أوراق نبيه رشيدات:

الأردني الدمشقي، والطبيب المناضل

بقلم: نصر شمالي

يستطيع أي إنسان يتحلّى بقدر كاف من العقلانية والمعرفة، ومن الإنصاف والاستقامة، اتخاذ موقف في الحياة العامة يتعارض مع بيئته الخاصة المريحة، لكن الصعب أشدّ الصعوبة هو المحافظة على مثل هذا الموقف، وتطويره والمضّي به قدماً، منذ اليفاعة وحتى نهايات العمر، والدكتور نبيه رشيدات واحد من الذين تغلبوا على هذا الصعب ومضوا في خيارهم العام حتى نهايات العمر، فهو اليوم- أطال الله عمره ورعى صحته – واحد من شيوخ الحركة الشيوعية، ليس العربية فقط بل الأممية أيضاً. إنه من أولئك الذين لم يغادروا الميدان بتدرجاته الزمانية والمكانية، وبانقلاباته الفكرية والسياسية، ولم يتحوّلوا عن السّمت التاريخي الذي اختاروه والتزموه، فاستحقوا عن جدارة صفة المرجعية العامة، الموثوقة والمحترمة، التي تحتاجها الأجيال في هذه الظلمات !

العقلانية والمعرفة والإرادة الحرة

إن أول ما يستوقف في سيرة الدكتور رشيدات ( مواليد الأردن عام 1922 ) أن اختياره لطريقه في الحياة العامة قام على معايير العقل والمعرفة وليس معايير البيئة الخاصة، والحياة المعاشة، التي كانت مريحة سليمة مادياً وأخلاقياً وسياسياً. إن أوراقه التي دوّنها في كتاب ووصفها بأنها ليست شخصية، وهي كذلك حقاً، لا تشير الى دوافع اجتماعية ميدانية جعلته وهو في حوالي العشرين من عمره ينخرط في صفوف الحزب الشيوعي، بل إن الظروف الأسرية والاجتماعية والسياسية التي عرضها في كتابه تدفع بداهة الى توقّع خيارات أخرى، وطنية قومية، كان يفترض أن يأخذ بها، ولو أنه أخذ بأحدها لكان ذلك صحيحاً لا خطأ فيه ولا ينقص من قيمة موقفه، لكن اختياره الانخراط في صفوف الحزب الشيوعي، الذي كان صحيحاً بدوره، زاد حقاً في أهمية وقيمة موقفه قياساً بوضعه الاجتماعي. لقد كان موقفاً يدعو للإعجاب والاحترام سواء اتفقت معه أم لم تتفق، حيث استند الى أسباب بدت عقلانية محضة، والى محاكمات ومقارنات بدت حرة منطقية، ولا أثر في كل ذلك للمصالح الأنانية الضيقة التي إن وجدت فإنها يمكن أن تتفق مع خيار سياسي آخر!

منذ فتح عينيه على الحياة لم يكن الدكتور رشيدات معزولاً ولا منعزلاً عن الحياة العامة الميدانية، بل منخرطاً في تفاصيلها اليومية، ففي الثامنة من عمره نزل الى الشارع في الأردن داعياً الناس لانتخاب حسين الطراونة: " لأنه وطني، وضد المعاهدة مع بريطانيا، وعدو الإنكليز " ! وقد نذر وأخته الصيام في حال نجاح الطراونة، ووفّى الطفلان بنذرهما فعلاً ! أي أنه لم يكن متناقضاً مع أسرته الوطنية القومية، الميسورة الحال، بل مندمجاً فيها بمحبة ومنخرطاً في نشاطاتها بحماسة.

