بغداد وكوالالمبور في مواجهة الاستبداد الأميركي!

بقلم: نصر شمالي

انعقدت في كوالالمبور عاصمة ماليزيا (12/12/2005) القمة الحادية عشرة لرابطة دول جنوب/ شرق آسيا تحت هاجس رئيس هو التحرّر من الهيمنة الأميركية. وتضم هذه الرابطة (آسيان) عشر دول هي: بورما، بروناي، كمبوديا، أندونيسيا، لاوس، ماليزيا، الفيليبين، سنغافورة، تايلاند، وفيتنام، التي هي دول طالما عانت، ومازالت تعاني، من السياسات الاستعمارية الاحتكارية، الأوروبية والأميركية. وبما أن هذه الدول تواجه كتلة دولية تاريخية ظالمة لا يمكن الاستهانة بجبروتها، وليس سهلاً التخلص من أنيابها وبراثنها دفعة واحدة، فقد دعيت للمشاركة في أعمال القمة كل من الصين الشعبية، واليابان، وكوريا الجنوبية، بل والهند واستراليا ونيوزيلندا أيضاً! إن رابطة دول جنوب شرق آسيا تحاول أن تضع قدمها على أول طريق التحرر من النفوذ الأميركي، فالولايات المتحدة ليست مدعوة لحضور هذا المؤتمر الآسيوي، وأعمال الرابطة يطغى عليها الطابع الاقتصادي، حيث الاقتصاد هو محور الصراع الآسيوي/ الأميركي، وهذا ما يفسّر دعوة بعض الدول الحليفة للولايات المتحدة لحضور القمة، حيث ينبغي إغلاق السبل ما أمكن في وجه الهيجانات الأميركية العدوانية الشرسة!

عالم من الكانتونات/ الدول!

يكتسب نشاط دول جنوب/ شرق آسيا أهميته العظمى من أهمية اللحظة التاريخية الأممية الراهنة، حيث يتطلع الأميركيون إلى تشكيل عالم يضم عدداً هائلاً من الكانتونات/ الدول، وهو المشروع الذي انطلق منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، والذي تشكل منطقتنا العربية ركناً أساسياً من أركانه، الأمر الذي يجعلنا معنيون كثيراً بنشاطات دول جنوب/ شرق آسيا التي تشكل خط دفاع عظيم  ضدّ المصير المظلم المقرّر لأمتنا، فنجاح هذه الدول نجاح لنا، والعكس بالعكس، وليس من ريب أن ضرورة تعاضد الأمم لم تكن واضحة وعملية في أي زمن مضى كما هو حالها اليوم، حيث توفرت الشروط الموضوعية للبدء بالتأسيس لعالم جديد، نظيف وعادل، آن أوان نهوضه بعد أن يستكمل شروطه الذاتية.

ويتوجب علينا الانتباه إلى أن السياسة الأميركية الحالية في عهد إدارة بوش هي ذاتها، من حيث الجوهر، في عهد إدارة الرئيس كلينتون، وما استجد لا يخرج عن نطاق الأدوات والشكليات، ففي أيلول/ سبتمبر عام 1999 قام الرئيس الأميركي كلينتون بجولة في آسيا كانت من أهم محطاتها نيوزيلندا، حيث على مقربة من هذه الدولة الاستيطانية تنهض قاعدة "دييغو غارسيا" الأميركية العملاقة، التي تشغل في العمق الجنوبي من المحيط الهادي جزيرة غير مأهولة، وحيث أمامه، على مقربة أيضاً، الدولة الأسترالية الاستيطانية الأخرى، ومن هناك راحت تتردّد تصريحاته الفظة، الموجهة إلى حلفائه الأوروبيين بالدرجة الأولى، والتي تضمنت أن القارة الآسيوية محرّمة عليهم (مثلما هي محرّمة على أهلها!) إلا في الحدود التي تقررها وتسمح بها إدارته! لقد أعلن كلينتون حينئذ بوضوح تام أن آسيا لن تكون موضوع مباحثات أو شراكات! هكذا بالحرف! ثم أعلن عن تشكيل قوة عسكرية إقليمية قوامها الأساسي من الأستراليين والنيوزيلنديين!

الاستيلاء على تيمور الشرقية!

لقد كان جهد الرئيس كلينتون حينئذ منصباً ضدّ إندونيسيا، بحجة انتهاك حقوق الإنسان في تيمور الشرقية الأندونيسية، بينما لم تكن تيمور تعني له، في حقيقة الأمر، سوى عشرة مليارات دولار من النفط، ولذلك كان لابد من سلخها عن وطنها الأم، وقد تحقق ذلك بالفعل!

وكان أغرب ما في الأمر، حينئذ، أن رئيس الديكتاتورية الأميركية ميّز في حملته ضدّ إندونيسيا بين الحكومة والجيش، فأعلن عن استمرار الدعم الاقتصادي للحكومة الإندونيسية (التي كانت موالية) وعن إيقاف الدعم العسكري للجيش الإندونيسي الذي لم يكن مضمون الولاء، بل ممانعاً في اقتطاع تيمور الشرقية، فكأنما هو يعاقب الجيش سلفاً على فعل لم يرتكبه بعد ضدّ قواته الاسترالية والنيوزيلاندية التي ستنهض بأعباء (تحرير) الجزيرة الأندونيسية! لقد كان الرئيس الأميركي يجهد لتعطيل مقاومة الجيش، ويتوقع من الحكومة أن تتواطأ معه ضدّ جيش بلادها، وأيضاً في عملية الاستيلاء على الجزيرة النفطية!

