صحيفة "المستقلة" – لندن – 9/10/1995

حوار مع الكاتب العربي السوري نصر شمالي:

الأمم المتحدة لم تكن منذ تأسيسها سوى هيئة احتكارات متحدة.. هذا صلب الموضوع

 

*هناك دول عربية ساهمت في تأسيس هيئة الأمم المتحدة، منها سورية وأربع دول عربية أخرى. ماذا يترتب على ذلك حين نتابع أعمال الأمم المتحدة المتعلقة بمشاكل العرب اليوم؟

-  ليست المسألة هي ما إذا كانت الدول العربية، أو بعضها، أسهمت في تأسيس هيئة الأمم المتحدة أم لم تسهم. السؤال الصحيح هو: ما هي الطبيعة الحقيقية لهذه الهيئة. ما هي الأهداف الحقيقية غير المعلنة التي شكلت من أجلها. هل هي حقاً هيئة أمم متحدة، أم هي هيئة احتكارات دولية متحدة. الجواب هو أنها، في الواقع، لم تكن منذ تأسيسها سوى هيئة احتكارات متحدة.

*ولكن دول الأمم الضعيفة والمستعمرات السابقة اشتركت منذ البداية في عضوية الأمم المتحدة، وفي مجمل نشاطاتها.

-  هذا صحيح، ولكن متى حدث ذلك ولماذا؟ هيئة الأمم المتحدة تشكلت في أعقاب الحرب العالمية الثانية.إنها نتيجة من نتائج تلك الحرب التي انتهت بانتصار الولايات المتحدة بالدرجة الأولى في الواقع. كان العقل الأميركي الاحتكاري منهمكاً في ترتيب أوضاع العالم لمرحلة ما بعد الحرب ولم تكن هيئة الأمم المتحدة إلا واحدة من ترتيباته الكبرى. كانت تلك الحرب صراعاً مسلحاً شاملاً بين أطراف رأس المال الدولي. وكانت أمم المستعمرات التي تشكل الأكثرية الساحقة من سكان العالم متعطشة للتحرر من جيوش الاستعمار القديم. وقد رأت واشنطن في ذلك الاندفاع الأممي  للتحرر والخلاص فرصة مناسبة لتعميم استعمارها الحديث وأسلوبها الحديث في النهب والسلب الذي يقوم على استعباد الأمم ليس بواسطة الجيوش والاحتلال المباشر وإنما بواسطة المصارف والقروض والفوائد، وبواسطة الاستخبارات، وأيضاً بواسطة القوى المحلية العسكرية والمدنية في البلد المستهدف ذاته. كانت للولايات المتحدة مصلحة في كنس جيوش المستعمرين الأوروبيين من المستعمرات لأنها تعيق انتشار أسلوبها الجديد الذي يقوم على إيهام المستعمرات البائسة أنها مستقلة.

* هل يعقل أن الأمم المتحدة تأسست من أجل ذلك فقط؟

-  ليس من أجل ذلك فقط، وإنما من أجل تنظيم العلاقات بين أطراف رأس المال الدولي المنتصرة بقيادة الولايات المتحدة، وهذا ما تفسره لنا حكاية حق النقض (الفيتتو) التي تتميز بها حكومات الاحتكارات الدولية الرئيسية. لماذا حق النقض؟ لأنهم يعتبرون هيئة الأمم المتحدة مؤسسة تخصهم. هي ملكهم. هي مؤسستهم. إنها شركة، مثل أية شركة مساهمة عادية. ودول الفيتو هم أعضاء مجلس الإدارة. والولايات المتحدة هي رئيس مجلس الإدارة الذي يحق له ما لا يحق لغيره. بالتأكيد كان إدخال الأمم الضعيفة في الهيئة إجراء مقصودا هدفه احتواء هذه الأمم من خلال إيهامها أنها أمم مستقلة، وإنها إذا ما كانت تعاني فإن معاناتها هي من صنع يديها وحدها. إنه الأسلوب الاستعماري الحديث الذي ساد العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية. إنه الأسلوب الأميركي.