ولمزيد من الإيضاح حول المعاني الطيبة والمدلولات الإيجابية لاختيار الدكتور رشيدات الحزب الشيوعي، ننقل عنه أنه عاش في مدرسة مدينة الكرك حياةً وطنيةً قوميةً معاديةً للاستعمار والصهيونية، وأنه وأقرانه كانوا يرددون الأناشيد العربية كل صباح، ويحتفلون كل عام بيوم الثورة العربية الكبرى، وأن الأساتذة الذين جاؤوا من فلسطين ولبنان وسورية كانوا يحدثونهم عن خيانة الحلفاء للثورة، وعن ثورة عبد الكريم الخطابي في المغرب، بل وعن تاريخ الأندلس، ويحضّونهم على حفظ القصائد والمقطوعات الأدبية التي تمجّد العرب وتدعوهم للنهوض. إن الدكتور رشيدات يتذكر كل ذلك بحنين واعتزاز واضح. وفي البيت- كما يقول – كان يستمع الى والده عبد الرحمن رشيدات، الشخصية الوطنية القومية المرموقة، وهو يحدّث ضيوفه عن تاريخ العرب وتاريخ الحروب الصليبية، وعن مخاطر المعاهدة الإنكليزية على الأردن..الخ، وإن ذلك كله يبدو مدعاة لرضاه وفخره، فلماذا لم يواصل على خطا والده؟

الأهرامات أسست لخياره السياسي!

يروي لنا الدكتور رشيدات في أوراقه، ببساطة ساحرة، عن ذلك الحدث الذي كان نقطة التحول في تفكيره حين كان في الرابعة عشر من عمره، فيقول أن أستاذ التاريخ حسني فريز حدثهم عن الأهرامات فأوضح أن هناك رأيين في تفسير هذه الظاهرة التاريخية، أحدهما يقول بأنها عمل هندسي عظيم خالد يدل على عظمة الدولة التي بنته، ويكتفي بذلك ! والثاني يقول أن الأهرامات رغم عظمتها الهندسية هي عمل حقير اجتماعياً، لأن ملكاً واحداً أجبر عشرات الألوف من الناس على العمل خلال أكثر من عشرين عاماً، وبأعمال شاقّة، لبناء قبر له يخلّده، وهكذا فإن الأهرامات في التاريخ الاجتماعي تعتبر رمزاً للعبودية!

يقول الدكتور رشيدات أن حديث الأستاذ فريز عن الأهرامات أحدث أول نقلة نوعية في تفكيره، فانفتل رأسه مئة وثمانين درجة-حسب تعبيره- وصار يمتلك رأياً جديداً في تفسير التاريخ ! وهكذا فإن الصدمة الاجتماعية الأولى، المبكرة، جاءته من الأهرامات ومن التاريخ الاجتماعي الموغل في القدم، وليس من محيطه الاجتماعي بالدرجة الأولى ولا من محيطه الأسري الذي لم يعترض عليه في أوراقه بل تحدث عنه بإعجاب وولاء ومودة، ويفترض أن تلك الصدمة التي أحدثها أستاذ التاريخ في فكر تلميذه كانت مهمة في التأسيس لتحولاته العقلانية المعرفية، ومحاكماته ومقارناته المنطقية، التي ساعدته في ما بعد، في مطلع شبابه، على اجتياز المسافة بسرعة نحو الحزب الشيوعي، من دون إغفال أحاديثه مع عدد من المناضلين الذين ساعدوه في اجتياز تلك المسافة.

بيئة عشائرية، وابن شيوعي!

تنتمي أسرة الدكتور نبيه رشيدات الى واحدة من تلك القبائل التي قدمت من الجزيرة العربية قبل حوالي مئتي عام، واستوطنت في فلسطين والأردن وسورية، محتفظة بالكثير من تقاليدها وعلاقاتها القبلية، وهذه معلومة تزيدنا إعجاباً بخياره السياسي واحتراماً لشخصه، لكن علاقات أخرى ساعدت على تكوين شخصيته الاجتماعية الحديثة، فوالدته لبنانية من أسرة حشيشو الصيداوية المعروفة، وخالاته تزوجن من أبناء أسر لبنانية وأردنية، وخال والدته هو السوري الحلبي الشيخ الشافع أبو ريشة والد الشاعر عمر أبو ريشة، أما عن والده عبد الرحمن رشيدات فقد أنهى دراسته الابتدائية في إربد، وأكمل الثانوية في دمشق في مكتب عنبر الشهير، دفعة المجاهد فخري البارودي، ثم أتمّ دراسة الحقوق في الأستانة، وبعدها أصبح من كبار الموظفين الذين يتنقلون ما بين حمص وإربد قبل انهيار الدولة العثمانية، ثم كان عضواً في المؤتمر السوري الذي أعلن الاستقلال عام 1920 وتوّج الملك فيصل.

