إنعدام اليقين بصدد نتائج الحرب !

بقلم: نصر شمالي

دخلت منطقة شرقي المتوسط مرحلة تصعيد عسكري أميركي شبه إجباري، يصعب على الأميركيين التراجع عنه طوعاً، ويصعب عليهم التأكد من نتائجه سلفاً، فهم يريدون أن يحسموا في العراق مصير المنطقة الواقعة بين بحر قزوين والمحيط الأطلسي لصالحهم، وبالتالي يريدون أن يحسموا مصير القرن الواحد والعشرين عالمياً، ليكون قرناً أميركياً خالصاً! غير أن مفاجآت الميدان جعلت أهدافهم تبدو كأنما هي مازالت مجرّد أمنيات. وبينما يقول البعض أن النتائج حسمت وتأكّدت لصالح الأميركيين، وانتهى الأمر، فإن البعض الآخر يقول أن الأبواب صارت مفتوحة على جميع الاحتمالات بصدد مصير القرن الواحد والعشرين، وأن التاريخ العام قد أفلت زمامه، فهو طليق، جامح، لا يدري أحد من الذي سوف يمسك به مستقبلاً!

الإشارات الأميركية ومدى مصداقيتها

إن الأميركيين يرسلون من وقت لآخر إشارات متناقضة، بعضها يؤكد أن معركة مصير القرن العالمي حسمت لصالحهم في بغداد، وبعضها الآخر يبدو غير متأكد من ذلك إلى حدّ كبير، فالإعلان عن البدء في توزيع غنائم الحرب، وعن البدء في إنشاء مقر للسفارة الأميركية في بغداد هو الأكبر في العالم أجمع، يشيران إلى الثقة بالنصر الحاسم لصالحهم، غير أن اللجوء إلى الوحدات الخاصة من القناصة، وإلى الاستخبارات، وإلى تدريب وإعداد قوات عراقية ميدانية موالية، وإلى الإستعانة بالمستوطنين الصهاينة الخائبين، يشير كله إلى عدم بلوغهم درجة اليقين بصدد نتائج الحرب.

لقد فشلت قوات الاحتلال النظامية الثقيلة فشلاً ذريعاً عندما اصطدمت بالمقاومة العراقية على نطاق واسع، وهي التي كان مرتّباً لها أن تقوم بشبه استعراض عسكري احتفالي ختامي على أرض العراق الذي أنهكته سنوات الحصار الطويلة، وكان فشلها المعلن صاعقاً بالنسبة لأولئك الذين موّلوا الحرب من أصحاب الشركات الربوية، وتوقعوا قطف ثمارها على الفور، فبدأ الصراخ والعويل من جهة، وبدأت التطمينات المتظاهرة بالثقة من جهة أخرى! واليوم، يقول المتظاهرون بالثقة أن الوحدات الخاصة الأميركية، مدعومة بخبرات حرب فيتنام وحرب فلسطين، سوف تتكفل بتفكيك المقاومة العراقية وتصفيتها، حيث يمكن محاصرة هذه المقاومة بإحكام، وحرمانها من تعويض ما تستهلكه من عتاد ورجال، وإبادتها بالكامل! وهكذا، بناء على هذا التقدير، يطلق الأميركيون تصريحاتهم المتفائلة عن البدء بعمليات المال والأعمال والإعمار، والبدء بإنشاء مقر السفارة الأميركية الأكبر في العالم أجمع، لأنه سيكون مقر إدارة المنطقة الشاسعة الواقعة بين بحر قزوين والمحيط الأطلسي!

الوحدات الخاصة لا تكفي لوحدها !

في البداية، قبل سقوط بغداد وبعده، عندما بدأت القوات الثقيلة الضخمة تتلقى ضربات المقاومة المؤثرة وتترنح بسببها، انطلق الصراخ في مؤسسات الإدارة الأميركية داعياً إلى زيادة حجم هذه القوات، غير أن ذلك لم يكن ممكناً لأسباب كثيرة، أبرزها الحجم الإجمالي للقوات الأميركية ووظائفها العالمية. وقد هرع كبار المسؤولين الأميركيين إلى بغداد تباعاً، بما فيهم الرئيس شخصياً، في زيارات أشارت بوضوح إلى أنهم يواجهون مأزقاً فوجئوا به. وفي تلك الفترة جرى الحديث عن كل شيء، حتى عن إمكانية الانسحاب من العراق، فقد كانوا يتخبّطون حقاً، ثم سرعان ما استردّوا رباطة جأشهم وروعهم، وأعلن الرئيس أن الانسحاب مستحيل (الانسحاب طوعاً بالطبع) وبدأ الإعلان عن البديل للقوات النظامية، عن الوحدات الخاصة، أي عن حرب العصابات، وهي حرب أقلّ ما يقال فيها أنها شديدة التعقيد والغموض من حيث عملياتها ومن حيث نتائجها، وهي فشلت في فيتنام فشلاً ذريعاً وتواجه الفشل اليوم في فلسطين العربية المحتلة على الرغم من التفاوت الهائل بل الكامل في موازين القوى العسكرية!

