مأزق الحريات الديمقراطية في الولايات المتحدة !

بقلم: نصر شمالي  

منذ أعلن الرئيس الأميركي بوش مشروعه عن الشرق الأوسط الكبير, وعن مبادرته الديمقراطية للبلاد العربية ، بدأت الحريات المدنية التي كفلها النظام الديمقراطي الأميركي تتراجع في الولايات المتحدة ، فقد حرمت المحاكم من حق النظر في قضايا بعض المعتقلين , وصدر قانون الأدلة السرية الذي يمنح الحكومة الحق في اعتقال أي شخص دون إبداء الأسباب أو الرجوع إلى المحاكم ، بما فيها المحكمة العليا التي لم تعد تملك حق مطالبة الحكومة بتقديم أسباب الاعتقال ! كذلك حرم المعتقلون من حق الاستعانة بالمحامين أثناء التحقيق, وصار بإمكان الأجهزة الحكومية اعتبار أي شخص " محارباً في قوات العدو " سواء أكان أجنبياً أم أميركياً ، وصار بإمكانها احتجازه لمدة غير محددة , ومنع أسرته من زيارته!لقد كان ذ لك الذي بدأ مند عام 2003 مخالفاً للدستور الأميركي , بل عدواناً عليه , الأمر الذي جعل رئيس المحكمة العليا وليم رينكويست يقول في مذكرة خطية : " إن الحريات المدنية قابلة للتقليص في زمن الحرب ، لكن الدستور يظل محترماً دائماً , حتى في زمن الطوارىء " ! والحال أن مشروع الإدارة الأميركية عن الشرق الأوسط الديمقراطي الكبير ليس سوى مشروعاً إمبراطور يا ، أي إمبريالياً استبدادياً ، وكان طبيعياً أن يودي تعثّره أمام المقاومة العراقية الى تكشير الديكتاتورية الأميركية الكامنة في الداخل الأميركي عن أنيابها !

امتهان القضاة والدستور الأميركي !

في 12 آب – أغسطس 2003 , وتحت عنوان " وضع القضاة على اللائحة السوداء " كتبت صحيفة هيرالد تريبيون في افتتاحيتها تقول أن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة لا بد وأن يصابوا بالفزع عندما يعلمون أن وزير العدل جون أشكروفت أمر سلطات الادعاء بجمع معلومات عن القضاة الفيدراليين الذين يصدرون أحكاماً مخففة ، أقل من العقوبات التي وضعها الوزير في قائمة الإرشادات الفيدرالية ! إن هذا يعني إعداد قائمة سوداء بأسماء القضاة ، وبالتالي من الممكن أن يتعرضوا للمتاعب والتهديد ! وحسب الصحيفة فإن لجنة الأحكام القضائية ، التي شكلها الكونغرس ، تملك صلاحية وضع لائحة تتضمن العقوبات المناسبة للجرائم المختلفة ، ويسترشد القضاة عادة بهذه اللائحة ، ويتمتعون بقدر من الحرية يمكنهم من اختيار عقوبات مخففة في الظروف التي تبرر ذلك ، لكن إدارة الرئيس بوش – كما قالت هيرالد تريبيون – أعلنت غضبها على القضاة الذين يصدرون أحكاماً مخففة لا تتفق مع إرشادات وزير العدل ، وراحت تستخدم طرقاً عديدة للضغط عليهم بما فيها الضغط السياسي ! وهذا يعني أن إدارة بوش تشن هجوماً متطرفاً ( إرهابياً ) ضدّ النظام الدستوري الأميركي !

معاناة السجناء وأعباء السجون !

في عام 2003 تجاوز عدد السجناء الأميركيين رقم مليوني سجين ، فكان ذلك حدثاً لم تعرفه الولايات المتحدة طوال تاريخها ، حيث نسبة السجناء فيها صارت أعلى نسبة في العالم أجمع ! وبالإضافة الى الاعتقال من دون ضوابط ولا ضمانات قانونية ولا حقوق للموقوفين فقد أصبح الاكتظاظ في السجون الأميركية باهظ التكاليف مالياً وبشرياً !

لقد بلغ عدد السجناء أربعة أضعاف ما كان عليه في منتصف السبعينات ، وهو في تعاظم مستمر , علماً أن ذلك لا صلة له بمعدلات الجريمة التي انخفضت عما كانت عليه في السبعينات ، وقد بلغ المعدل في الولايات المتحدة ، خلال العامين الماضيين ، 700 سجيناً من كل مائة ألف مواطن ! ويعود ذلك الى سياسة العقوبات التي تعاظمت قسوتها بإرشادات من الحكومة الماضية قدماً على طريق الاستبداد الداخلي أيضاً ، فصارت تفرض عقوبة السجن لمدة طويلة على جرائم صغيرة خالية من العنف ، الأمر الذي يحوّل كثيراً من الشباب الى مجرمين كباراً !

ومن جهة أخرى صارت السجون عبئاً هائلاً على الميزانية الأميركية , وبدأ الأميركيون يتململون نتيجة معاناتهم من أعباء الضرائب , ومن عجز الميزانية ، وهم لا يفهمون السبب الذي يستدعي اعتماد مثل هذه السياسة التي تستخدم عقوبات السجن بشدّة مفرطة ، وقد كتبت هيرالد تريبيون تقول أن عدد السجناء ارتفع ليصل الى 2 مليون و166 ألفاً و 260 سجيناً ، وهي زيادة حدثت في وقت انخفضت فيه نسبة الجرائم عموماً ، وقد كانت الزيادة حسب بيانات وزارة العدل بنسبة  30 % منذ عام 1995 وحتى عام 2002 ، وهو معدّل يفوق عشرة أضعاف المعدّل في الدول الصناعية الأخرى !