لقد كانت أسرة الدكتور رشيدات متقدمة في سويتها الاجتماعية والسياسية، ومنشغلة ميدانياً بتلك الأحداث المصيرية العظمى: وعد بلفور، خيانة الإنكليز للعرب، اتفاقية سايكس/بيكو التدميرية، احتلال الفرنسيين لسورية ولبنان والإنكليز لفلسطين والعراق، ثم ظهور أمارة شرق الأردن وربطها مع الإنكليز بالمعاهدات ! وهكذا فإن شخصاً منصهراً في أسرة كهذه، بمحبة وحماسة، كان متوقعاً أن يسلك بداهة طريق والده، لكنه اختار طريق الحزب الشيوعي، وبما أنه أخلص لخياره مواصلاً طريقه حتى اليوم بكل تفان واستقامة ( وما أكثر الذين تراجعوا ويتراجعون ! ) فقد برهن بذلك عن سوية عالية من احترام العقل وإنكار الذات، خاصة عندما نطّلع على الإغراءات الكبيرة التي عرضت عليه من أعلى المستويات وهو لا يزال شاباً في حوالي العشرين!

مواجهة الترغيب والترهيب الملكي!

كان الأمير عبد الله بن الحسين (الأول) قد قدم الى الأردن لنجدة أخيه الملك فيصل في دمشق، لكنه وصل بعد فوات الأوان، بعد رحيل فيصل وموقعة ميسلون واحتلال سورية. وقد تدفّق رجال الحكم الوطني من سورية الى الأردن، حيث النفوذ البريطاني وليس الفرنسي، وحيث توقعوا هامشاً يسمح بمواصلة النضال ضد الاحتلال الفرنسي، لكن خطط الأمير عبد الله تطوّرت الى إقامة دولة/إمارة في شرق الأردن، وقد كتب لهذه الإمارة أن تتطور الى مملكة محددة قائمة بذاتها، بينما تقهقر ميدانياً وعملياً مشروع الثورة العربية الكبرى في إقامة دولة تضم الحجاز وبلاد الشام والعراق ! وهاهم قادة الثورة الكبرى يتقهقرون بدورهم الى حكّام في دويلات ضعيفة وتابعة، وهاهو عبد الرحمن رشيدات عاشق دمشق، الذي سمّى ابنه باسم رفيق نضاله الدمشقي نبيه العظمة، يتقهقر مثل أقرانه، فترة بعد فترة، ليصبح " أردنياً " واقعياً في المقام الأول، فيتولى مهمة وزير المواصلات عام 1952 ، ثم مهمة عضو في مجلس الوصاية على العرش بعد تنحية الملك طلال ! لقد طغت الأحداث العظمى والوقائع القاسية التي فرضها النظام العالمي، ولا ريب في أن الذين تقهقروا لم يبدلوا قناعاتهم، وقد ظل عبد الرحمن رشيدات يتحدث بشغف شديد عن دمشق عاصمة بلاد الشام، ويحلم بقضاء ما تبقى له من حياة في ربوعها، وهذا ما سيفعله ابنه نبيه، الذي اختار طريقاً أخرى واضحة، لا مجال فيها للمجاملات والتنازلات، وهاهو الملك عبد الله الأول يستدعي الشاب الصغير ويستقبله وهو يعرف أنه شيوعي، فيعاتبه ويدعوه للعمل في نطاق الأسرة الأردنية، وأمام عناده يهدده بتحطيم عموده الفقري إن لم يتراجع عن " شيوعيته " وعن مواقفه المناهضة للإنكليز وللنظام الأردني ! وقد جرى هذا اللقاء بحضور والده، الذي ربما تشكّى منه وخاصمه لبعض الوقت، لكنه لم يعاديه ولم يخذله أبداً، وكذلك أفراد الأسرة والعشيرة الذين كانوا يهبون لنجدته في الظروف الصعبة، فكان حزبه يستفيد بالطبع من مثل تلك الهبات والنجدات!

