عن الوحدة العربية والنظام العالمي:

الحدود قيود، والدويلات زنزانات

مقابلة أجرتها مجلة "المنابر" البيروتية

ونشرت في شباط/ فبراير 1991

 

      الحديث مع الكاتب العربي السوري الأستاذ نصر شمالي ممتع وشيق، تصاغ الأفكار الدقيقة بحرارة متميزة، وتعرض الوقائع العلمية بحيوية دافقة، ذلك أنه من المثقفين العرب الذين امتزجت لديهم الثقافة بالممارسة، والفكر بالتجربة الحسية، والقناعات بالمعاناة القاسية.

      إنه مناضل وكاتب وروائي ومؤلف قصص للأطفال، يتصرف وكأنه يتسابق مع الزمن، يحمل رسالة يخاف أن يأتي الليل قبل أن يوصلها إلى أصحابها..

      وأصحاب الرسالة بالنسبة إليه، هم أصحابه، بل هم من كل الأجيال، يصادق الكبار منهم بروح الوفاء والتقدير، ويحب الصغار منهم بعاطفة الواثق من المستقبل..

      نزعته الأدبية تطل في كل كتاباته الفكرية والسياسية تماماً مثلما يحاصر همه الفكري والسياسي كل نتاجه الأدبي...

      إنه واحد من جيل أريد له أن يكون جيل الإحباط والخيبة، لكنه أصر أن يتحول مع جيله لأن يكونوا جسر العبور إلى الفجر الجديد...

                                                          (المنابر)

                                                                                                              

*         *         *

 

     بصفتكم من الجيل الذي نشأ في كنف النضال من أجل الوحدة العربية، وربط في حياته بين الفكر والممارسة الوحدويين، كيف ترون موقع الوحدة العربية اليوم في إطار النضال العربي المعاصر؟!

-   سواء تحدثنا عن الوحدة أم تحدثنا عن التجزئة، فإن السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا هو: ما هي الوظيفة التاريخية الإنسانية لتلك الوحدة، ما هي الوظيفة التاريخية الإنسانية لهذه التجزئة. حيث أن للتجزئة وللوحدة ضروراتهما، وبالتالي وظائفهما، التي تبررهما. هل نحن نريد الوحدة فقط لأننا جميعنا عرب، ولأننا كنا موحّدين ذات يوم؟ هل نريدها فقط لكي نكون أقوياء؟ ولكن لماذا نريد نحن العرب أن نكون أقوياء؟ في الواقع،إن البعض يستحضرون أرواح الأجداد القوية، ويهملون استحضار جوهر وظائفهم الإنسانية وهو الجوهر الذي كان كامناً وراء تلك القوة التوحيدية الإيجابية الرائعة والمبدعة. لقد كانت الأمة العربية موحدة حتى القرن الخامس عشر على الرغم من تعدد دولها. لقد قامت الدولة الأموية في إسبانيا العربية منذ فجر العهد العباسي، غير أن ذلك لم ينل من وحدتها. نحن لم نقرأ شيئاً أبداً عن إسبانيا العربية الانفصالية وعن الأندلسيين الانفصاليين، ولم نلحظ بروز مشكلة تتعلق بوحدة الأمة آنئذ. لماذا؟ لأن الأمة العربية كانت موحدة بوظائفها التاريخية الإنسانية. إن الوظائف هي التي تعطي بقاء الحدود أو زوالها تلك القيمة الخطيرة. فعندما لا تنفي مزايا وخصائص المدن وحدة الدولة، لا تكون ثمة مشكلة خطيرة قائمة. إن الحدود الإدارية للمدن مضافة إلى الخصائص الذاتية للمدن لا تشكل نيلاً من وحدة الدولة المتجسدة في وظائفها الإنسانية. والعكس بالعكس، فإن وحدة الدولة تصبح عبئاً ثقيلاً لا يطاق، حتى بالنسبة للأمة الواحدة، إذا ما كانت وظائفها غير إنسانية، ومتناقضة مع متطلبات الحياة العميقة ومع خصوصيات المدن، الجماعات والأفراد أبناء الأمة الواحدة.

               وهل يمكن الحديث عن التجزئة في السياق نفسه أيضاً؟!

