رايس تصنّف المظلوم ظالماً والقتيل قاتلاً!

بقلم: نصر شمالي

تبلغ المكابرة الباغية أقصى مداها عندما تدعو وزيرة الخارجية الأميركية الى إيقاف الدعم للمقاومة في فلسطين، واستثنائها هي والمقاومة اللبنانية من حق المشاركة في الحياة السياسية العامة! لماذا؟ لأن المقاومة ترفض تسوية النزاع العربي- الإسرائيلي! إن الوزيرة تقلب الموقف رأساً على عقب، فتضع المعتدى عليه، المنهوب المظلوم المقتول، في موقع المعتدي النهاب الظالم القاتل ! فلا إشارة في تصريحات الوزيرة ومحاضراتها، ولو بكلمة واحدة، الى الأراضي العربية المحتلة ليس في عام 1948 بل في عام 1967، ولا إشارة الى قرارات الأمم المتحدة بصدد الانسحاب الى حدود الرابع من حزيران/يونيو، ولا إشارة الى ملايين الضحايا الفلسطينيين في المقابر ومخيمات الشتات، ولا الى جدار الفصل العنصري، ومحاولات حشر ما تبقى من الفلسطينيين في معازل تطوقها المستوطنات لتصبح محكومة بالموت المؤكد! لا إشارة ولو بكلمة الى شيء من ذلك، فكأنما العرب هم من اجتاز البحار والمحيطات واحتلوا أراضي الإسرائيليين أو الأميركيين في قارة أخرى ! كأنما العرب في موقع الظالم المحتل الذي يرفض عروض التسوية المقدمة من المظلوم الإسرائيلي أو الأميركي! وهكذا فإن الوزيرة رايس، عبر تصريحاتها ومحاضراتها في القاهرة ( 20/6/2005) تطالب المظلوم المنهوب المقتول بالتخلي عما تبقى في يديه من بقايا وسائل للدفاع عما تبقى له من وجود!

ثم إن المكابرة الباغية تتجاوز كل حدّ عندما تدعو الوزيرة الأميركية أشقاء العراق لمساعدة قواتها المحتلة ضدّ المقاومة العراقية! وعندما تقرن الديمقراطية بتجريد المقاومة العراقية والفلسطينية واللبنانية من سلاحها وإبادة فصائلها باعتبارها نقيضاً للديمقراطية ! أي أن الاستسلام والخضوع التام للاستراتيجية الأميركية/الإسرائيلية هو الديمقراطية التي تقصدها واشنطن!

الديمقراطية عن حق وحقيق !

وأغرب ما في الأمر أن الوزيرة الأميركية رايس، عبر خطاباتها ومحاضراتها في عدد من العواصم العربية، تتحدث بنبرة السيد المطاع الذي يملي ولا يقترح، والذي لا ينتظر تساؤلاً ولا اعتراضاً من مستمعيه التابعين الطيعين! ثم إن الوزيرة تمارس النقد الذاتي على طريقة المستبدين الطغاة، فتقول أن الولايات المتحدة سعت على مدى ستين عاماً لتحقيق الاستقرار في المنطقة العربية على حساب الديمقراطية ! أي أنها دعمت أنظمة غير ديمقراطية لصالح الاستقرار الذي هو استقرار مصالحها بالطبع! ليس لسنة واحدة أو خمس سنوات، بل طوال ستين عاماً، تصوّروا! وبعد هذه العقود الطويلة اكتشفت واشنطن أنها لم تحقق لا الاستقرار ولا الديمقراطية ! فأي نقد ذاتي هذا النقد الأميركي الفظيع الذي جاء مترافقاً مع إعادة احتلال المشرق العربي احتلالاً عسكرياً مباشراً؟ وأي نقد ذاتي هذا النقد الأميركي الذي يلخص الديمقراطية بنزع سلاح المقاومة ضد الاحتلال والاستيطان، وبإبادة قواتها وجماهيرها؟

غير أن الوزيرة رايس بدت غير متعجلة في إنجاز العملية الديمقراطية العربية، حيث قالت أن هذه العملية سوف تستغرق زمناً طويلاً، لأن الولايات المتحدة نفسها استغرقت أزمنة قبل إنجازها،وهي التي ولدت كدولة عبودية أمضت مئة عام قبل أن تضمن لجميع مواطنيها حق التصويت والانتخاب بشكل كامل، حتى عام 1965، كما شرحت رايس! وهكذا يفهم من هذا النقد الذاتي أن العرب سوف يقضون المئة عام القادمة تحت الرعاية والإشراف الأميركي والإسرائيلي المباشر، ريثما يصبحون ديمقراطيين عن حق وحقيق!

الغطاء السياسي لعمليات التجسس !

