الأميركيون يصفون السرطان علاجاً للحمّى التيفيّة !

بقلم: نصر شمالي

يصلح توصيف الطاقة الكهربائية لتوصيف القوى الاجتماعية، وقوة رأس المال والعولمة، وقد شبّه فريدريك أنجلس القوى الاجتماعية الفالتة، غير المنظمة، بالطاقة الكهربائية الطليقة في الأجواء ! إن الشحنات الكهربائية من حيث المبدأ مدمّرة قاتلة، سواء أكانت طليقة أم معبأة ومسيطر عليها، والإنسان يتّقي خطرها طليقة بإجراءات دفاعية ضد الصواعق، ويستفيد منها اعظم الفائدة معبأة ومضبوطة ومصانة بما يكفل عدم انفلاتها، أما التفكير بالقطع البات معها نتيجة خطرها المبدئي فهو الجهل بعينه، وهكذا فإن المسألة، سواء بصدد الطاقة الاجتماعية أم الكهربائية، هي مسألة الوضعية السليمة والتوظيف الإيجابي، الأمر الذي يجعل ما هو خطر مدمّر في أصله البدائي الواحد، آمناً وضرورياً في وضعيته الثنائية الحديثة ! وخلاصة القول هي أن هناك كهرباء وكهرباء، وقوى اجتماعية وقوى اجتماعية، ورأس مال ورأس مال، وعولمة وعولمة..الخ !

إن لكل كائن، حتى الحجر، أصله البدائي الوحشي المدمّر، وثنائيته الإيجابية المتطورة المفيدة والضرورية، غير أن ثنائيته الإيجابية المكتسبة لا تنفي بدائيته الوحشية السلبية الكامنة، وبناء على ذلك فإن رأس المال، الذي هو درجة متطورة من درجات التعامل الإنساني، يتحول الى طاقة مدمّرة قاتلة عندما ينفلت من سيطرة المجتمع ويقع في أيدي القراصنة والمرابين والاحتكاريين !

تحويل البلدان الى حظائر !

لقد حدث أن رأس المال العالمي وقع منذ زمن طويل في قبضة الاحتكارات الربوية (الكوربوريشن) التي وظفته كطاقة بدائية، مدمّرة قاتلة، ضد المجتمعات البشرية عموماً. لقد تحوّل الى قوة هائلة وحشية خارج نطاق سيطرة الأمم وضدّها. وفي مواجهة الأمم التي تحاول استعادة السيطرة على هذه الطاقة الفالتة، وضبطها وتوظيفها إيجابياً، هاهي واشنطن عاصمة الاحتكار والربا العالمي تتصدى لمحاولات الأمم، ساعية لفرض عولمة عبودية عن طريق الحرب الاستباقية وعن طريق ما يسمى إعادة الإعمار بواسطة البنك الدولي، وبالطبع فإن الأمم تميّز بين عولمة القسر والإملاء والاستعباد وعولمة العلاقات الأممية الإيجابية البناءة، التي لم تتوقف المجتمعات البشرية عبر جميع العصور عن السعي لتحقيقها. إن الشركات الربوية منهمكة اليوم في فرض عولمة مكونة من دول تحولت الى حظائر مكتظة بالقطعان ! إنها قطعان بشرية من حيث الشكل فحسب، وإنه عالم موحد من البلدان/ الحظائر المتصلة بازدحام والمنفصلة بحزم في آن واحد !

المزيد من تمركز رأس المال !

غير أن الأمم لم تعد تطيق ما يملى عليها قسراً وما يفرض عليها عنوة، وتشير كثير من الدلائل الى أن العالم عموماً يجتاز اليوم تلك المسافة القاحلة التي تفصل عادة بين عصرين تاريخيين، وأمام مظاهر هذه اللحظة التاريخية الانتقالية تعتقد الشركات الربوية أن بإمكانها استغلال فوضى الانتقال، وقطع الطريق على تقدّم الأمم، بالاتجاه بقوة نحو تحقيق المزيد من مركزة رأس المال، ونحو المزيد من السيطرة المباشرة على البلدان والشعوب، تحت عناوين مكافحة الإرهاب، والقضاء على الاستبداد، والعمل بنظام السوق المفتوحة في نطاق العولمة !

لقد استنفرت الشركات الربوية جميع ما تبقى لديها من طاقة، ونزلت الى الميدان بطواقمها الديناصورية: العسكرية والاستخباراتية، والاستشارية والهندسية، ووكالات المعونة التابعة للأمم المتحدة، والحكومات المحلية البائسة التابعة أصلاً والمعيّنة حديثاً، يتقدمها جميعها البنك الدولي بكل رصانته ومهابته وجبروته !