-   بالطبع، إن للتجزئة القائمة وظيفتها التاريخية، وضرورتها التاريخية، التي تبرر استمرارها. إن الأوساط القيادية العربية لم تقدّم هذه الوظيفة وتلك الضرورة بصورة كافية من الوضوح. وقد ترتب على ذلك قصور في الوعي العام جعل نضالاتنا الوحدوية تبدو، إلى حد كبير، عشوائية، وضبابية، وغير مجدية.

إنه ليتوجب علينا أن نفسر، بوضوح وبحزم، الأسباب التي تجعل الحدود المصطنعة أقوى بما لا يقاس من كل عناصر التوحيد والوحدة القائمة والراسخة في ضمير كل فرد من أفراد الأمة.

لقد وصلت قوى وحدوية، بفضل برامجها النضالية الوحدوية، إلى مواقع السلطة في عدد من الدويلات، وقد صدمنا، بل فجعنا، ونحن نراها لا تنزع باتجاه الوحدة بين الدويلات التي تحكمها على الأقل، وذهل الكثيرون، وأصيبوا بالإحباط، حيث اعتقدوا أن الأمر مرهون بمجرد إرادة الحكومة الوحدوية. غير أن المسألة هي حقاً أخطر وأعقد من ذلك بكثير، وهي تستدعي أول ما تستدعي التمعن في وظائف التجزئة وفي طبيعة القوى التي خلقتها، فإذا ما تمعنا جيداً فسوف نكتشف بوضوح أن وظائف التجزئة القائمة هي جزء لا يتجزأ من وظائف النظام الرأسمالي العالمي القائم، وبالتالي فإن التصدي لها لا يمكن أن يكون، في محصلته، إلا تصدياً لوظائف النظام العالمي، ومحاولة للنيل من وحدته في أحد أركانها الرئيسية في المنطقة العربية. ولما كانت وظائف النظام العالمي سلبية وغير إنسانية، فإن على الأمة العربية أن تتوحد حول وظائف معاكسة تماماً: إيجابية وإنسانية.

 

     ما هي طبيعة هذه الوظائف الإيجابية والإنسانية؟!

-   الأمة العربية تعدّ أكثر من مئتي مليون نسمة. إنها أكبر كتلة بشرية في جميع أنحاء حوض البحر الأبيض المتوسط بما فيه استطالته الأميركية. إن الأنجلوسكسون، الذين يحكمون الولايات المتحدة فعلاً، لا يتجاوز تعدادهم ستين مليوناً. وهم أنفسهم يشكلون أقلية تحكم المملكة المتحدة البريطانية، والروس لا يتجاوز تعدادهم المائة مليون. وكذلك حال الكتل الأخرى في أوروبا الغربية والشرقية، وفي أفريقيا وفي غربي آسيا. وبالإضافة إلى حجمها، الذي يفوق مرتين على الأقل حجم أية كتلة بشرية أخرى، فإن الأمة العربية موحدة نفسياً، وتراثياً، ولغوياً، وعاطفياً، وروحياً. إنها موحدة بعاداتها وتقاليدها، وعلاقاتها الداخلية، ومزاجها، بصورة ليست متوفرة لأية أمة أخرى. إن وظيفة التجزئة هنا هو تغييب هذه الأمة. إن الحدود هنا هي بمثابة قيود، وقضبان سجون. إن الدويلات هي بمثابة زنزانات لعزل أبناء الأمة الواحدة عن بعضهم البعض وإرهاقهم أشد الإرهاق، وتغييبهم تماماً عن مسرح الحياة الإنسانية، كي يخلو الجو تماماً للاحتكاريين الصهاينة، قادة هذا النظام الرأسمالي العالمي الفاسد. وبالطبع، فإن الأمة لن تنجح في تحقيق وحدتها إلا إذا اجتمعت حول وظائف معاكسة للوظائف التي فرضت تجزئتها من أجل تغييبها. إن هذا يقودنا إلى التأمل الجاد في الكيفية التي نعي بها هذا العالم، الموحد قسراً لصالح الظلم، وللتأمل في سوية هذا الوعي، وفيما إذا كانت هذه السوية كافية ومجدية.

 

     إذا كانت وظائف التجزئة هي جزء من وظائف النظام الرأسمالي العالمي القائم، فكيف نشأ هذا النظام؟! ألم يكن النظام الإسلامي نظاماً عالمياً أيضاً؟!

