من انتفاضة الحجارة إلى انتفاضة الصواريخ!

الإسرائيليون يرون في المقاومة نقيضاً للديمقراطية،

ويرون في الانكفاء القطري طريقاً إليها!

بقلم: نصر شمالي

على مدى عقود طويلة من السنين، تكاد تبلغ القرن، واظبت الأمة العربية والإسلامية على تكرار محاولات نهوض متعثرة، سرعان ما كانت تنكفئ تباعاً، مخلّفة الخيبة والفجيعة والحزن العميق، فقد تفجرت في جميع الأقطار ثورات شعبية مسلحة وغير مسلحة، ووقعت انقلابات عسكرية بيضاء وحمراء، بلغت ذراها في الجزائر ومصر والعراق وسورية وغيرها، وبغض النظر عن ألوان الرايات المرفوعة، وعن ما لا يحصى من التفاصيل المضنية، فقد كانت جميعها تعكس في التحليل الأخير مجرّد محاولات نهوض أمة كابية، وقد ظلت المحاولات تتوالى بينما هي محكومة مسبقاً بالفشل! وعلى الرغم من الحكمة المعروفة القائلة بأن تكرار المحاولة نفسها وتوقع الحصول على نتيجة مختلفة هو جنون مطبق، فإن تلك المعرفة ما كانت لتحول دون التكرار الذي لم يكن تجنبه ممكناً، لأنه آخر ما يشير إلى وجود الأمة وحيويتها وقابليتها للنهوض!

غير أن تلك التجارب الكثيرة الفاشلة نجحت أخيراً في تحقيق نتيجة تاريخية عظيمة الأهمية هي ذلك التطور الذي تحقق في البنية الداخلية للأمة نتيجة العذابات الطويلة الفظيعة. إنه التطور الذي عبّر عن نفسه بالانتفاضة الفلسطينية الأولى، انتفاضة الحجارة في مواجهة الدبابات، التي أدرك العدو قبل الصديق معانيها التاريخية، وفاعليتها الميدانية، وجدواها وآفاق تطورها، فتلك الانتفاضة أشارت إلى تبلور الإرادة الذاتية للأمة بصورة كافية، وإلى كونها إرادة صارت ممتنعة على الاختراق والانكفاء، وصارت تمتلك حرية الحركة الذاتية غير المحكومة بمؤثرات من خارجها، تفرض عليها مسبقاً حجم المعركة وزمانها ومكانها، بل ونتائجها السلبية، كما كان يحدث في محاولات النهوض الفاشلة المتكررة على مدى عشرات السنين، أي أن الانتفاضة الفلسطينية الأولى عبّرت بالدرجة الأولى عن نجاح الأمة عموماً في النهوض على الأرض الفلسطينية (مجرّد النهوض) الذي تكرر لاحقاً وبسرعة في لبنان والعراق.

إن الأمة عموماً، ممثلة بالمقاومة، تمتلك اليوم نسبياً (في فلسطين ولبنان والعراق) إرادتها الذاتية المستقلة، وحرية حركتها الذاتية المستقلة، وفاعليتها الميدانية الذاتية المستقلة، من دون التعويل على دعم من خارجها، لا من النظام الرسمي العربي ولا من الدول الأجنبية الصديقة، فمثل هذا الدعم إذا تحقق يزيد من فاعليتها، لكن حجبه عنها لا ينال من وجودها وفاعليتها.