لقد كانت الإدارة الأميركية، وما زالت، منهمكة في عملية عولمة العالم (أو أمركته أو صهينته لا فرق) بما يتفق مع مصالحها وحدها، فهي تدفع باتجاه تحويل الأمم إلى قطعان بشرية، وتعمل على دعم قواعدها العسكرية القائمة بقواعد جديدة، تأخذ شكل دول مستقلة صغيرة وكثيرة، بالآلاف، بحيث يكون لكل تجمع بشري كبير نسبياً "إسرائيله" الخاصة به، التي تسمّم حياته وتشلّ قدراته، وهي لم تستثن أوروبا الغربية، فصنعت لها أكثر من "إسرائيل" واحدة في أوروبا الشرقية، وجعلتها عن غير قصد تشرب من الكأس المسمومة ذاتها، التي ابتدعتها هي من قبل، لتسميم الأمم الأخرى، خاصة في فلسطين!

غير أن هذه الترتيبات الأميركية، التي يمكن البدء بها، يصعب الحفاظ عليها وإنجاحها بسبب ما طرأ على أوضاع العالم من تغييرات جذرية في بناه التحتية، فما كان قابلاً للتنفيذ والنجاح في عهد تشرشل وروزفلت لم يعد قابلاً للنجاح في عهد بلير وبوش، ثم إن هذا القدر من الصلف والغطرسة والإملاء القسري الأميركي يفترض أن تقابله حياة رغيدة، مستتبة وآمنة، في الولايات المتحدة، فلا يعاني الأميركيون ما يعانيه التيموريون الانفصاليون وأشباههم، بينما رأينا كيف انكشفت الولايات المتحدة على حقيقتها عندما اجتاحتها الأعاصير الطبيعية، وكيف ظهرت فيها مجتمعات واسعة تعاني مثلما يعاني التيموريون إن لم يكن أكثر!

من بغداد إلى كوالالمبور!

لقد انتقلوا من كوسوفو في يوغسلافيا، إلى تيمور الشرقية في إندونيسيا، وها هم اليوم في العراق يحاولون تكرار التجربة! إنهم يريدون بلورة ما يشبه كوسوفو وتيمور في العراق، علماً أن مكاسبهم المادية في يوغسلافيا وإندونيسيا لا تستحق الذكر قياساً بما يتوقعون تحقيقه من مكاسب على أرض العراق! غير أنهم لم يحرزوا حتى الآن تقدّماً حاسماً هنا، مثل ذاك الذي أحرزوه بسهولة هناك، بل هم دخلوا في نفق مظلم بعد أن حرمتهم مقاومة الشعب العراقي من تمويل الحرب بأموال عراقية بالدرجة الأولى، ومن خوضها بجنود عراقيين بالدرجة الأولى، وبعد أن حوّلت مخططاتهم العراقية والإقليمية إلى ما يشبه الأوهام، ولا شك أن لصمود الشعب العراقي البطل أثره القوي المباشر على أعمال قمة كوالالمبور، فهذا الصمود يضفي الكثير من الواقعية والجدية على إرادة دول جنوب/ شرق آسيا في التحرر من الهيمنة الأميركية، ويدفع حلفاء الأميركيين هناك، وفي الشرق الأقصى، إلى التصرف بقدر أكبر من الاستقلالية.

إن كل نجاح تحققه دول جنوب/ شرق آسيا، على طريق التحرر من الهيمنة الأميركية الباغية، يشكل ظهيراً قوياً للعراق وللعرب عموماً في كفاحهم ضدّ الهيمنة ذاتها، وإن صمود المقاومة العراقية، والفلسطينية واللبنانية والعربية عموماً، ينعكس مباشرة على العلاقات الدولية، ويدفع الأمم باتجاه المقاومة، ويوفّر المناخ الملائم لبروز كتلة دولية آسيوية صلبة، تجمع الهند والصين اللتين تضمان حوالي ثلث سكان العالم، إضافة إلى دول جنوب/ شرق آسيا العشر التي تضم أكثر من نصف مليار من البشر.

لقد أعلنت قمة كوالالمبور رسمياً أنها تسعى إلى تحقيق الاندماج الاقتصادي بين بلدانها، وأن هدفها الكبير هو إنشاء سوق موحدة على غرار السوق الأوروبية، وفي أعمال القمة سيجري التفاوض على إزالة العوائق الجمركية والتوصل إلى اتفاقات للتبادل الحرّ بين رابطة آسيان وأبرز بلدان المنطقة، أي الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية، ولا يخفى ما يعنيه مثل هذا التوجه في عالم أحادي القطب، ومازال محكوماً إلى حدّ كبير بالإملاءات الأميركية.

لن يرضخ الأميركيون لمثل هذا التوجه الأممي إلا مرغمين، وليس من شك في أن عامل الإرغام بمعظمه يأتي من المقاومة العربية، حيث يقتصر الجهد العسكري المقاوم في العالم أجمع على العرب وحدهم تقريباً، وهكذا فإن المقاومة العربية تساهم اليوم في التأسيس للسوق الآسيوية المستقلة الموحدة، ويفترض أنها تؤسس في الوقت نفسه للسوق العربية المستقلة الموحدة التي سوف تنهض غداً.

www.snurl.com/375h  ة       

 

 

Hosted by www.Geocities.ws

1