باكستان وفلسطين وهيئة الأمم عام 1947؟

بقلم: نصر شمالي

قبل أيام وقف الرئيس الباكستاني برويز مشرّف أمام جماعة المؤتمر اليهودي الأميركي في نيويورك، وخاطبهم قائلاً أن منح الفلسطينيين حق إقامة "دولة" سيساعد على وقف "إرهاب" الإسلاميين، وسيؤدي إلى إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين باكستان و"إسرائيل"! وقال مشرّف أن إسلام آباد ليس لديها خلاف أو صراع مع الإسرائيليين، لكن الشعب الباكستاني يتعاطف بقوة مع طموحات الشعب الفلسطيني في إقامة دولة مستقلة! وأردف الرئيس الباكستاني أن النزاع الذي بدأ مع قيام "إسرائيل" في العام 1948 هو مجرّد انحراف في تاريخ طويل من التعاون والتعايش بين المسلمين واليهود، لكنهم الآن يقفون ضدّ بعضهم البعض من دون داع، وهو وضع يحتاج إلى قدر من الشجاعة للتخلص منه.. الخ!

والحال أن ما لم يذكره الرئيس الباكستاني في خطابه هو المهم والأساس، فاليهود ظلوا، مثل العرب والمسلمين والمسيحيين الشرقيين، يعانون من أهوال الاجتياحات الفرنجية (الصليبية) حتى نهاياتها، وعلى مدى النصف الأول من الألف الميلادية الثانية، وما استجد، اعتباراً من أواسط القرن السابع عشر، هو قرار الأنجلوسكسون اللوثريين بتجنيدهم لصالح مشاريعهم الاستعمارية، ووضعهم في مواجهة العرب سواء شاؤوا ذلك أم أبوا، وهو ما حدث وما زال يحدث حتى يومنا هذا، أي أن مشكلة العرب والمسلمين في حقيقتها هي مع الأنكلوسكسون اللوثريين في لندن وواشنطن، بينما اليهود الصهاينة في وضعهم الراهن ليسوا اكثر من مرتزقة في ركاب المشاريع الاستعمارية الإنكليزية الأميركية.

باكستان وقرار تقسيم فلسطين!

لم يستطع الرئيس مشرّف أن يقول لجماعة المؤتمر اليهودي الأميركي الذين قابلهم في نيويورك: أيها اليهود، إن الذي قرّر مصيركم كقتلة مأجورين هو نفسه الذي قرّر مصيرنا كمقتولين مظلومين! وهو معذور بالطيع إن لم يستطع قول ذلك في خضم هذه الحرب العالمية الدائرة، الموجهة ضدّ العرب والمسلمين بالدرجة الأولى.

غير أن الحكومة الباكستانية في عام 1947 كانت أكثر قدرة على المصارحة، وعلى تجسيد موقف شعبها المتآخي مع العرب في ظلال الحضارة المشتركة الإسلامية، ففي ذلك العام، وتحديداً في 9/11/1947، صدر قرار تقسيم فلسطين عن الجمعية العامة لهيئة الأمم، وأثناء المناقشات التي سبقت صدور القرار الظالم وقف وزير خارجية باكستان، محمد ظفر الله خان، وخاطب أعضاء الهيئة الدولية قائلاً:" إن من حق عرب فلسطين البالغ عددهم مليوناً وثلاثمائة ألف نسمة أن يختاروا نظام الحكم الذي يريدون، وهذا الحق تضمنه شرعة الأمم المتحدة، وإن كل ما يمكن لهيئة الأمم أن تقوم به هو أن تضمن لسكان فلسطين اليهود، البالغ عددهم ستمائة وخمسة وعشرين ألفاً، العيش بحرية في الدولة الجديدة، وممارسة طقوسهم ومعتقداتهم بكل حرية"! وبعد إعلان نتيجة التصويت لصالح التقسيم وقف الوزير الباكستاني مرة أخرى وعلّق قائلاً:" لقد سعينا لإحقاق الحق، ونجحنا في إقناع عدد من مندوبي الدول ليروا الحق كما لمسناه، لكن التيار الجارف ضيّع مساعينا، ونحن لا نحقد على زملائنا المندوبين الذين بدّلوا مواقفهم تحت الضغط الشديد والإكراه (الأميركي) واقترعوا لصالح مشروع لا تقرّه العدالة ولا يقرّه الإنصاف"!

لبنان وقرار تقسيم فلسطين!