اليوم، وفي مختلف أنحاء العالم، تبذل الشركات الربوية بقيادة واشنطن جهوداً محمومة على مدار الساعة من أجل تحقيق الهدف المشار إليه: المزيد من مركزة واحتكار رأس المال العالمي، والمزيد من السيطرة المباشرة على البلدان والشعوب، بحجة إشاعة الحرية والديمقراطية وتحقيق العولمة. إنها تحاول بعباراتها البراقة المنمقة تسويق السرطان كعلاج للحمى التيفية !

نجاحات مدهشة ومواجهات مبشّرة !

لا مجال للشك في قوة وفعالية المؤسسات الديناصورية التي أطلقتها الشركات الربوية لإعادة تشكيل كل شيء في هذا العالم خلافاً لمصالحه وبما يخدم مصالحها، غير أن ذلك لا يعني قدرتها على تحقيق النجاح، وإنه لمن المذهل أن يعتبر البعض نجاحها أمراً مفروغاً منه، وأن يرى البعض الآخر في السرطان خلاصاً من الحمى التيفية ! غير أن مثل هذه الرؤية الانتهازية والقاصرة تبدو محدودة ومعزولة اجتماعياً، أي مقتصرة على بعض النخب لحسن الحظ !

إن الفلسطينيين والعراقيين والأفغان يواجهون اليوم ميدانياً عمليات القوات والمؤسسات الديناصورية بالوسائل المجدية والإدراك الكافي لأبعاد خطرها، وهم يحققون نجاحات مدهشة ومبشّرة، ولا تبدو الشعوب الشقيقة الأخرى أقل إدراكاً ووعياً واستعداداً للمواجهة، وكيف لا يكون الحال كذلك وقد انكشفت أهداف احتلال أفغانستان والعراق منذ مراحله الأولى، وحين توهّم المعتدون أن عملياتهم تسير على أحسن ما يرام، ففقدوا حذرهم، وبدأت تشيع أخبارهم، لتنكشف على سبيل المثال تلك الأرباح التي تدفقت بغزارة على خزائن شركة هاليبرتون، التي حصلت منذ البداية لوحدها على عقود هندسية، وعقود توريد مكثّفة، وعقود أمنية، بلغت قيمتها عشرة مليارات دولار ! أما المبالغ التي خصصت لبعض المؤسسات، من أجل بناء الديمقراطية وترشيد الحكومات المحلية غير الرشيدة، فقد بدأت بمليارين من الدولارات !

الديناصورات تتخبط في العراق !

أينما حلّت قوات الحرب الاستباقية، وأينما وقعت الكوارث الطبيعية، تأتي معها أو بعدها بقليل فرق إعادة الإعمار التي يقودها البنك الدولي، غير أن هذا البنك لا يصرف من مخصصات إعادة الإعمار على الشعوب إلا القليل الذي بالكاد يسدّ رمقها، أما الأجزاء الضخمة من المخصصات، التي هي قروض في ذمة الشعب المقهور، فتصرف على مشاريع القطاع الخاص الأجنبي، وعلى المستشارين الأجانب الذين يصرّ البنك على تعاقد الحكومات المحلية معهم، بحيث أصبح ما يحصل عليه فرد واحد من المستشارين في شهر واحد، في تيمور الشرقية مثلاً، يعادل ما يحصل عليه عشرون خريجاً تيمورياً في سنة كاملة ! هذا هو مصير تيمور الشرقية التي انفصلت بنفطها عن وطنها الأم إندونيسيا بتشجيع من الأميركيين !

وفي العراق كانت الحرب لا تزال في بداية اشتعالها-كما تقول نعومي كلاين- حين سارع الأميركيون الى إعادة النظر بقوانين الاستثمار العراقية، وأعلنوا أنهم سوف يخصخصون جميع القطاعات التابعة للدولة العراقية، ولم يكن ذلك سوى المدخل لتحويل العراق الى حظيرة من حظائر العولمة الصهيونية الاستعبادية، غير أن العراقيين أدهشوا العالم وأنعشوا آماله حين تصدّوا للشركات الربوية وقواتها الأميركية بفعالية لم تخطر لها ببال، وهاهو البرنامج السرطاني يتعثر، وهاهي القوات الديناصورية تتخبط، الأمر الذي يبشّر بانكفاء العولمة المتوحشة واندثارها، وبإمكانية الانطلاق على طريق العولمة الإنسانية الأممية المنشودة، التي تحكمها علاقات العدل والسلام والتكافؤ.

www.snurl.com/375h            

Hosted by www.Geocities.ws

1