لماذا استحالة نجاح الاحتلال في العراق؟

التربية الأجنبية تنتج مثقفاً مسكيناً يتخبط كالأعمى

الذي يرغم على معرفة الألوان التي توصف له بالألفاظ!

بقلم: نصر شمالي

لن تستمر الولايات المتحدة طويلاً في موقعها الحالي، حيث العالم أصبح في وضع أكبر وأعقد بكثير من أن يكون معه قابلاً لهيمنتها الأحادية، وكذلك لأنها لم تعد تملك السطوة الكافية للسيطرة على اللاعبين الكبار الأساسيين في العالم! هذا ما نقلته وكالة "فرانس برس" عن المفكر الفرنسي عمانوئيل تود (27/11/2005) المتخصص في دراسة نشوء الحضارات وانهيار الحضارات.

ليست الولايات المتحدة سوى استطالة أوروبية، تاريخية وجغرافية وسياسية، فهي التطور الأعلى والأخير للعصر الأوروبي الذي انطلق في مطلع النصف الثاني من الألف الميلادية الثانية، وهي قبل تأسيسها كانت الرافعة العملاقة لهذا العصر في بداية انطلاقته، وسوف تكون آخر احتياطياته وخاتمته كما تشير الوقائع المعاشة، ويستطيع أي كان تلمس ذلك بقراءة تاريخ صعود الإمبراطوريات واضمحلالها وزوالها، إضافة الى تتبع الوقائع التي تؤكد كل يوم أن استفحال أزمة هذا النظام العالمي أصبحت عصية على أي حل منطقي.

ويعطينا مثال احتلال العراق الدليل الأكبر والأوضح على ما ذهبنا إليه، حيث انهارت جميع الذرائع التي اعتمدت عليها واشنطن في تبرير الاحتلال، وتحولت النتيجة التي كانت مرجوة من نجاح الاحتلال الى ذريعة للاحتلال! وها هو الرئيس الأميركي يردد بين يوم وآخر أن إشاعة الليبرالية الديمقراطية في العراق والمنطقة عموماً هو الدافع للاحتلال، معترفاً بتلفيق الذرائع التي أعلنت واعتمدت عشية الحرب الظالمة، غير آبه للفضيحة التي ترتبت على ذلك، وغير ملتفت الى ما يفترض أن يبنى عليها من تراجع وتعويض واعتذار!

إن الإدارة الأميركية، التي هي استطالة أوروبية إنكليزية بالدرجة الأولى، تحاول أن تكرر اليوم في العراق ما فعله أسلافها البريطانيون في الهند، فمشروع "الشرق الأوسط الأكبر" الأميركي يبدو محاولة لتكرار مشروع "شركة الهند" الإنكليزية الذي استندت إليه الإمبراطورية البريطانية في نهوضها، وحكاية إشاعة الليبرالية الديمقراطية في البلاد العربية والإسلامية، انطلاقاً من العراق كما يقول الرئيس بوش، ليست سوى تكراراً لبرامج التعليم والتأهيل الإنكليزية التي اعتمدتها لندن في الهند لعشرات السنين، وكذلك الحال بالنسبة لتصورات واشنطن عن إدارتها للمنطقة، وعن القوات التي تحتاجها لتحقيق سيطرتها، فما الذي حدث في الهند، وهل يمكن تكراره في العراق بعد مئات السنين، وبعد كل ما طرأ على أوضاع العالم من تغييرات؟

لقد احتلت لندن الهند في لحظة تاريخية انتقالية مناسبة، وفي ظروف عالمية مواتية، وحكمتها بعدد من الموظفين المدنيين الإنكليز لا يزيد عن الألف، مخصصة لهم رواتب ضخمة جداً جعلت منهم طبقة عليا متميزة، بحيث أصبحت مكانة أقلهم شأناً تفوق مكانة أية شخصية هندوسية مهما علا شأنها، فتكفل أولئك الموظفون الألف بإدارة "الخدمة المدنية" التي سيطرت على مئتي مليون إنسان، يدعمهم جيش إنكليزي لا يتجاوز تعداده عشرات الألوف في أية مرحلة من المراحل، أمّا السّر في تحقيق السيطرة الإنكليزية الشاملة فهو مئات الألوف من الموظفين المدنيين الهندوس، ومئات الألوف من الجنود الهندوس، الذين كانوا تحت إمرة الموظفين والضباط الإنكليز، والذين قاموا باحتلال وإدارة أنفسهم بأنفسهم لصالح بريطانيا، فهل اللحظة التاريخية الانتقالية الراهنة والظروف العالمية الحالية مناسبة ومواتية ليفعل الأميركيون في العراق وغيره ما فعله الإنكليز في الهند وغيرها؟