-   هذا النظام الرأسمالي العالمي، الموحد قسراً لصالح الظلم، ظهر على مسرح التاريخ لأول مرة، وبدأ مسيرته الرهيبة، في أواخر القرن الخامس عشر. قبل ذلك التاريخ كان النظام العالمي، السائد، عربياً إسلامياً. ليس معنى هذا أن العالم كان جميعه عربياً أو مسلماً، وإنما كانت القوانين، والمفاهيم، والعلاقات، والأعراف، عربية إسلامية، تطبقها وتعمل بموجبها جميع شعوب وأمم الأرض، بغض النظر عن عرقها أو مذهبها. كان جوهر النظام العالمي، العربي الإسلامي، إنسانياً، يقوم على مبدأ التكافؤ والتساوي بين الأفراد والشعوب والأمم، دون أن يغير هذا المبدأ، أو ينال منه إلى درجة التقويض، وقوع انتهاكات هنا أو هناك، بسيطة أو فظيعة. تلك كانت القاعدة الراسخة التي إذا حدث ما يخالفها فيجب أن يصحح لصالحها، وإذا ما اعتدي عليها، فإن المعتدي نفسه لا يجرؤ على إنكار عدوانه، ولا يجد من يفلسف له، فقهياً، ذلك العدوان. في أواخر القرن الخامس عشر، وتحديداً ابتداءً من عام 1492 حيث سقطت غرناطة الخالدة الذكر، ظهرت على مسرح العالم قوى تقول، وتفعل، وتفلسف، ما يخالف ذلك تماماً. كانت تلك القوى طلائع النظام العالمي الجائر الذي ما زال يتحكم بأمم الأرض حتى يومنا هذا. ولقد فتح سقوط غرناطة ثغرة واسعة في تحصينات النظام العالمي،العربي الإسلامي، تدفقت عبرها قطعان متوحشة حقاً، سرعان ما نجحت في الالتفاف حول المراكز القيادية للنظام العالمي العربي الإسلامي، ونجحت في فصلها عن جسدها، وفي عزلها تماماً عن عمقها الحضاري الاستراتيجي المتمثل بحوض المحيط الهندي. لقد وقع هذا الحدث المروّع ابتداء من عام 1497، حين اكتشف البرتغاليون الطريق البحري إلى الهند عبر رأس الرجاء الصالح. لقد كان ذلك حدثاً حاسماً، آذن بنهاية عصر وببداية عصر، بنهاية نظام عالمي وبنهوض نظام عالمي آخر جديد. لقد أفل نجم بخارى وسمرقند، وطشقند، وبغداد، ودمشق، والقاهرة، والقيروان، وغرناطة، وقرطبة، وبقية عواصم ذلك النظام العالمي، العربي الإسلامي، وبزغ نجم عواصم جديدة في أوروبا. وكان قد وقع الحادث الخطير الآخر عام 1492، وهو اكتشاف القارة الأميركية مصادفة، فأضيف إلى الاحتياطي الهائل، المتمثل بحوض المحيط الهندي الذي كانت تجوبه أساطيل الحقد والجشع الأوروبية، الاحتياطي الأميركي الهائل بدوره. إنه ليتوجب علينا أن نتوجه بإدراكنا، وأن نرتكز بذاكرتنا، إلى تلك التواريخ الثلاثة، إلى تلك الحوادث التاريخية الثلاثة: سقوط غرناطة، واكتشاف الطريق البحري إلى الهند، واكتشاف القارة الأميركية. حيث، في تلك اللحظة التاريخية، فقدت الأمة العربية دورها الإنساني، ووظائفها التاريخية العالمية الإيجابية، لتنهض على أنقاضها أمم أخرى تقودها أنظمة ذات وظائف عالمية، سلبية وغير إنسانية.

 

     هل من سمات عقائدية وفكرية تميّز هذا النظام العالمي؟!

