد ظلت حركات التحرر على مدى عقدين من الزمن وأكثر بعد الحرب الثانية تطارد فلول الاستعمار الأوروبي القديم الذي مضى زمنه وانقضى. ظلت تناضل ضده، وغفلت عن الاستعمار الأميركي الحديث، الذي كان يحل محله بسرعة، بل هي رأت في الأميركيين أنصاراً للتحرر ودعاة للتنمية والتطور، ومصدراً للقروض والخبرات والأجهزة، فرحبت بهم وسهلت مهمتهم في السيطرة على العالم بشقيه، المتقدم والمتخلف، لقد تبددت قوى تحررية هائلة، وضاعت فرص تاريخية نادرة، بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، حيث الشعوب المتعطشة للحرية، المستنفرة بكليتها، كانت قادرة أن تقطع الطريق على صعود النظام الرأسمالي الاستعماري إلى المرحلة الأميركية الأعلى، والأشد تعقيداًَ وعتواً وبغياً، لكن سوية وعي قياداتها لم تمكنها من إدراك حقيقة التحولات التي تحدث في العالم، وقد مر وقت طويل جداً أيضاً قبل أن تدرك أنها وقعت في شباك المرحلة الاستعمارية الأميركية.

* إذن مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية هي مرحلة الاستعمار الأميركي الحديث، فهل بالإمكان توضيح سماتها أكثر؟

-   هذا الشكل الجديد للاستعمار صاغه العقل الأميركي، وجعله يشبه في بنيته الدولية الشركة الاحتكارية فبدلاً من الاحتلال العسكري المباشر القديم، تعطى المستعمرة البائسة استقلالها الشكلي، وتُربط بالشبكة الاحتكارية الدولية كشريك صغير، وبالطبع، تصبح الشؤون السياسية والاقتصادية لدولة المساهم الصغير "المستقلة" في أيدي إدارة الشركة الدولية أي في أيدي الإدارة الاستعمارية الأميركية، تديرها وتوجهها حسب مصالحها، من دون أن تدع لها مجالاً للإفلات، فكأنما هي وقعت في شبكة من نسيج العنكبوت، ولقد أصبحت هيئة الأمم المتحدة بمثابة الهيئة العامة للشركة، وأصبح مجلس الأمن بمثابة مجلس الإدارة والاحتكار الأميركي بمثابة رئيس مجلس الإدارة الذي يملك الكمية الأعظم من الأسهم، ويسيطر على أسهم الآخرين سواء أكانوا أغنياء أم فقراء، أما البلدان المنهوبة فقد أوكل الاحتكار أمرها إلى وكلاء يديرونها نيابة عنه بالطرق المناسبة، ويتقاضون لقاء خدماتهم جزءاً تافهاً من محصلة النهب الإجمالية.

*  بعد هذا العرض، كيف تبدو لكم آفاق المستقبل، في ظل الأوضاع الدولية الراهنة؟

-  اليوم، تبدو واشنطن في ذروة صعودها وعظمتها وجبروتها وقد أنهكها الضعف، إنه الضعف في ذروة القوة. لقد صار العالم في ظل إدارتها المرابية مقفراً موحشاً، مجدباً، مرعباً، فلا فنون ولا آداب، ولا شعر ولا موسيقى، لا مسرح ولا سينما، لا فلاسفة كباراً ولا قادة عظاماً، وإنما الموات والخواء واليأس والخبل والعدمية، وعلى نطاق عالمي واسع ليس ثمة حاضر مقبول ومرغوب، ولا مستقبل مأمول ومنشود، والمخدرات تتفشى في جميع بقاع الأرض، والموتى بسبب الجوع  والحروب الوحشية بعشرات الملايين. ان عرض الأسباب التي جعلت الأوضاع الدولية تؤول إلى ما آلت إليه يحتاج إلى شرح طويل، ولكن، باختصار، العالم يجتاز مرحلة انتقالية، إنه لم يعد كما كان في الماضي وهو لم يصبح بعد ما يجب أن يكون عليه في المستقبل، إن جميع الدلائل المتوفرة تبرهن على أن هذا النظام الاحتكاري العالمي وإدارته الأميركية لم يكن في أي يوم قابل للهزيمة وللزوال مثلما هو حاله اليوم على الرغم من جميع المظاهر التي توحي بعكس ذلك، لقد فقد هذا النظام العالمي كل ضرورة تاريخية تبرر استمراره، لقد غدا عبئاً ومعوقاً للإنسان حتى في البلدان المتقدمة، وأن مصيره متوقف على نهوض البدائل، ونهوض البدائل صار ضرورة تاريخية ملحة، إن نهوض الأمة العربية بالذات هو شرط من شروط نهوض البدائل لمصلحة العالم أجمع، وان هذا ما سوف يتحقق إن عاجلاً أو آجلاً.  

 

Hosted by www.Geocities.ws

1