لقد أرادت لندن في القرن التاسع عشر، عبر برامج تعليمية مكثفة، تقويض الثقافة الهندوسية وإحلال الثقافة الإنكليزية محلها كشرط لديمومة سيطرتها، فما الذي نجم عن تلك التجربة؟ لقد رأى الإنكليز أن جهودهم التربوية أسفرت عن ظهور طبقة هندوسية خاصة، شملت مئات الألوف من المثقفين، تتسم بفقدان الاتزان عقلياً وخلقياً، حيث عجزت عن إدراك أبعاد الأفكار الأوروبية التي حشرت في أدمغتها، وحيث التربية الاصطناعية أنتجت مثقفاً هندوسياً مسكيناً، يتخبط في عالمه الجديد كالأعمى الذي يرغم على معرفة الألوان بوصفها بالألفاظ! يقول غوستاف لوبون في وصف ذلك المثقف الهندوسي الذي أنتجته التربية الإنكليزية: "لا شيء يعدل عدم ترابط أفكاره غير هوسه المستعصي في الكلام بلا هدوء وبلا تعقّل، فإذا لقي أوروبياً حدثه بوقار، من غير أن ينتظر جواباً، عن ترجيحه شكسبير على غيره! ولا أمر يثير الدهشة أكثر من عدم ترابط أفكار المثقف الهندوسي، فهو يفسر ما تعلمه من المبادئ الأوروبية على حساب مبادئ قومه الموروثة التي لا ينتهي إليها، ولا يستخف إلا بها أيضاً، وذلك نتيجة الهاوية التي أغرقته فيها تربيته الإنكليزية! وبالإضافة الى الارتباك الفكري الهائل لدى المثقف الهندوسي (بالثقافة الأوروبية) هناك تجريد التربية الأوروبية إياه من أي خلق، فما كان يستند إليه في حياته من الأسس الهندوسية المتينة قد زال الى غير رجعة، فخسر إيمان آبائه من غير أن يستبدل به المبادئ الأوروبية، وانحصر صدقه في مراعاة قواعد الأخلاق العامة التي يلزمه الشرطي بمراعاتها! لقد أدى تطبيق التربية الأوروبية على الهندوسي الى تقويض ثقافته الوطنية، والى إحداث ما لم يعرفه من الاحتياجات، من غير أن تمّن عليه ثقافته الجديدة بالوسائل التي تحقق تلبية احتياجاته، الأمر الذي جعله بائساً!" هذا ما قاله غوستاف لوبون، أما العالم الإنكليزي موني وليامز فقد قال: "قد يستطيع مثقفو الهندوس القراءة كثيراً، لكن لا توجد محصلة لما يفكرون فيه، فهم ثرثارون يقذفون من أفواههم كلاماً لم يهضموا معانيه، ويدلً كلامهم وتدلّ حركاتهم على أنهم قاصرين. إنهم يهملون لغتهم، ويزدرون آدابهم وفلسفتهم ودينهم، من غير أن يكتسبوا شيئاً من صفات الأوروبيين"!

وهكذا، تحت عنوان إشاعة الثقافة والعلاقات الليبرالية الديمقراطية، تحاول واشنطن اليوم في العراق وغيره تكرار ما جربته لندن بالأمس في الهند وغيرها، ولو قدّر لمحاولتها أن تمتد لعشرات السنين القادمة، فسوف نجدها في النهاية تتحدث عن عقم المحاولة، وعن المثقفين العرب القاصرين الذين يقذفون من أفواههم كلاماً لم يهضموا معانيه! غير أن استمرار هذه المحاولة مستحيل لحسن الحظ، بفضل مناعة ثقافتنا وتراثنا، ولأن المحاولة ولدت ميتة في العراق، بدليل ما ذكرته مجلة نيوزويك الأميركية ونقل عنها (في 27/11/2005) بأن 70% من الشعب الأميركي يرون أن بلدهم سيغرق أكثر فأكثر في مستنقع الحرب العراقية.  

  www.snurl.com/375h

Hosted by www.Geocities.ws

1