-   النظام الرأسمالي العالمي، انطلق من مراكزه القيادية الأوروبية لتوحيد العالم، ابتداء من أواخر القرن الخامس عشر، مستنداً إلى عقيدة مغايرة قوامها التمييز بين البشر، بين الأفراد والجماعات والشعوب والأمم، ووسيلتها الحرق والإبادة، والتهجير والاستيطان. وفي تطوره الجهنمي، من مرحلة أعلى إلى مرحلة أعلى منها، أباد عشرات الملايين في القارة الأميركية، وحقق تجربة الاستيطان على الأرض التي ابيضت بعظامهم، ثم حاول أن يكرر تجربته الأميركية الناجحة في آسيا وإفريقيا، غير أنه لم ينجح في ذلك. لماذا؟ لماذا نجحوا في أميركا واستراليا، ولم ينجحوا في آسيا وإفريقيا، وأوروبا أيضاً، على الرغم من أنهم بذلوا قصارى جهدهم؟ السبب هو أن تلك الشعوب البسيطة، الطيبة، البدائية والساذجة، والبريئة كالأطفال، في كل من أميركا واستراليا، كانت لا تزال تعيش مرحلة العشيرة والقبيلة التي تجاوزتها آسيا وإفريقيا وأوروبا قبل آلاف السنين، وبالتدريج طبعاً، وابتداء بالمنطقة العربية الأقدم. لقد أبادوا شعوباً كانت لا تزال تعيش في مرحلة جلجامش السومرية في منطقة ما بين النهرين العربية. ولكن، لنتذكر رقة جلجامش السومري العربي، وشفافيته، وتأملاته الإنسانية المؤثرة. ترى من يقوى على قتل جلجامش غير الوحوش؟ ولقد قتله الأوروبيون العنصريون الصهاينة فعلاً في أميركا واستراليا. إذ أنهم لو كانوا موجودين قبل خمسة آلاف عام بقوتهم وعقليتهم الحالية لكانوا قتلوا جلجامش وأبادوا قومه دون ريب ولا شك! ترى لو وصل العرب المسلمون، عندما كانوا قادة النظام العالمي، إلى أميركا واستراليا، والتقوا بشعوبها الطيبة البريئة، فكيف كانوا سيتعاملون معها؟ سوف نعرف الجواب إذا ما قرأنا رحلة ابن فضلان- على سبيل المثال- إلى أصقاع ما وراء القفقاس، وإذا ما قرأنا كتاب مفتي المسلمين في الاتحاد السوفياتي عن المسلمين هناك وذكريات بداية اعتناق بعض الشعوب البريئة، الطيبة، للإسلام في تلك الأصقاع النائية.

 

          ما هي فرص النظام الرأسمالي العالمي في القضاء على الأمة العربية والإسلامية؟

_ لا يستطيع العنصريون الصهاينة إبادة أمتنا، خصوصاً إذا ما تذكرنا أن "الحضارة الرفيعة" التي شادوها انبثقت من صلب الحضارة العالمية العربية الإسلامية. لقد نجحوا في تجزئة الأمة العربية، وهم فكروا بإبادتها على الطريقة الأميركية والأسترالية، ولا زالوا يتصرفون حتى يومنا هذا بطريقة تدل على استمرار تحكم هذا التفكير بسلوكهم وأفعالهم، ولعل سبب ذلك، بكل غرابته ولا منطقيته من الناحية العملية، يعود إلى نجاحهم السهل في إفناء شعوب أميركا، الأمر الذي أصابهم بالعمى، وجعلهم لا يرون الفارق الحاسم، والبون الشاسع، والاستحالة المطلقة في تكرار ما فعلوه بشعوب أميركا ضد شعوب آسيا وإفريقيا، وبخاصة ضد الأمة العربية. إن فكرة استيطان فلسطين، كقاعدة انطلاق أولى، هي نتاج تجربة الاستيطان الناجحة في أميركا. وقد ظهر أول بيان مكتوب يتحدث عن استيطان فلسطين بواسطة اليهود عام 1649 في لندن، في عهد كرومويل، وفي وقت لم يكن يوجد فيه يهودي واحد في إنكلترا. أما الحركة الصهيونية اليهودية فإنها لم تظهر إلى الوجود إلا في أواخر القرن التاسع عشر. أما الإعلان عن قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين فقد حدث بعد ثلاثمائة عام من صدور البيان الإنكليزي. وهاهو هذا الكيان، بعد اثنين وأربعين عاماً، يراوح في مكانه، تنخره الأزمات والتناقضات، وتنهال عليه حجارة الأطفال. بينما دخول الكبار إلى الميدان، جدياً وفعلياً لم يحصل بعد، لكنه محتمل ومتوقع في كل وقت.

 

     لكن هذا الزمن الطويل الفاصل بين إعلان البيان وإقامة الكيان يدل على إصرار لدى العدو؟ِ! ألن يقود هذا الإصرار إلى تكرار التجربة الأميركية الأسترالية التي تحدثت عنها في بلادنا؟!