إعتقالات عشوائية وتعطيل للأحكام !

تحت عنوان " إعتقالات أميركية سرًية " كتبت الهيرالد تريبيون ، بتاريخ 15/1/2004 ، تقول أن المحكمة العليا اضطرت لقبول منطق الحكومة , ورفضت الحكم بأن تلتزم السلطات إعلان أسماء المعتقلين وأماكن اعتقالهم وأسباب اعتقالهم ! وقد ثبت أن الغالبية العظمى من المعتقلين ، وعددهم كبير جداً , لا علاقة لهم بالإرهاب ، ومع ذلك تم ترحيل أعداد كبيرة من العرب والمسلمين ، وعندما كشفت الحكومة أسماء 129 من المعتقلين فإنها نسبت إليهم جرائم عادية لا علاقة لها بالإرهاب ، لكنها رفضت الكشف عن أسماء المئات الذين لم توجه إليهم أية تهمة رغم مرور أكثر من عامين على اعتقالهم !

لقد أصدرت بعض المحاكم أحكاماً تلزم السلطات بكشف أسماء المعتقلين ، لكن الحكومة استأنفت ضدً هذه الأحكام ومارست الضغوط حتى صدرت أحكام الاستئناف بإلغائها ! وقد حذًر القاضي ديفيد تانيل من أن المحكمة العليا تصادر بذلك حقً الجمهور وحقوق أصحاب المصلحة في معرفة الأسماء والأسباب ، وهل سيطول الاعتقال الى أجل غير محدًد من دون تقديمهم للمحاكمة , ومن دون السماح لهم بالاتصال بأسرهم وبمقابلة المحامين كما ينص القانون ؟ ثم هل تمً الاعتقال فقط لأنهم من العرب والمسلمين ؟

إن مثل هذه المطالب التي عبًر عنها القاضي تانيل هي الحدً الأدنى من الحقوق الدستورية للشعب الأميركي الذي يفترض أن يكون على علم بما تفعله السلطات التنفيذية حتى بحق المقيمين والمتجنسين الأجانب ، بل عليه أن يراقب عمليات الاعتقال من حيث جدًيتها وشرعيتها ، فهذا الحق – كما يقال – من بديهيات الحياة الديمقراطية الأميركية ، ومن ضروريات ضمان عدم اعتداء الحكومة على الدستور !

أهوال الاعتقال في غوانتانامو !

منذ احتلال أفغانستان احتجزت الإدارة الأميركية مئات المعتقلين في قاعدة غوانتانامو العسكرية ، خارج الولايات المتحدة وبعيداً عن الأنظار ، ولم يسمح للمعتقلين بمقابلة أحد من أهلهم ولا بمقابلة المحامين ولا بأية حقوق أو ضمانات قانونية ، بما فيها تلك التي نصت عليها اتفاقية جنيف الخاصة بأسرى الحروب ! ثم جرى ترحيل بعض المعتقلين الى بلادهم ولكن من دون إعلان نتائج التحقيق معهم أو أسباب اعتقالهم ! وبعد ذلك قررت الإدارة الأميركية محاكمة بعضهم أمام محاكم عسكرية أميركية ، وهو العمل الذي طالما شنًت واشنطن الحملات العنيفة ضدً الحكومات التي مارسته !

إن الذريعة التي تبرر بها الحكومة الأميركية أفعالها ضدً حقوق الإنسان  والدستور الأميركي واتفاقية جنيف هي أن تحقيقات المخابرات مع المعتقلين في غوانتانامو تحتاج الى وقت طويل لأنها تسير ببطء ! كما تتذرع بأن هجمات أيلول / سبتمبر تفرض إجراءات استثنائية ! وبما أن المتهمين اعتقلوا باعتبارهم محاربين غير قانونيين فان الإدارة الأميركية تعفي نفسها من تطبيق اتفاقية جنيف وتزعم أنها لا تنطبق عليهم، وبالتالي فان تقديمهم للمحاكم العسكرية سوف يجرى في الظلام الدامس ، حيث ستكون الجلسات سرًية ! وتقول هيرالد تريبيون أن الحكومة الأميركية لا تلتفت الى الالتماسات التي تتقدم بها عائلات المعتقلين وحكومات بلادهم ، وأن ما يجري في غوانتانامو يسيء إساءة بالغة للقيم والمبادئ والمثل الأميركية ، ويضرً بالمصلحة الأميركية القومية !

إن مخاوف الهيرالد تريبيون الجدية ، بصدد مستقبل الحياة الداخلية في الولايات المتحدة ، تذكًرنا بالقاعدة المنطقية التي تقول أن شعباً يستعبد شعباً آخر لا يمكن أن يكون حراً ، أما إذا كانت حكومته تفعل ذلك خلافاً لإرادته ومصالحه فيتوجب عليه أن يتحرر منها ، وإلا استعبدته بدوره!

 www.snurl.com/375h

 

Hosted by www.Geocities.ws

1