هل الكوكب الميت أفضل من الحيّ ؟!

بقلم: نصر شمالي

أنزل الأميركيون قبل أيام معدّاتهم على سطح كوكب المريخ في محاولة لاستطلاع خفاياه، لكن المريخ كما هو معروف كوكب ميت، انهم يحاولون للمرة الثانية اكتشاف أثر للحياة فيه، ففي أواسط التسعينات نفذوا عملية مشابهة، ويومها وقف الرئيس كلينتون يهنىء نفسه على ذلك الإنجاز، مشيداً بالعبقرية الأميركية المتفوقة، وناسباً الفضل إلى الإدارة الأميركية وحدها، تماماً مثلما يفعل الرئيس بوش اليوم !

غير أن هذا الحدث العلمي الهام لم يقع من دون مقدمات تاريخية أسهمت فيها جميع الأمم، فهو لم يرتجل ارتجالاً في الولايات المتحدة، ولم يأت من فراغ، فتاريخ علوم الفضاء وتطبيقاتها قديم، طوّرته من مرحلة الحلم إلى مرحلة التنفيذ الملايين من جميع الأمم، وموّلت تكاليفه الباهظة ثروات الشعوب في جميع القارات، وإنها لحماقة أن تجعل الإدارة الأميركية من هذا الفرع العلمي الإنساني ملهاة كرتونية هوليوودية، وأن تغتنم مناسبة وصول أجهزتها إلى سطح المريخ لإقناع الأمم الأخرى بوضاعتها وعجزها، وبحتمية انصياعها العبودي للإرادة الأميركية! وأية حماقة أعظم من حديث بعض الأميركيين عن حقهم في تملك المريخ إضافة إلى القمر؟!

الأنانية و الإدعاء والغرور !

لن نتحدث عن الأحلام الإنسانية الفضائية الموغلة في القدم، ولا عن محاولات تطبيقها عملياً، ولكن العالم أجمع في العصر الحديث يعرف أن أول مركبة وصلت إلى الفضاء الخارجي قبل حوالي نصف قرن كانت سوفيتيية وليس أميركية، حملت على متنها الكلبة لايكا، ثم انطلقت من القاعدة نفسها مركبة أخرى حملت الملاح الفضائي الروسي يوري غاغارين، وحينئذ نظرت جميع الأمم إلى الإنجاز الريادي باعتباره يخصها كلها، ونظرت إلى غاغارين باعتباره إبنها، غير أن ذلك الانتصار الفضائي لم يحل دون انهيار الاتحاد السوفييتي، ولم يحجب عن الأنظار البون الشاسع بين التقدم العلمي وبين المعاناة الإنسانية، وهكذا اندثر النظام السياسي وبقي الإنجاز العلمي، بينما الإدارة الأميركية تحاول اليوم الإيحاء بأن الوصول إلى المريخ يؤكد سرمدية نظامها الربوي الظالم، فيالها من أنانية مدّعية، ويا له من غرور أحمق!

إن الإدارة الأميركية الربوية، وهي تزفّ إلى نفسها بشرى وصول أجهزتها إلى سطح المريخ، وتمجد عبقرية ذاتها، لا تأبه للأمم الأخرى التي ساهمت بصورة مباشرة أو غير مباشرة في تحقيق الإنجاز، ولا لمئات ملايين المعذبين الذين شاركوا فيه بثرواتهم وعرقهم، فأمدوه بالمال والنفط وبقية المعادن والمواد الضرورية، بل تمضي إلى المريخ وحيدة، مخلفة وراءها ضحاياها يعانون من الخوف والجوع والمرض. إنها تمضي وحيدة وحدة موحشة، وفخورة فخراً دعائياً بائساً!

