الأمة تواجه الإنكفاء الأخطر في تاريخها!

بقلم: نصر شمالي

تدور اليوم من حولنا أحداث أشبه بالروايات الخيالية، حيث هناك من يصرّ على الفصل بين أوضاعنا الراهنة وبين خلفياتها ومسبباتها الحقيقية،وهاهي الأمة العربية تعامل كما لو كانت بطلة مسرحية خفيفة ظريفة للأطفال، مأخوذة عن قصة "آليس في بلاد العجائب" حيث توجب على "آليس" أن تصغر وتصغر، إلى حجم الأرنب بل أقل، كي تدخل في جحور القوارض وتتعامل معها!

إنهم يطلبون اليوم من الأمة، تحت مختلف العناوين القاتمة والبرّاقة، أن تتضاءل وتتضاءل، أن تنكفئ وتنكفئ، كي تصبح في حجم الإسرائيليين، ويصبح عقلها ضيقاً أكثر من عقولهم، وبالطبع فإن هذا هو ما يريده الأنكلوسكسون اللوثريون الصهاينة بالضبط!

ولكن إذا كان هذا ممكن الحدوث في الرسوم المتحركة لوالت ديزني فقط، فإن البعض من أبناء أمتنا يأخذونه على محمل الجدّ، ويتجاوبون معه، ويعربون عن قبولهم بالانكفاء والتصاغر جسماً وعقلاً، إلى مستوى الدويلة المصطنعة، ثم مباشرة إلى مستوى أقل هو العشائر والطوائف والتجمعات الاثنية النخبوبة، وبالطبع يمكن للمسرحية الخيالية أن تنقلب إلى واقع مأساوي مصطنع، بقوة الإدارات العالمية الباغية وبمساعدة القابلين بالانكفاء من أبناء الأمة، ولكن شرط أن تخلو الساحة من أي أثر للمقاومة الاستشهادية، فبوجودها واستمرارها، النوعي وليس الكمي مؤقتاً، تبقى الروايات روايات، وباستئصالها تماماً تتحلل بنية الأمة وتنحدر نحو العدم! وهكذا فليس مبالغة القول بأن الأمة قد تواجه جدّياً خطر الانكفاء النخبوي الرابع والأخير، الذي يهدد بتقويضها من جذورها، وهو الإنكفاء عن القطرية، أو الوطنية، داخل الدويلات المصطنعة، أي الارتداد إلى حالة البدائية والمكونات الأولى التي تعني الانقراض! أما عن الإنكفاءات الثلاثة السابقة، التي حدثت على مدى القرون الخمسة الماضية، فنستعرضها هنا باختصار شديد جداً.

الانكفاء الأول عن الأممية!

في القرن السابع الميلادي حقق العرب مأثرتين جليلتين عالميتين هما: الأولى قيادتهم عملية الانتقال من عصر الرق والعبودية، اليوناني الروماني الفارسي، إلى عصر الصناعات الحرفية المحرّرة الواسعة النطاق، والتجارة الطليقة المنظمة، والتكافؤ والمساواة في العلاقات الداخلية والخارجية بين الأفراد والجماعات. والثانية قيادتهم في الوقت نفسه لعملية توحيد جملة المجتمعات الإنسانية في العالم المتحضّر الذي كان قائماً آنذاك (حوض المتوسط، وحوض الهند، وحوض الصين) وقد نهضت الأمة العربية والإسلامية بأعباء قيادة ذلك العصر الذي دام ثمانية قرون تقريباً، فكانت آدابها وعلومها وقوانينها وسياساتها هي السائدة أممياً إلى حدّ كبير، حتى أن أحد باباوات روما (على سبيل المثال فقط) تخرّج من جامعة قرطبة! لقد كان عصراً عربياً إسلامياً أممياً، أخلاقياً وإنسانياً في مبادئه وسياساته كقاعدة، أما الانحرافات والارتكابات الصغرى والكبرى فكانت الاستثناء والشذوذ! غير أن مظاهر التحلل والتقهقر بدأت تعصف بذلك النظام العالمي العربي الإسلامي، بسبب الصراعات الداخلية والحروب الخارجية، وهكذا ابتداء من أواخر القرن الرابع عشر وأوائل الخامس عشر بدا واضحاً أنه بلغ نهاياته، وأنه على وشك الانكفاء وإخلاء الميدان لقيادات عالمية جديدة في قارة جديدة!

وبالفعل سرعان ما وقع الانقلاب التاريخي العالمي، ما بين الأعوام 1492 – 1521، بسقوط غرناطة على أيدي قوات التحالف الأوروبي (اتحاد المدن لتجارية الأوروبية) واكتشاف أميركا والطريق إلى الخليج العربي فالهند، ثم الدوران حول الأرض والتأكد عملياً من كرويتها! وقد ترتّب على ذلك الانقلاب انكفاء العرب والمسلمين عن الأممية وعن موقع القيادة فيها، إلى الرابطة العثمانية الإسلامية وإلى موقع الدفاع عن الوجود بالدرجة الأولى!

