رأسمالية الكوارث تنتكس في العراق!

بقلم: نصر شمالي

في زمن الاستعمار العسكري المباشر كانت هناك وزارة للمستعمرات في كل حكومة استعمارية أوروبية، وقد انكشف مؤخراً أن الحكومة الأميركية أنشأت مكتباً لتنسيق عملية إعادة الإعمار في البلدان التي تقوّض الحرب الاستباقية بنيتها المادية، وتكفي نظرة سريعة ليتضح أن هذا المكتب الأميركي ليس سوى الصورة الأحدث، إنما الأفظع بما لا يقاس، لوزارة المستعمرات الأوروبية القديمة، فهل سينكفئ العالم إلى وضع يفوق في كارثيته وظلامه عهود الاستعمار الأوروبي القديم؟

مدخل مقتضب لإنعاش الذاكرة!

لقد سيطرت الدول الاستعمارية الأوروبية على بلدان بلغت مساحتها 97.800 مليون كيلو متر مربع، أي ما يعادل 72 % من مساحة كوكب الأرض، يعيش عليها 70% من سكان العالم! وكانت أربع دول فقط، هي إنكلترا والولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا، تستحوذ على 80% من مجمل الأوراق المالية في العالم كله! وكانت بقية الكتلة النقدية الدولية في حوزة بقية الدول الأوروبية، مضافة إليها اليابان فقط من خارجها!

بعد الحرب العالمية الثانية، وعلى مدى عقدي الخمسينات والستينات، اعتقد الكثيرون أن عهد الاستعمار مضى وانقضى، وأن عهداً من التعاون والتكافؤ بدأ في ظل هيئة الأمم، وقد عزّز هذا الاعتقاد نهوض المعسكر الاشتراكي، وبرامج التنمية الوطنية في البلدان المستقلة، وأيضاً سياسة واشنطن المتناقضة مع أسلوب الاحتلال المباشر والاستعمار القديم.

في ما بعد، في أواخر ستينات القرن الماضي، بدأ يتضح بالتدريج الطويل للأسف أن هناك سقفاً لا تسمح واشنطن لأية دولة بتجاوزه، وأنها ممسكة بمفاتيح السوق الدولية بعد أن تسلمت قيادة النظام الرأسمالي العالمي، وأن أسلوبها الجديد في الاستعمار غير المباشر لا يختلف في جوهره عن الأسلوب القديم، وأن العمل بقانون التفاوت في النمو والتطور مازال معمولاً به بحزم أكثر، حيث الانقلاب العسكري، أو الانقلاب الديمقراطي على الطريقة الأميركية، جاهز دائماً لإحباط أية محاولة وطنية مستقلة تتجاوز قانون التفاوت!

لقد كان صعباً على حكومات الدول الحديثة الاستقلال إدراك أبعاد ما يحدث بصورة كافية، وكان صعباً عليها وعلى شعوبها رؤية المعسكر الاشتراكي بصورة واقعية، كقوة حديثة ناهضة غير متكافئة مع قوة العالم الرأسمالي، اللهم إلا في ميدان التكافؤ النووي، علماً أن هذا التكافؤ لم يكن رادعاً إلا مؤقتاً، كما برهنت الأحداث اللاحقة!

ما يتناساه الوثنيون المرتدّون!

لقد لعبت الأوهام، إضافة إلى المزايدات والانحرافات، دوراً خطيراً في تسهيل المهمات الاستعمارية الأميركية الحديثة، فقد كان يفترض أن تكون واضحة حقيقة كون الولايات المتحدة خرجت من الحرب العالمية الثانية لوحدها ببنية مادية ومعنوية أعظم قوة وتطوراً، فخلافاً لما أصاب الجميع، وخلال الحرب وبفضلها، راح الدخل القومي الأميركي يرتفع على التوالي من 64 مليار دولار عام 1938 إلى 96 ملياراً عام 1941، إلى 122 ملياراً عام 1942، إلى 149 ملياراً عام 1943، إلى 160 ملياراً عام 1944، وهكذا الخ!

بالمقابل، خرج الاتحاد السوفييتي من تلك الحرب وقد خسر مايلي: 1.710 ألف مدينة، 70 ألف قرية، 31.850 ألف مصنع، 40 ألف مستشفى، 10.876 ألف مزرعة، 84 ألف مدرسة، خمسة آلاف كيلو متر من الخطوط الحديدية، وغير ذلك كثير جداً مما دمّرته الحرب، إضافة إلى أكثر من عشرين مليون ضحية بشرية بين قتيل وهالك، ناهيكم عن عشرات الملايين من المرضى والجوعى! وتصوّروا بعد ذلك عملية إعادة البناء بالإمكانات الذاتية!

ولكن، مع أن الفضل في إلحاق الهزيمة بألمانيا يعود للاتحاد السوفييتي بالدرجة الأولى، فقد كان مطلوباً منه أن يتنازل عن انتصاره لصالح الأميركيين وحلفائهم، وأن يأخذ وضعية المهزوم لا المنتصر، وهذا ما يفسّره الحصار الطويل ضدّه في جميع الميادين، والذي أدى إلى حالة اختناق داخلي، ثم إلى الانهيار النهائي. وإنه لينبغي هنا أن نشير إلى أولئك السخفاء والمنحرفين، الذين انقلبوا رأساً على عقب بعد زوال الاتحاد السوفييتي، من وثنيين يقدّسونه تقديساً أعمى إلى أعداء لتجربته الإنسانية العظمى بمجملها!

تدمير البلدان لإعادة إعمارها!