ولكي نعرف ما كان يحدث في أروقة الأمم المتحدة قبل التصويت، وهو عين ما يحدث اليوم، نعود إلى كلمة مندوب لبنان التي ألقاها أمام الهيئة العامة مخاطباً ممثلي الدول، وجاء فيها:" إنني أتصوّر جيداً مدى ما تعرّض له إحساسكم بالعدالة والمساواة والديمقراطية من ضغط ومناورات خلال الساعات الست والثلاثين الماضية، وأستطيع أن أتصوّر مقاومتكم جميع هذه المحاولات حرصاً منكم على ما نعتبره أعزّ وأقدس ما في الأمم المتحدة، ألا وهو الحفاظ على سلامة مبادئ الميثاق وصيانة الديمقراطية لمنظمتنا، وأنني أذكّركم بحرية التصويت التي يجب أن تصان، والتي يقدسها كل وفد من وفودنا، فإذا تخلينا عنها وأفسحنا المجال أمام الطغيان (الأميركي) يعالج كل وفد على حدة في غرف الفنادق، وفي الردهات، وفي الغرف الخلفية، وفي الفراش (؟!) وتهديد الأعضاء والحكومات بالعقوبات الاقتصادية، وترغيبهم ورشوتهم لحملهم على التصويت لصالح جهة معينة، فإن مستقبل منظمتنا سوف يكون مظلماً"!

وفي ما بعد، اعترف الوزير الأميركي دين راسك أن شخصيات أميركية مسؤولة كانت تقول لمندوبي الدول أن تقسيم فلسطين مشروع يخص الولايات المتحدة! واعترف وكيل وزارة الخارجية سمنر ويلز قائلاً:" لقد استعمل الأميركيون بأمر من البيت الأبيض جميع أنواع الضغوط للتأثير في البلدان الواقعة خارج العالم الإسلامي، والتي عرف أنها متردّدة أو معارضة لقرار التقسيم"! وقال وزير الدفاع الأميركي فورستال أن "الوسائل التي استخدمت لإكراه الدول الأخرى في الجمعية العامة كادت أن تكون فضيحة"! وكتب محرر صحيفة الواشنطن بوست يقول:" قليلون هم الذين أدركوا حقيقة ما حدث، فالرئيس ترومان أمر وزارة الخارجية بالعمل على ضمان التصويت إلى جانب قرار التقسيم، وهو استدعى وزير الخارجية يوم الأربعاء ثم يوم الجمعة إلى البيت الأبيض، ونبهه أنه سوف يطلب منه توضيحاً إذا لم تصوّت الدول إلى جانب الولايات المتحدة"!

يصفقون لتقهقرنا باعتباره شجاعة!

منذ عقد الثلاثينات الماضي قال الشهيد عز الدين القسام مخاطباً الحاج أمين الحسيني بما معناه:" مشكلتنا مع الإنكليز أساساً ومع اليهود ضمناً، والجهاد يجب أن يكون ضدّ الإنكليز أولاً! لقد كان الكثيرون حينئذ يخطبون ودّ الإنكليز لمؤازرتهم ضدّ اليهود، مثلما هو حالهم اليوم مع الأميركيين! وهاهو الرئيس الباكستاني يتوجه إلى اليهود كأنما هم الطرف الأساسي في المشكلة وليس الأميركيين فيتناول معهم الخبز والملح ويستمع وإياهم إلى آيات من القرآن الكريم، ثم يدعوهم للقبول بحقائق الجغرافيا السياسية، والسماح للعدالة بأن تشمل الفلسطينيين، واصفاً ذلك بأنه مفتاح الأمن للإسرائيليين ونهاية الإرهاب في الشرق الأوسط، رابطاً إياه بخطوات أخرى سوف تتخذها الحكومة الباكستانية في اتجاه التعاون والتطبيع إلى مستوى علاقات دبلوماسية كاملة!

لقد صفق أعضاء المؤتمر اليهودي الأميركي بحرارة أثناء خطاب الرئيس الباكستاني، لكن تصفيقهم كان في حقيقته تصفيقاً للإدارة الأميركية التي نجحت في ليّ ذراع باكستان بعد ستين عاماً مضت على خطاب محمد ظفر الله خان أمام هيئة الأمم، محملاً الولايات المتحدة مسؤولية المشروع الصهيوني في فلسطين ومسؤولية إرهاب المندوبين أعضاء الهيئة! وقد وصف السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة خطاب الرئيس مشرّف بأنه "شجاع جداً"! ويفترض أنه كان يقارنه بخطاب ظفر الله خان عام 1947، أي أن "الشجاعة" التي يعنيها هي القدرة على التراجع عن الحق وعن الاستقامة! وسارع السفير الإسرائيلي إلى التأكيد على ما يهمه ويهم أسياده الأميركيين وهو أن الوقت قد حان كي تتقدم الحكومة الباكستانية خطوة إلى الأمام عبر فتح نوع من مكتب للمصالح الباكستانية في "إسرائيل"، فمثل هذه الخطوة التي أصبحت متوقعة هي التي استدعت التصفيق الحار المتكرر، أما حديث الرئيس الباكستاني عن ذلك الانحراف في تاريخ طويل من التعاون والتعايش بين المسلمين واليهود، وعن إمكانية تصحيحه، فهو أمر لا علاقة له أبداً بجوهر الاهتمامات الأميركية الصهيونية الراهنة، التي لا يعنيها سوى رؤية العرب والمسلمين يتراجعون ويتقهقرون مفسحين المجال واسعاً أمام أطماعها التي بلا حدود ولا نهاية، ولقد صفقوا بحرارة لنجاحهم في جعلنا نتراجع ونتقهقر!

www.snurl.com/375h      ‍

 

Hosted by www.Geocities.ws

1