وماذا عن الملك طلال؟

تتضمن أوراق الدكتور رشيدات معلومات هامة تدل على أن مشكلة الملك عبد الله الأول لم تكن مقتصرة على ابن عبد الرحمن رشيدات بل كانت مع ابنه الأمير طلال أيضاً، الذي كان حاقداً على الاستعمار البريطاني وعلى الصهيونية حقداً عميقاً ! يقول الدكتور رشيدات أنه ذهب الى الأمير طلال بمعرفة رفاقه أثناء ثورة رشيد علي الكيلاني في العراق عام 1941، ودعاه للالتحاق بالثورة العراقية: " إذا ذهبت يا سموّ الأمير فسوف ينضم الى الثورة عدد كبير من الشباب العرب،  وسوف نحرر العراق، ثم نذهب الى سورية ونحررها من الاستعمار الفرنسي،ثم نأتي الى الأردن ونطرد الاستعمار البريطاني، ونقيم أول دولة عربية متحررة " ! يقول رشيدات، الذي كان في التاسعة عشر، أن الأمير طلال نظر إليه وقد تأثر بحماسه، وبعد أن فكر قليلاً قال: " خلّينا نفكر يا نبيه " ! وقد التقيا مرة أخرى بعد سنوات في جنيف، وكان طلال قد أصبح ملكاً، فسأله: " بعدك شيوعي يا نبيه ؟ " ! وقبل أن يجيبه تطوّع أحد المسؤولين الأردنيين المرافقين بالإجابة: " لا يا سيدي، لقد ترك كل شيء، وهو الآن يختص بالأمراض الصدرية " ! فقال الملك طلال: " لا، هذا أعرفه، هذا لا يترك، هو ليس مثلكم يا منافقون " ! والتفت الى الدكتور نبيه قائلاً وهو يشير باستخفاف الى مرافقيه: " أنظر، هؤلاء هم أركان دولتك " !

كان الملك طلال يستقبل الشبان الوطنيين ويدعم الثورة الفلسطينية بإيصال الأسلحة الى رجالها، وأضيف هنا الى شهادة الدكتور رشيدات ما رواه لي الفريق عفيف البزري وهو أن الأمير طلال زار موقعه الحربي على مشارف القدس أثناء حرب عام 1948 برفقة المجاهد الكبير فوزي القاوقجي، وطلب منه قصف المستعمرات الصهيونية بمدافعه التي اشتهرت بفعاليتها على قلّتها وعتقها، ومع أنه كان هناك اتفاق لوقف إطلاق النار في تلك اللحظة فقد أذن القاوقجي للبزري بالاستجابة لطلب الأمير، وحقق القصف إصابات دقيقة مؤثرة، وإذا بالأمير طلال يقفز فرحاً وهو يلقي بكوفيته الى الأعلى ويتلقاها ويطلق صيحات الابتهاج !

وعندما أصبح طلال ملكاً جاءه الإنكليزي غلوب باشا قائد الجيش العربي الأردني يستأذنه في استعراض القوات بمناسبة عيد الجيش. سأله الملك طلال: " أي جيش ؟ " قال غلوب: " جيشكم يا سيدي ! " قال الملك : " لا والله، هذا جيشك، اذهب أنت واستعرضه " ! ولم يجر احتفال بيوم الجيش كما يقول رشيدات ! ويضيف أن أهم منجز في العهد القصير للملك طلال كان إصدار الدستور الجديد الذي تضمن أن المملكة دولة عربية مستقلة والشعب الأردني جزء من الأمة العربية، ونصّ على أن الدولة تكفل العمل والتعليم، وأن التعليم الابتدائي إلزامي ومجاني، كما نصّ على حقوق العمال ومنظماتهم النقابية ! وهكذا نفهم أسباب خلع الملك طلال وتغييبه في الظلام الدامس دون أن ينصفه أو يذكره أحد !