نتيجة التطورات العالمية التاريخية المعقدة تطورت السياسة الأميركية الاستعمارية بدورها، وهاهي واشنطن تعتمد ما صار يعرف اليوم بالحرب الاستباقية وإعادة الإعمار، والتي هي ليست سوى الأسلوب الجديد لتطبيق قانون التفاوت الاستعماري.

في آب/ أغسطس 2004 أنشأ البيت الأبيض مكتب التنسيق لعمليات إعادة الإعمار، والمهمات الموكولة لهذا المكتب هي وضع الخطط المتكاملة لمرحلة ما بعد الحرب الاستباقية قبل نشوب مثل هذه الحرب! يقول نعوم كلاين في مقالته (صعود رأسمالية الكوارث) أن رئيس مكتب تنسيق عمليات إعادة الإعمار الأميركي (كارلوس باسكوال) صرّح أن خمسة وعشرين بلداً هي الآن على لائحة الحرب الاستباقية، أي أنها لم تتعرض للحرب بعد، علماً أن الحرب يمكن أن تكون أهلية مفتعلة وموجهة، وأن هذه الدول على جدول أعمال المكتب الذي يعدّ خطط إعادة إعمارها قبل تدميرها، بينما هي غافلة في أمان، وياللعجب!

هل هذا معقول؟ يقول باسكوال أن مكتبه جاهز للتنسيق بنجاح بين ثلاث عمليات إعادة إعمار كاملة في وقت واحد وفي ثلاث دول مختلفة! ويضيف أن كل عملية سوف تتراوح مدتها ما بين خمس وسبع سنوات! أي أن المكتب الأميركي، الذي يتبع البيت الأبيض مباشرة، يشبه المستشفى، بينما الدول المستهدفة تشبه المرضى، فهي في قائمة الانتظار على الدور قبل موعد العملية الجراحية!

وهكذا فإن الأسلوب الاستعماري الأميركي المعمول به اليوم يتلخص في الإعداد المسبق لشن حرب استباقية ضدّ بلد من البلدان، لأنه يشكل خطراً على الديمقراطية أو إعاقة لاقتصاد السوق، وفي الوقت نفسه الإعداد مسبقاً أيضاً لعملية إعادة إعماره، أما الذين ينفذون العمليتين المتكاملتين فهم المقاولون الأميركيون، والشركات المندمجة، والمختلطة، من القطاع الخاص الأميركي الذي صار يقود الدولة ويوجهها بعد أن كانت تقوده وتوجهه!

سياسة كارثية تصطدم بالعراق!

يقول باسكوال أن العملية المتكاملة، عملية تدمير بلد من البلدان ثم إعادة إعماره على مدى سنوات طويلة، جاهزة بشقيها مسبقاً، فما أن تجهز الجيوش الأميركية، أو الحرب الأهلية، على بلد من البلدان حتى ينخرط مكتبه على الفور في الإنقاذ تحت عنوان:" خلق دولة ديمقراطية موجهة نحو السوق"! حيث سرعان ما تنطلق عمليات بيع المشاريع المملوكة من قبل الدولة الوطنية، المتهمة بأنها تعتمد اقتصاداً غير قابل للحياة، وسرعان ما تعطى للمقاولين الأميركيين مشاريع إعادة بناء وسائل الحياة الأساسية في البلد، الإنتاجية والخدمية والصحية والتعليمية وغيرها، علماً أن القطاعات التي دمّرت تماماً، بعد الاستيلاء على محتوياتها وبيع أنقاضها، كانت منتجة وصالحة للخدمة، وإذا كانت ثمة مشكلة حقاً فهي إدارية أو سياسية لا أكثر ولاأقل!

والآن لنتابع تطبيق هذه السياسة الكارثية في البلقان، وتيمور الأندنوسية، وأفغانستان، وهاييتي! بل لنتابعها في شرق آسيا بعد إعصار تسونامي، الذي اعتبر هبة من السماء أثلجت قلوب العاملين في المكتب الأميركي لإعادة الإعمار! إن تلك البلدان تدمّر وتنهب مرتين، أثناء الحرب أو الإعصار أو الحرب الأهلية، ثم أثناء عملية إعادة الإعمار، حيث القضم والهضم البطيئين لسنوات وسنوات!

غير أن ما حدث في العراق جاء مخالفاً لجميع التوقعات الأميركية المتفائلة، فهذا البلد العربي الذي اعتبروا عملية الاستيلاء عليه مجرّد نزهة ممتعة تحت وابل من الورود، فاجأهم بمقاومة هائلة عصفت بخططهم وترتيباتهم، ووضعت أهدافهم في مهب الرياح، وعرّضت استراتيجيتهم الاستعمارية العالمية بمجملها لخطر الانهيار!

لقد اصطدمت أكاذيبهم وذرائعهم وجيوشهم أيضاً بأسوار بغداد الصلدة الخالدة، وبدأت تتهاوى تباعاً، فاضحة بسرعة حقيقة حروبهم الإرهابية وبرامجهم الشيطانية، كاشفة تماماً حقيقة عملية إعادة الإعمار باعتبارها عملية إعادة الاستعمار.

إن العراق العظيم يبشّر بجبهة عربية أممية مقتدرة، تختصر في ثناياها جميع عذابات وتجارب الشعوب، وتتوّج كفاح العرب المتواصل على مدى القرن الماضي بنتائج إنسانية طيبة تليق بالأمة العربية العريقة، وتفتح الطريق واسعة أمام إعادة ترتيب العلاقات الدولية على أساس العدل والتكافؤ والسلام.

www.snurl.com/375h

 

 

Hosted by www.Geocities.ws

1