في الفترة ما بعد السوفييتية، منذ العام 1991، أعلنت الإدارة الأميركية برئاسة بوش الأب عن بداية انطلاق النظام الدولي الجديد، وهو النظام الذي عنى انفرادها بقيادة العالم، أما الذريعة فكانت إشاعة العلاقات الديمقراطية في مجمل البلدان، بدءاً ببلدان الاتحاد السوفييتي السابق، وأما الديمقراطية المقصودة فهي تخلّي الشعوب عن المقاومة الجدّية، المستقلة الفعالة، والاكتفاء بعرائض الاحتجاجات والمظاهرات، أي التخلّي عن هدفي الحرية والاستقلال ! وقد كتب محرر صحيفة "بوسطن غلوب" الأميركية المتنفذة، في عام 1991، يقول:" تستقبل أجهزة المخابرات الأميركية عملية دمقرطة المجتمع السوفييتي العلنية والمتنامية بصفتها الإمكانية الملائمة للتوسع في عمليات التجسس ضدّ الاتحاد السوفييتي" ! ولنلاحظ هنا هذا الربط المحكم بين الديمقراطية على الطريقة الأميركية وبين توسّع نشاط المخابرات، التوسع الذي يعني السيطرة على خلايا الحياة الاجتماعية في البلد المستهدف! وبالفعل فقد اتسع نشاط المخابرات الأميركية في بلدان الاتحاد السوفييتي السابق ليشمل التحليلات السياسية الإعلامية وصولاً الى تجنيد العملاء وتنفيذ العمليات السرية الهدّامة في جميع الميادين!

غير أن الإدارة الأميركية، بما فيها رئيس الاستخبارات المركزية، لا تتحدث عن ممارساتها وأهدافها الحقيقية مباشرة، بل تغلّفها بصياغات وعبارات مخاتلة، ففي نهاية ذلك العام 1991 قدّم رئيس الاستخبارات وليام كولبي لمجلة نيوزويك توضيحاً مخاتلاً نموذجياً جاء فيه مايلي: " إن عدونا السوفييتي السابق يقبع الآن تحت الأنقاض. إن المجتمع ممزق، والاقتصاد في وضع كارثي والنظام السياسي مفكك، فهل من المعقول أن نواصل نشاطنا ونسمح بكل الإفرازات السمّية المحتملة الممكنة؟ أم ثمة طريقة تمكننا من مساعدة هذا المجتمع كي يصير عضواً طيباً في الأسرة الدولية؟ بودّي لو وضع رئيسنا، بالتعاون مع حكومات اليابان وأوروبا، برامج للتنمية، حيث من الصواب أن تعمل أوروبا الشرقية وبلدان الاتحاد السوفييتي على معالجة قضاياها الخاصة، ولكن من الصواب أيضاً القول أنها تحتاج الى يد صلبة للعون، فإذا بدأت بإحلال النظام فنحن مستعدون للتجاوب، فبهذه الطريقة تصرّفنا في مشروع مارشال الذي شكل واحداً من حوافز التنمية العظيمة في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية"!

القفاز المخملي للقبضة الفولاذية !

يقول ضابط المخابرات الروسي ليف باوسين ( كتابه: عرّاف القدر/ترجمة زياد الملا ) أن تصريح رئيس المخابرات الأميركية يعطي للوهلة الأولى معاني رقيقة وحنونة، كما لو أنه رئيس جمعية خيرية ! ولكن مشروع مارشال الأوروبي أعطى عملياً البرهان على هيمنة واشنطن في أوروبا، وصار وسيلة الأميركيين لكبح الشعوب الأوروبية بحجة مكافحة الشيوعية، سواء على الصعيد الاقتصادي أم على صعيد التأثير المباشر وغير المباشر في سياسات البلدان الأوروبية، الداخلية والخارجية ! يضيف باوسين : وهكذا فلا تعارض إطلاقاً بين ما كتبته صحيفة بوسطن غلوب وبين توصيات رئيس الاستخبارات المركزية، فكل شيء ينبثق من مفهوم الإدارة الأميركية الاستراتيجي عن عالم بأسره يجب أن يسير على الطريقة الأميركية!

واليوم، عندما نستمع الى تصريحات ومحاضرات الوزيرة الأميركية رايس في القاهرة وغيرها، فإنه ليفترض أن لا نكون سذّجاً الى الحد الذي ننخدع معه بالمعاني الرقيقة والتعابير الحنونة حول قمع المظاهرات في مصر واعتقال ثلاثة من أصحاب الرأي في السعودية، بل يتوجب علينا أن ننظر الى السجن المركزي الدولي الذي أقامته الإدارة الأميركية في قاعدة غوانتينامو العسكرية، خارج حدودها وخارج كل قانون، من أجل القضاء على مقاومة الشعوب عموماً! ويتوجب علينا أن ننظر الى ما تفعله قواتها بالعراق وطناً وشعباً، حيث الأبرياء القتلى بعشرات الألوف، وحيث الدمار الشامل لم يترك شبراً من أرض العراق ! ويتوجب علينا أن نمعن النظر أكثر لنرى كيف توشك القاعدة اليهودية الأميركية في فلسطين أن تستكمل استئصال الشعب الفلسطيني وطيّ صفحته! ويتوجب علينا أن لا ننسى للحظة واحدة أن ثلثي مساحة المشرق العربي وحوالي نصف سكانه تحت سلطة الاحتلال الأميركي/الإسرائيلي المباشر، وما تبقّى تحت سلطته غير المباشرة التي تسعى حثيثاً كي تصبح مباشرة، سواء بالديمقراطية على الطريقة الأميركية أم بالاحتلال العسكري!

www.snurl.com/375h             

Hosted by www.Geocities.ws

1