* قلتم أن هيئة الأمم المتحدة مثل أية شركة عادية مساهمة، هل بالإمكان توضيح ذلك أكثر؟

-  طبعاً. إن الأمم الضعيفة التي تشكل أربعة أخماس سكان العالم تقريباً تحوز خمس المنتوج العالمي تقريباً وتستهلك خمس الاستهلاك العالمي تقريباً. أما خمس سكان العالم من دول الشمال فإنه يحوز أربعة أخماس الإنتاج والاستهلاك العالمي. إن ما تملكه الأمم الضعيفة هو وهم الاستقلال وليس الاستقلال الحقيقي. إنها محكومة بعلاقات دولية ظالمة مرعية بعناية وبقوة طوال الليل والنهار. إنها لا تستطيع تغيير وضع من أوضاعها البائسة دون أن تتعرض فوراً لأقسى العقوبات بما فيها العمل المسلح ضدها. إن هناك خطوطاً حمراً ممنوع عليها تجاوزها تحت طائلة أقسى العقوبات. خطوط جغرافية وسياسية واقتصادية وتقنية وثقافية. خطوط تتحكم بجميع مكونات حياتها. تركوها تفرح ببيارقها الملونة الخفاقة، وبأناشيدها الوطنية المؤثرة، وبجيوشها الخاصة المرهوبة من قبل شعوبها فقط، وأعطوها حق العضوية في هيئة الأمم المتحدة، وسمحوا لها أن تقيم مؤسسات إقليمية، مثل الجامعة العربية، وبكلمة واحدة: أوهموها أنها مستقلة، بينما هم، في الحقيقة، لم يعودوا يستولون على أراضيها وثرواتها فحسب، وإنما استولوا على أرواحها أيضاً. أما عن كون هيئة الأمم المتحدة تشبه أية شركة مساهمة عادية، فإن ذلك يبدو بوضوح تام في تركيبها وفي أساليب عملها. إنه ليتوجب علينا أن لا ننخدع بالشكليات التي تظهر لنا ممثل ليبيريا أو جيبوتي يقف في هيئة الأمم المتحدة على قدم المساواة إلى جانب ممثل فرنسا أو بريطانيا. إن الهيئة العامة لأية شركة مساهمة عادية تضم في اجتماعاتها الدورية وغير الدورية العضو مالك السهم الواحد الذي يساوي مبلغاً تافهاً، والعضو مالك آلاف الأسهم التي تساوي ثروات طائلة. إن اللعبة تقوم على إشراك أكبر عدد من المساهمين الصغار الذين تتحول أرقامهم التافهة بعد اجتماعها إلى أرقام كبيرة جداً، ومن ثم إدارة الأموال الضخمة المجتمعة من المساهمين الصغار حسب رغبات ومصالح أعضاء مجلس الإدارة، وبخاصة رئيس مجلس الإدارة. إن القوة المالية الهائلة للمساهمين الصغار الكثر تضم تلقائياً إلى القوة المالية للمساهمين الكبار القلائل. هؤلاء القلائل هم الذين يصبحون مالكين لتلك القوة المالية الجديدة العملاقة، أما الصغار، أما كل صغير على حدة، فإنه يبقى ضعيفاً، بائساً، يعاني الإحساس بالعجز والدونية، ويداري إحساسه هذا معزياً نفسه أنه عضو في الهيئة العامة للشركة ويمتلك مقعداً وصوتاً فيها مثله مثل حال المساهم الصغير في الشركة المساهمة العادية. إنها تعرف مقدار بؤسها وصغارها، وتعرف أن الدول التي تملك حق النقض تستولي على كل شيء وتقرر في النهاية ما تشاء، ثم أنها تعرف، في التحليل الأخير، أن لهذا الوضع جانبه الاقتصادي الذي يجعلها لا تنال من مجمل المنتوج والاستهلاك العالمي سوى الفتات، سوى الخمس كما أشرنا.