-   صحيح أن الزمن الطويل، بين صدور بيان لندن الأول وبين إقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين العربية، يدلّ على إصرار العدو. نعم، إنه دليل على الإصرار والمثابرة. غير أن ذلك لا يدعو للقنوط واليأس، لأنه يتوجب علينا أن نتذكر بأن عدونا يتحرك في عالم موحد يسيطر عليه عموماً. إنه يتحرك في عالمه الخاص إلى حد كبير، ولذلك، فإن تطاول الوقت، المصحوب بالدأب والإصرار والمثابرة، هو دليل على استحالة تكرار تجربة أميركا في آسيا وإفريقيا، ودليل على أن تمسكهم بنهجهم هو ضرب من العمى والمكابرة. إنها مكابرة السيد الذي يتوهم إنه يستطيع فعل أي شيء على الإطلاق طالما أنه السيد. وهذا غير واقعي بالطبع. ولذلك تبقى محاولاتهم في حدود الإصرار المكابر، حتى وإن هي أخذت أشكالاً واقعية، مؤقتة بالتأكيد، على الأرض.

إن احتلال فلسطين واستيطانها، جزئياً أو كلياً، لا يشكل الهدف الحقيقي الأساسي. إذن، متى سوف يحققون هدفهم الحقيقي الأساسي؟ بعد كم قرناً؟ لأنه لم يبد في الأفق، ولا يبدو اليوم، ما يشير إلى أن ذلك ممكن قريباً. يقيناً، إن التجربة الأميركية – الأسترالية لن تتكرر أبداً في بلادنا، غير أنهم سوف يواظبون على محاولاتهم حتى نهايتهم المفجعة، إذ أنه واضح تماماً اصطدام فكرتهم القديمة، المستوحاة من نجاح التجربة الأميركية، بالواقع المختلف في المنطقة العربية. لقد حصدوا سكان أميركا بنيرانهم مثلما تحصد الغزلان، وانطلق الاستيطان هناك في أداء متواتر، سريع، لا يعيقه الإنسان إلا بقدر ما تعيقه الطبيعة، أما في فلسطين فإن الوضع يختلف جذرياً.

 

     بالعودة إلى الوحدة العربية، نرى أن هناك صعوبات ضخمة تحول دون قيامها؟! فهل نيأس ونتخلى عن هذا الهدف؟

-   الوحدة العربية ليست مجرد عملية تقتصر على رغبة العرب، ولا يكفي لتحقيقها توفر عناصرها ومقوماتها لدى العرب. إنها عملية خطيرة، هائلة، تتطلب معارك كبرى ذات أبعاد عالمية تاريخية كبرى. ففي نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي حقق النظام الرأسمالي العالمي نقلة نوعية تاريخية أخرى أعطته زخماً هائلاً لعشرات السنين التالية التي سوف تمتد حتى يومنا هذا. لقد اندمج رأس المال المالي مع رأس المال الصناعي لتبدأ باندماجهما مرحلة الإمبريالية. وما كاد النظام الرأسمالي العالمي يكتسب صفة الإمبريالية حتى برزت خاصيته الرئيسية لتطبع العالم أجمع بطابعها، نعني خاصية الربا، ليس بالمعنى المصرفي الضيق وإنما بأقبح صوره اللاإنسانية التي يغلب عليها طابع الجريمة العادية. إن الدولة الإمبريالية هي بالضبط:الدولة المرابية. وإن النظام الإمبريالي العالمي هو بالضبط: النظام المرابي. ومنذ ذلك التاريخ بدا واضحاً أن العالم جمعه قد انقسم إلى حفنة من الدول المرابية، المتحاربة والمتحالفة في آن واحد، وإلى أكثرية ساحقة من الدول المديونة. لقد غدا العالم موحداً على أساس الربا العالمي! ففي عام 1910 كان حجم الكتلة النقدية العالمية في حدود 600 مليار فرنك. وكانت أربع دول فقط هي إنكلترا والولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا تستأثر لوحدها بمبلغ 479 ملياراً، بينما بقية الدول، وجميعها أوروبية ما عدا اليابان، تستأثر بالمبلغ المتبقي وهو 121 ملياراً. وفي عام 1919 ، في نهايات الحرب الأولى، كانت الدول الإمبريالية تسيطر على مستعمرات بلغت مساحتها 97.8 مليوناً من الكيلومترات المربعة، أي على 72% من مساحة الكرة الأرضية. وكان يعيش على تلك المساحات الشاسعة 1235 مليوناً من البشر، أي ما يعادل70% من سكان العالم أجمع آنذاك! لقد كان النظام العالمي المرابي في إحدى قمم جبروته وطغيانه. ومنذ ذلك التاريخ بدأ العالم يتحول إلى كرة صغيرة على منضدة الدوائر الإمبريالية العليا، يحركونها كما يشاؤون، ويرسمون عليها ما يناسبهم من خطوط تحدد الحدود، وتنقل الشعوب، وتحذف وتلغي البلدان بجرّة قلم!