الانكفاء الثاني عن الرابطة!

لقد تحوّلت الرابطة العثمانية الإسلامية إلى وضعية الدفاع عن الوجود بالكامل ابتداء من النصف الأول للقرن السادس عشر، فقد كان حوض المحيط الهندي قد أصبح بعيداً جداّ عن العرب خصوصاً وعن الرابطة عموماً، ولم يكن التقدم العسكري العثماني عبر أوروبا، في جوهره وحقيقته، سوى عملاً دفاعياً لصالح عصر مضى وانقضى، وأية قيمة لأوروبا الشرقية، المزدحمة والفقيرة، قياساً بحوض المحيط الهندي والقارة الأميركية؟ ولقد تطلعت القيادة العثمانية إلى الدولتين الشقيقتين، الصفوية في فارس والعراق والمملوكية في مصر وبلاد الشام، وهي نجحت في ضم دولة المماليك عام 1516، فهل كان النجاح في ضم الدولة الصفوية كافياً لتغيير الاتجاه الجارف وإيقاف الأحداث الانقلابية العالمية؟ هل كان ممكناً القيام بهجوم معاكس عبر حوض المحيط الهندي وتحرير خطوط التجارة الدولية واسترداد زمام المبادرة عالمياً؟ على كل حال هي لم تنجح في ضم الدولة الصفوية ولا في الاتفاق معها، بل إن تلك الدولة تحالفت مع البرتغاليين ثم الإنكليز ضدّ الرابطة العثمانية، ثم إن فصل حوض المحيط الهندي تماماً عن رأسه العربي، وتشديد الحصار ضدّ المراكز العربية والإسلامية، حسم الوضع نهائياً لصالح العواصم الجديدة في القارة الأوروبية، فانتهى بذلك عصر السندباد الجميل وبدأ عصر شايلوك الرهيب، ثم بدأ التحلّل والتفسّخ داخل الرابطة الإسلامية، وبدأ الانكفاء عنها!

الانكفاء الثالث عن القومية!

لقد تسابق الأتراك والعرب وغيرهم من شعوب الرابطة نحو كل ما من شأنه مساعدتهم على إقامة دولهم القومية، حيث عصر القوميات كان قد بلغ أوجه في أوروبا، وحيث طبيعة النظام العثماني، غير المركزي وغير الإمبراطوري وغير الإمبريالي، ساعد بدوره على انقراضها، إضافة إلى التخلف والاستبداد الداخلي والحصار الخارجي المحكم، وقد نهضت الحركات القومية على أنقاض الدولة العثمانية غير أنها سرعان ما وجدت نفسها تحت حصار أشدّ قسوة وفظاعة، بينما هي أصبحت أضعف قوة ومناعة!

يقول القائد الفلسطيني الراحل أحمد الشقيري أنه كان يستمع إلى والده، بعد زوال الدولة العثمانية، وهو يتحدث بحرارة عن رفض السلطان عبد الحميد عروض هرتزل أو استقباله، وأنه كان والجيل القومي الجديد يقف في الطرف الآخر من الحوار، ويرى في حركة الشريف حسين عهداً مباركاً، وأن الحلفاء لابد أن ينجزوا وعودهم للعرب، ثم انطفأ الحوار بموت العرب العثمانيين من جيل والده، وغاص الجيل الصاعد حتى أذقانه في مواجهة الحلفاء "المحررّين" الذين تحوّلوا إلى انتداب أجنبي، لكن الحوار القديم بين الآباء والأبناء استيقظ بعد أربعين عاماً! يقول الشقيري:" وأنا أستعرض مسيرة الصهيونية خلال خمسين عاماً خلت أقرّر أن جيلنا كان على خطأ فادح، وأن الحكم العثماني بكل مخاطره هو أفضل من هذه "الاستقلالات" العربية وهذه الدويلات المنكسرة! وما كنت لأرتضي لنفسي هذا الاعتراف لو أني أرى الوحدة العربية أملاً قريباً، فالصهيونية العالمية قوة ديناميكية هائلة لا يمكن أن يقف أمامها إلا وحدة عربية لها جيش واحد على رأسه دولة اتحادية واحدة"!

ترى ماذا لو أن المرحوم الشقيري عاش ليرى اليوم قبول البعض بهذه "الاستقلالات والدويلات" قبولاً نهائياً، أي الانكفاء عن الرابطة القومية إلى صيغة أدنى تمهّد حكماً للانكفاء عن الرابطة القطرية أو الوطنية؟ هل كان سيقف مع هذا الانكفاء ضدّ "الأجانب" العرب المزعومين أو المتهمين بالانخراط في صفوف المقاومة العراقية؟!

      www.snurl.com/375h  

 

Hosted by www.Geocities.ws

1