* إذن، طالما أن الحال كما عرضتم، فإنه يجب التحرر من هيئة الأمم المتحدة؟

-  كلا. يجب التحرر من الاحتكار. يجب أن يزول الاحتكار وأن تبقى هيئة الأمم المتحدة. يجب أن يزول التمييز وأن يلغى حق النقض (الفيتو) هذا العار البارز على جبين العصر الأوروبي- الأميركي ونظامه العالمي، يجب أن يحل التكافؤ فعلياً وليس شكلياً في علاقات الأمم. لا بد من استبدال العلاقات الدولية الظالمة الحالية بعلاقات عادلة، ووضع حد للمتكبرين المتجبرين المتعالين، الذين يصنفون الأمم إلى أمم جديرة بالحضارة وأمم غير جديرة بالحضارة، إلى أمم منتجة للحضارة وأمم عاجزة أصلاً عن إنتاج الحضارة. إن مثل هذا التصنيف موجود في عقول أعضاء مجلس الأمن الدائمي العضوية والذين يملكون حق النقض. لقد ساعدتهم هيئة الأمم المتحدة، بوضعها الراهن، على التنصل من المسؤولية، وإشاعة الفكرة الرهيبة القائلة بأن الأمم الضعيفة المتخلفة مسؤولة وحدها عن ضعفها وتخلفها بسبب عجزها الأصلي عن امتلاك ناصية العلوم وإنتاج الحضارة. إن هيئة الأمم المتحدة التي نتطلع إليها هي تلك الهيئة النظيفة من عار حق النقض.ولكن ما نتطلع إليه لا يمكن أن يتحقق في ظل هذا النظام العالمي الجائر، نظام التمييز والاحتكار، الذي ظهر وتطور في ظل هذا العصر الأوروبي- الأمريكي منذ خمسمائة عام. إنه يتحقق بكفاح الأمم مجتمعة، وبصياغة نظام عالمي جديد حقاً أهم خصائصه وسماته نظافته من الاحتكار والتمييز.

*وماذا عن العرب تحديداً ضمن الصورة التي عرضتها؟

- العرب كتلة بشرية رئيسية كامنة في مجمل منطقة حوض المتوسط، بل وفي استطالتها الأميركية. العرب كتلة كبيرة تفوق في حجمها وفي تجانسها جميع الكتل البشرية الأخرى في هذا الحوض. إنهم يزيدون مرتين وأكثر في الحجم عن أية كتلة أخرى. الإنجيليون البروتستانت الأنجلوسكسون، الذين يحكمون الولايات المتحدة فعلياً، لا يتجاوز تعدادهم ثمانين مليونا. الروس مئة وعشرون مليوناً تقريباً. إنك لن تجد كتلة بشرية بحجم الكتلة العربية في مختلف أنحاء حوض المتوسط، ناهيك عن تجانسها الذي لا مثيل له. العرب سوف يصل تعدادهم إلى نصف مليار نسمة خلال العقدين القادمين. لكنهم مغيّبون قسراً وعنوة. إنهم كتلة مبددة وهناك من يسهر طوال الوقت على تبديدهم وتغييبهم. ولكن غياب العرب هو سبب أساسي من أسباب الإرهاق والعذاب الذي تعاني منه البشرية جمعاء. ثمة خلل في توازن الحياة البشرية الإجمالية من أهم أسبابه غياب الأمة العربية. وهكذا فإن حضور الأمة العربية ونهوضها ليس مجرد حاجة عربية ذاتية وخاصة، وإنما شرط رئيسي من شروط خلاص البشرية، بنهوض نظام عالمي جديد حقاً، وبظهور هيئة أمم متحدة حقاً وليس هيئة احتكارات متحدة.        

Hosted by www.Geocities.ws

1