لقد صار واضحاً، في ذلك الوقت المبكر، أن العالم أجمع محكوم بثلاثة ثوابت تلتزم بها السياسات الدولية في أدق التفاصيل:

الثابت الأول: هو أنهم رسموا حدود دول العالم أجمع كما أرادوا، وبالصورة التي تتفق تماماً مع أي من مصالحهم مهما صغرت، فأقاموا "دولة" حول كل مزرعة موز، أو حقل مطاط، أو بئر نفط، أو منجم يورانيوم.. لقد زرعوا بذور التجزئة والتناقض المفتعل القاتل في كل شبر من الأرض، وسهروا بقواتهم وأجهزتهم وعملائهم على صيانة خارطتهم العالمية كما رسموها. وإن هذا الثابت الأول في السياسة الإمبريالية يعني عدم السماح، تحت طائلة الإبادة، باختراق الحدود التي وضعوها! وبينما الأمم والشعوب تتعذب أفظع العذاب داخل الحدود المصطنعة، التي تشبه قضبان السجون، انطلقوا هم ينضحون ثرواتها نضحاً لئيماً، عشوائياً، لا هوادة فيه ولا شفقة.

والثابت الثاني: هو طروحاتهم الإجرامية حول ما أسموه " التركة المشتركة للبشرية" أو "الإرث المشترك" للبشرية جمعاء، فراحوا يرددون أنه ليس من حق أية أمة عاجزة عن استثمار ثرواتها الطبيعية منع الأمم الأخرى القادرة من استثمار تلك الثروات "لصالح البشرية جمعاء"! وواقع الحال هو أنهم هم بالذات من حال دون الأمم والنهوض بعبء استثمار ثرواتها. وبمرور الزمن حققوا الفصل التام بين تلك الثروات ذات القيمة العالمية وبين الاقتصاد الوطني للأمة المنهوبة. لقد أدخلوا الثروة في الدورة الاقتصادية للإمبريالية العالمية، ومنعوا دخولها في دورة الاقتصاد الوطني لأصحابها، وصار معلوماً للجميع أن أية محاولة تقوم بها أمة من الأمم لاختراق هذا الثابت الثاني، يعني تعرضها لخطر الدمار الشامل!

والثابت الثالث: هو طروحاتهم العنصرية حول أحقية الأمم. إنهم يقولون ويكتبون أن هناك أمماً منتجة للحضارة وأمماً غير مؤهلة لإنتاج الحضارة. إنهم يقولون أن المساواة بين البشر محض خرافة، ومبدأ تكافؤ الفرص هو خرافة بدوره، فلا مساواة بين الأجناس، ولا مساواة بين الشعوب، والعرب والأفارقة، على سبيل المثال، أجناس دنيا لا يمكن لها أن تصل إلى العلم ولا تستطيع تحقيق الحضارة الرفيعة! وهكذا، مثلاً، طرحوا فكرة التكامل بين العقل الصهيوني والثروة العربية. إن حماية "الحضارة"، في مفهومهم، هي مسؤولية نخبة بعينها وأمم بعينها، بينما الخطر على "الحضارة" مصدره الجماهير وبقية الأجناس "الوضيعة" التي يجب حماية الحضارة من خطرها وحمايتها من نفسها عن طريق الوصاية عليها وتحديد موقعها ووظائفها كقوى عضلية في خدمة "الحضارة الرفيعة"! وإن هذا الثابت الثالث في السياسات الدولية يعني السهر على منع الأمم "الوضيعة"، التي يعتبرونها وسطاً بين الإنسان والحيوان، من الخروج عن دائرة الوصاية. ولما كان مثل هذا الخروج يتحقق عن طريق امتلاك الأمة "الوضيعة" لإرادتها المستقلة، ولحريتها في الحركة الذاتية الإيجابية، فإن الدوائر الإمبريالية تسهر طوال الوقت على منع "الأجناس الدونية"، مثل الباكستانيين والعرب، من امتلاك أي سلاح مادي، متقدم ومتكافئ، يمكنها من تحرير إرادتها وحركتها. أما إذا جرّب "الدونيون الوضيعون" اختراق هذا الثابت الثالث فإنهم يتعرضون لخطر التدمير والإبادة!