إن الأميركيين يعوّلون اليوم في العراق على القوات الخاصة التي يبلغ تعدادها الإجمالي سبعة وأربعين ألفاً، وهي وحدات خفيفة، وخليط من القناصة ورجال الاستخبارات، رفع الرئيس بوش ميزانيتها لعام 2004 إلى 6.5 مليار دولار، بنسبة 34% عن ميزانيتها في العام 2003، الأمر الذي يعطينا فكرة عن طبيعة التصعيد في العمليات العسكرية، الذي بدأ فعلاً، غير أن الأميركيين يعوّلون في الوقت نفسه، وبالمقدار نفسه إن لم يكن أكثر، على تعاون دول الجوار في إحكام الحصار ضدّ المقاومة وتأمين عدم تعويضها عما تستهلكه، وأيضاً على تشكيل وحدات عراقية تقوم بدور الدليل الميداني، حيث بدون هذه وتلك لن تتمكن الوحدات الأميركية الخاصة من القيام بواجباتها، ويكون مصيرها مصير الوحدات النظامية الثقيلة، فهل ستتوفر لهم هذه الشروط للمضي قدماً في الحرب، ولتحقيق إخضاع العراق بأسرع وقت ممكن، قبل أن ينفد صبر المموّلين المرابين وصبر دافعي الضرائب والدماء في بلدان الحلفاء؟

الإدارة في القدس أم بغداد؟

في منتصف التسعينات كانت الإدارة الأميركية تعدّ مدينة القدس لتكون العاصمة الإقليمية الأميركية الصهيونية ابتداء من عام 1999، فعلى هامش قمة شرم الشيخ الدولية، التي اعتبرتها وزيرة الخارجية أولبرايت أهم قمة في القرن العشرين، وقف الرئيس كلينتون في شرفة فندقه في القدس ودعا الذين حوله لرؤية قطعة الأرض التي ستنهض عليها السفارة الأميركية عام 1999!إنها ثلاثون ألف متر مربع من أرضنا المقدسة، خصصت لإنشاء مقر إقليمي للإدارة الأميركية في القدس، التي لن تكون عاصمة يهودية ولا مسيحية ولا إسلامية، بل أميركية صهيونية!

كانت الإدارة الأميركية تبدو واثقة كل الثقة من أن سفارتها في القدس سوف تكون ناهضة في العام 1999، كمقر قيادي إقليمي في نقطة التقاء القارات الثلاث، إنما على أساس أن لا تقع أحداث معوّقة، من ذلك النوع الذي يحذّر منه بين وقت وآخر بعض حكام المنطقة، غير أن مثل هذه الأحداث وقعت في وقت كانوا يعتقدون فيه أنهم قطعوا شوطاً طويلاً على طريق تطويع وإخضاع الشعب الفلسطيني الباسل، وإذا بانتفاضة الأقصى تتفجر وتتواصل لتجعل من توقعات الإدارة الأميركية الصهيونية مجرّد تمنيات لم تتحقق في مواعيدها!

اليوم، يتحدثون عن بغداد كعاصمة إقليمية أميركية صهيونية، لا عربية ولا يهودية ولا مسيحية ولا إسلامية، ويعدون بنهوض سفارة ضخمة، تليق بهيمنتهم الربوية العالمية، في المدينة الخالدة التي أسسها المنصور وجعلها الرشيد عاصمة الحكمة السياسية والسلام والعلاقات الدولية العادلة، فهل سيتحقق ما جاء في أجندتهم من مشاريع غير حكيمة وغير عادلة، يرفضها العالم أجمع، ويستبسل العرب والمسلمون حتى الإستشهاد لإفشالها؟

    

Hosted by www.Geocities.ws

1