ولكن، إذا كنا نعيد الفضل في تحقق هذا التطور إلى الانتفاضة الفلسطينية الأولى، انتفاضة الحجارة التي تطورت في العراق إلى انتفاضة الصواريخ المضادة للطائرات، فإن لمن البديهي أن هذا التطور هو محصلة المحاولات والتجارب المتكررة الفاشلة التي سبقته، فهو ما كان ممكناً أن يأتي من فراغ، حيث تلك التجارب الوطنية والقومية والإسلامية، العسكرية والمدنية، كانت مقدمته المنطقية التي ما كان له أن يتبلور من دون معاناتها، غير أن البعض من أوساط نخبنا لا يريد أو لا يستطيع رؤية السياق التاريخي بهذه الصورة، فهو يحكم على تجارب الماضي المتكررة الفاشلة، بل المفجعة، بالإدانة التامة، مغفلاً أن الأمة الكابية لا يمكن إلا أن تتعرض لما حدث، وهو بالتالي لا يرى في التطور البنيوي المقاوم إلا فجيعة أخرى منفصلة تستحق الإدانة بدورها، فهذا البعض يلحّ على تحقيق حياة عصرية وادعة هادئة في كنف من حرمونا دهوراً أسباب الحياة العصرية الوادعة الهادئة، وبالطبع فإن تحقيق أهداف هذا الإلحاح هو المستحيل بعينه!

لكن العدو التاريخي، الخارجي والداخلي، أدرك جيداً مغزى وخطورة التطور الذي طرأ على البنية التحتية للأمة، ومغزى امتلاكها لإرادتها المستقلة ولحرية حركتها الذاتية، باعتباره الطريق الوحيدة للخلاص، فنراه اليوم موحّداً في معالجة همّ رئيس، في فلسطين ولبنان والعراق، هو هذا التطور البنيوي تحديداً، فليس من شك في أن هدفه الأعظم اليوم هو استئصال ظاهرة المقاومة بمكوّناتها الجديدة.

في معرض حديثه مؤخراً عن البيئة الاستراتيجية في المنطقة العربية رأى رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (آهارون زئيفي) أنها مريحة للإسرائيليين، وعبّر عن أمل مشوب بحذر شديد في النجاح بتدمير المقاومة واستئصالها، في فلسطين ولبنان والعراق، وبنبرة احتفالية مبالغ فيها أشار إلى أن "الشرق الأوسط" انتقل من عملية تغيير بفعل الخارج إلى عملية تحوّل تحدث من الداخل، وشرح أن الانتقال من التغيير بالإملاء الخارجي إلى التحول الذاتي الطوعي له أثره الكبير في القوى التي تصوغ الوضع الجديد للمنطقة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، موضحاً أن الأميركيين في عامي 2004 – 2005 كانوا قوة التغيير الأساسية، أما الآن، ابتداء من عام 2006، فإن القوى الداخلية العربية تؤدي ذاتياً دوراً مهيمناً في عملية التحوّل الديمقراطي. ومن وجهة نظر المسؤول الصهيوني فإن ذلك يتجلى في الانكفاء العربي نحو تعزيز الدولة القطرية، حيث المصالح القطرية تتعاظم على حساب المسؤولية العربية الجماعية المتضائلة، وحيث الوطنية / القطرية هي ما يشغل اليوم مواطني البلدان العربية أكثر من الأحداث التي تقع خارج حدودهم!

لكن مسؤول الاستخبارات الصهيوني سارع إلى النصح بالتمييز بين الديمقراطية والدمقرطة، ففي رأيه أن الديمقراطية ما زالت غائبة أو بعيدة عن الشرق الأوسط، أما الدمقرطة فهي تعمل الآن على إحداث تغييرات عميقة، والمثال الأول الذي أعطاه هو ما يحدث في لبنان، وبالطبع فإن الدمقرطة التي يعنيها هي تجريد المقاومة من السلاح، وتجريد الشعب من المقاومة التي هي نقيض الديمقراطية! أي أن الديمقراطية التي يسعى العدو لتحقيقها هي إعادة الأمة إلى حالة ما قبل انتفاضة الحجارة، وجعلها تستسلم طوعياً وذاتياً، من دون أن ينتهي تبعثرها وشتاتها، ومن دون أن يتوقف نهبها وتعذيبها!

www.snurl.com/375h

 

Hosted by www.Geocities.ws

1