 

     كيف ينعكس هذا التحليل للنظام الدولي على النضال العربي باتجاه الوحدة؟!

-   إن مجمل نضال أمتنا العربية، وبخاصة في اتجاه الوحدة، ليس إلا تصدياً لهذه الثوابت الثلاثة، ومحاولات دؤوبة للخروج من عبوديتها وكسر أصفادها. إن وحدة عام 1958 بين سورية ومصر تأتي في هذا السياق بالطبع. يومها كان النظام العالمي المرابي في ذروة جبروته. ولكن حاله اليوم يختلف كلياً. فهو بعد أن أوصل البشرية وكرتها الأرضية إلى حد الكارثة الكاملة، يقف وقد نخره الفساد حتى النخاع. يقف عاجزاً عن تلبية أبسط متطلبات الحياة الإنسانية العميقة حتى في مراكزه الرئيسية، في بلدانه. لقد مضى زمن الاندفاع التلقائي المدعم باحتياطات من الثروات لا حدود لها، وبمبررات تاريخية نسبية تغطي على جرائمه. وهاهي الأزمات العميقة تزعزع أركانه الرئيسية من أساساتها دون أن يملك أي جواب منطقي على أي سؤال منطقي. إن النظام العالمي المرابي لا يملك اليوم سوى تأخير نهايته المحتومة بواسطة القسر المحض، بينما الأنظمة لا تنهض بمجرد القسر المحض. أما السمات الرئيسية، البارزة، لأزمته العامة الراهنة، فيمكن إجمالها على النحو التالي:

أولاً: لقد تطور هذا النظام المرابي، مدفوعاً بآليته الصماء، بعد الحرب الثانية، إلى نظام موحد تماماً، له عواصم متعددة لكنها منضوية جميعها تحت لواء العاصمة المركزية واشنطن. وكان ذلك يعني زج أخر إحتياطياته الهائلة، المتمثلة بالولايات المتحدة، في الميدان، أي أنه دخل مرحلته الأخيرة.

ثانياً: في ظل الهيمنة العالمية لواشنطن، وتحت رماد ما سمي بالحرب الباردة، تكونت احتكارات جديدة تمثلت بهذه الشركات المتعددة الجنسيات،التي لا تدين بالولاء التام الرئيسي، لوطن معين، أو لأمة معينة. إن ولاءها الأول هو للمال والنفوذ. إنها قوى مجنحة، محلقة، مثل تلك الوحوش الخرافية، ولا تشكل الأوطان بالنسبة لها أكثر من مقرات عمليات، ومكاتب لإدارة الأعمال. إن الرئيس الأميركي الحالي بوش (الأب)، مثلاً، يسعى بكل قوته إلى إخضاع وطنه الأميركي بالذات للشركات المتعددة الجنسيات التي هو عضو فيها! لقد حولوا العالم بأجمعه إلى مسرح واحد لعملياتهم الفظيعة. وإن " طبقة" عالمية، إن جاز التعبير، من ضمنها كثير من الشخصيات الرسمية، تبدو منصرفة بكليتها، انصرافاً مرضياً مجنوناً، لزيادة ثرواتها ولتعزيز نفوذها العالمي والذاتي أكثر فأكثر، فاقدة كل ارتباط وطني وكل شعور إنساني.