الكوكب الأزرق والكوكب الأحمر

إن الإدارة الأميركية تنطلق إلى المريخ مخلفة وراءها ضحيتها كوكب الأرض الذي كان عظيم الجمال فصار شديد القبح، وكان وافر القوة فصار بالغ الضعف، وكان أزرقاً فصار رمادياً، وكان زكي الرائحة فصار منتناً! إنها تمضي إلى الكوكب الأحمر الميت فخورة فخراً شاذاً، بعد أن خسرت في الحقيقة والواقع الكوكب الأزرق الحيّ، الذي هو كوكبها ومسقط رأسها! وماذا يوجد في المريخ، إذا ما ألقينا جانباً الهلوسات والهذيانات والمبالغات التي تتميز بها روايات الرسوم المتحركة الأميركية؟ ماذا يوجد مما يستحق هذا الجهد المضني للبشرية جمعاء، وهذا الإنفاق الباهظ على حساب قوتها وصحتها وأمنها؟ هل هناك ما يستحق أن يفنى في سبيله كوكب الأرض؟ هل ينوي الأميركيون استيطان المريخ؟ لكنه كوكب بارد، ميت، فهل نكسب كوكباً ميتاً ونخسر كوكباً حياً، بل نقتل الحيّ كي نصل إلى الميت؟‍ أم لعلها مجرّد روح الاستكشاف العبثي والمغامرة الرعناء تصل إلى هذا المستوى المدمّر، الذي يستدعي السؤال البديهي، المنطقي: لماذا لا يخطر في بال الرئيس الأميركي وأعوانه استكشاف أغوار الوضع البشري على الأرض في ماضيه وحاضره ومستقبله، واستكشاف السبل، التي هي ممكنة ومتاحة فعلاً، من أجل استرداد الإنسان لإنسانيته، واسترداد الكوكب الأزرق لرونقه وجماله؟ أليس هذا هو الأفضل والأجدى والأدعى للسعادة والرضى؟

حرب الكواكب والتجربة السوفييتية

كان قادة الاتحاد السوفييتي ينفقون من كل خمسة روبلات ثلاثة روبلات لصالح الأمن والدفاع، وسباق حرب النجوم وما شابه، حيث الأميركيون أرغموهم على فعل ذلك بطرق ضاغطة مخاتلة، فلو أن قادة ذلك النظام استطاعوا تجنب الخداع الأميركي، ورصدوا تلك الأموال والثروات الهائلة لصالح ازدهار مجتمعاتهم مادياً ومعنوياً، لكانوا تجنبوا ضياع التجربة التي حظيت لعشرات السنين باهتمام وتقدير الأمم. أما الأميركيون فكانوا، ولا زالوا، ينفقون الأموال الطائلة من ثروات الأمم الأخرى، ويستهلكون دماء ولحوم الأمم الأخرى، واليوم، وقد خلا لها الجو العالمي، راحت الإدارة الأميركية تفعل الأعاجيب في سياساتها الدولية والداخلية، غير ملتفتة لدروس وعبر التجربة السوفييتية، متجاوزة كل حدّ في إلحاق الأذى بالبشرية جمعاء، بحيث لم تعد تسلم من هذا الأذى الشديد حتى حليفاتها، فإلى أين يمكن أن يقودها ذلك، وهل هي تعتقد حقاً أن الطريق التي تسير عليها مضمونة وسالكة إلى اللانهاية، وأن الفقير المتخلف، المستضعف، لا يمكنه أن ينهض أبداً، بينما الغني المتقدّم، القوي، لا يمكن أن يسقط أبداً؟ أم أنها مدركة لأهوال الوضع البشري المأساوي، ومدركة لمسؤوليتها الرئيسة في ترديه ودماره، وأنها لم تعد تملك من الأمر شيئاً، فصار خيارها إعداد المريخ كوكباً بديلاً يخصها وحدها، مديرة ظهرها للأرض ومن عليها؟‍! ولكن، إن المريخ كوكب ميت!

لقد أعلن الرئيس الأميركي الحالي قراره بانطلاق عمليات إعادة إعمار القمر والمريخ! ‍ إنه يتطلع إلى اكتشاف الحياة، أو إعادتها على هذين الكوكبين الميتين، بينما قواته تبيد الحياة بمجملها في فلسطين والعراق وغيرهما‍! إنه يستولي على ثروات الشعوب عنوة، ويحرمها من أسباب الحياة، راصداً أرقاماً فلكية من المليارات لصالح قواته الحربية ومشاريعه الفضائية!‍  إنه ينتزع نسغ الحياة من كوكب حيّ ليزرقه عبثاً في كوكب ميت! فهل يعقل أن تسمح الأمم، والأميركيون أيضاً، باستمرار هذه المهازل الجنونية التي تعرّض الأرض ومن عليها لخطر الدمار الشامل ؟‍‍‍!

[email protected]    

 

Hosted by www.Geocities.ws

1