ثالثاً: ولقد أخذ اندفاع هذه "الطبقة" العالمية (من شاكلة الخاشقجي) طابعاً ميكانيكياً أعمى، باعتبارها"طبقة" أفرزها نظام ميكانيكي أعمى، غير عقلاني وغير إنساني، وهي في اندفاعتها تدمر جميع فروع الحياة الإنسانية في جميع أنحاء العالم، وتدمر أيضاً شروط الحياة الطبيعية، ابتداء بجوف الأرض وانتهاء بالغلاف الجوي. إن المياه الجوفية، والتربة، والجداول، والأنهار، والبحار، والغابات، تحتضر جميعها. إن المطر يشح ويفسد بالأحماض. والغلاف الجوي يتهتك ويتمزق. إن خطراً حقيقياً واحداً تتعرض له البشرية جمعاء والطبيعة كلها عبر العقود القليلة القادمة إذا لم تنجح الإنسانية بالخلاص من الشركات الاحتكارية السرطانية المتعددة الجنسيات ومن نظامها العالمي.

رابعاً: أوصل النظام العالمي المرابي كتل أمواله الضخمة، المعبودة، إلى طريق مسدود، نتيجة لعمليات الربا الطويلة، ونتيجة للنضج العشوائي والتبديد والإتلاف لثروات الشعوب. لقد أصبحت الدول جميعها مكبلة بأصفاد ديون هائلة لا ينفع في سدادها بيع الدولة المديونة بقضها وقضيضها. إن دولة مثل الهندوراس مديونة بما يعادل 250% قياساً بمنتوجها الوطني كله! ومعظم الدول المديونة تقف عاجزة، ليس عن سداد ديونها فحسب، وإنما عن سداد فوائد الديون. وهكذا صار واضحاًَ، في السنوات الأخيرة، تراكم رؤوس الأموال الضخمة وكسادها في المراكز، لتتشكل بذلك تخمة مالية ربما أصبحت قاتلة لأصحابها المرابين، بينما على الجانب الآخر تعلن الدول الفقيرة إفلاسها وعجزها التام في  ميداني الاستدانة والتسديد! ولا يبدو ثمة علاج لهذا الاستعصاء التاريخي الذي يعطل حركة رؤوس الأموال التي لا تعيش بدون الحركة الدائمة. إن هذا الاستعصاء لا حل له إلا بخلاص الأمم المظلومة المكبلة بثوابت هذا النظام الظالم.

خامساً: وبينما تتراكم، بل وتعدم، كميات هائلة من المواد الغذائية في المراكز الاحتكارية، وآخر مثال على ذلك إعدام عشرين مليون رأس غنم في أستراليا للحفاظ على الثمن العالمي للصوف، تتوالى مسيرات الجوع في جنوب العالم، وتتساقط ملايين الضحايا من الجوعى. ولكن تدمير معظم إنتاجيات جنوب العالم قد ارتد على مرتكبيه بصورة ركود قاتل، وكساد مزمن، مترافق مع التضخم، بعد أن أصبحت أمم الجنوب عاجزة عن استيراد ما يسدّ الرمق. تراكم وإعدام الأغذية في جهة والمجاعات في الجهة المقابلة. إنه الاستعصاء التاريخي الآخر الذي لا حل له إلا بتغيير النظام العالمي الفاسد.

سادساً: صار عالمنا في ظل الشركات المرابية، مقفراً، موحشاً، مجدباً ومرعباً. فلا فنون  ولا آداب. لا شعر ولا موسيقى. لا مسرح ولا سينما. لا فلاسفة كباراً ولا قادة عظاماً. إنما الخواء، والموات، واليأس، والخبل، والعدمية اللا واعية. وعلى نطاق واسع ليس ثمة حاضر مقبول ومرغوب ولا مستقبل مأمول ومنشود، والمخدرات تتفشى في كل بقاع الأرض، وبخاصة في الشمال، وبرعاية الحكومات الرأسمالية وصنائعها. إن رؤوس الأموال المتراكمة، الكاسدة، لا تجد ضيراً في التحرك في السوق السوداء وفي ميدان المخدرات!

 

 

 

     إذن النظام العالمي الرأسمالي بات ضعيفاً في نظركم؟!

-   إن النضال من أجل الوحدة العربية لا يمكن أن يحقق هدفه إلا على حساب هذا النظام العالمي الرأسمالي الموحد. وإن هذا النظام يبدو وقد صار جاهزاً للهزيمة. أما الأمة العربية، والأمم الأخرى المظلومة، فيبدو أنه حانت اللحظة التاريخية التي تسمح لها بوضع القدم على أول طريق الانتصارات المتوالية، التي سوف تنتهي بتغيير هذا النظام العالمي، أي بزوال التمييز والاحتكار.

                                                حاورته: رحاب مكحل                 

 

 

Hosted by www.Geocities.ws

1