الأردني الدمشقي والطبيب الإنسان

اختار الدكتور رشيدات مهنة الطب لسبب رئيسي هو حرصه على حريته، فكان ذلك الاختيار عقلانياً ومنطقياً بدوره، مع أن مزاجه كان أميل الى دراسة الحقوق، وقد وصل الى دمشق لدراسة الطب عام 1941، وسرعان ما انهمك في حياتها الثقافية والسياسية، وما كاد يلبي دعوة لحضور اجتماع طلابي حتى أصبح، بعد قليل، عضواً في الحزب الشيوعي، فانطلق على الفور بنشاط يبيع جريدة الحزب ويوزع بياناته ويجمع له التبرعات ويلقي الخطابات باسمه في الأحياء الشعبية. ولم تمض سوى سنتان حتى انتخب عضواً في المؤتمر الثاني للحزب الذي انعقد في بيروت، في آخر يوم من عام 1943 !

 لقد كانت سورية حينئذ ترزح تحت وطأة الاحتلال الفرنسي، لكن دمشق، قبيل الاستقلال وبعده، كانت تعجّ بالحياة السياسية والأدبية والفنية، وكانت حاضنة دافئة لكل عربي يقصدها، وهاهو الدكتور رشيدات ينهي الصف الخامس، ويتوجه الى وزارة الصحة السورية مع أردني آخر لتعيين المستشفيات التي سوف يتدربان فيها خلال السنة السادسة. لقد دخل الوزارة في جمع من الطلبة السوريين وإذا بالأمين العام للوزارة يستقبله وزميله وحدهما، ويحدد لهما المستشفيات حسب رغبتهما، ثم يدخل السوريين بعد ذلك ! كان الأمين العام هو الدكتور رشدي الطرزي، الذي لم يفعل سوى ما اتسمت به سورية من تقديم العربي على أبنائها !

منذ ذلك التاريخ اندمج الدكتور رشيدات في الحياة العامة السورية، وأينما توجه كان الأكثر شعبية بين الأطباء، فعيادته الحكومية أو الخاصة كانت دائماً وما زالت ملاذاً للفقراء. وقد سافر مشرّقاً ومغرّباً على مدى أكثر من نصف قرن، مشتركاً في بعثات تخصصية ومؤتمرات دولية كثيرة، مقيماً لسنوات في الصين الشعبية والاتحاد السوفييتي بسبب الملاحقات السياسية، فعرف عن كثب أوضاع العالم وتعرف على العديد من قادته، وبالطبع كان ومازال يزور الأردن زيارات قصيرة وطويلة، لكن دمشق ظلت موئله ومرساه، وبالمقابل فإن الكثيرين من السوريين لا يتصورون علاقاتهم في دمشق وليس فيها الدكتور رشيدات.

نماذج من ملاحظاته العامة

يقول الدكتور رشيدات عن مشاعره في الحرب العالمية الثانية: " كنت إزاء الحرب أحمل عاطفتين متناقضتين، فعندما ينتصر الجيش السوفييتي على الألمان أشعر بالسرور، ولكن عندما كان الألمان يوقعون الخسائر بقوى الحلفاء كنت أيضاً أشعر بالسرور " !

وفي ذلك المؤتمر الذي انعقد في بيروت عام 1943 قال الرفيق خالد بكداش: " إن الأحزاب الشيوعية بلغت درجة من النضج لم تبق فيها بحاجة الى مشاورة مركز دولي " ! ويعلّق الدكتور رشيدات في أوراقه قائلاً : " ومع ذلك، وبعد ثلاثين عاماً، طلبنا مشورة الرفاق السوفييت حول مسألة داخلية صرف هي الوحدة العربية، التي يجب أن يكون رأينا فيها هو المرجع لدى الأحزاب الشيوعية خارج البلدان العربية " !

ويروي أنه تعرف على طبيبة يوغسلافية، شيوعية قديمة اشتركت في حرب التحرير، وناقشها حول الخلاف بين الاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا، فيقول: " كان نقاشي يتّسم بالدغمائية الشديدة التي تعكس وضع الشيوعيين في ذلك الزمن، فقد كانت تحدثني عن نضال الرئيس تيتو ضد المحتلين الألمان، وأنه بطل قومي لعب دوراً هاماً في بناء الحزب الشيوعي، وأن ستالين كان متعنتاً يرفض حل الخلاف، لكنني كنت أرد عليها أن تيتو أصبح عميلاً للاستعمار البريطاني، فكانت تجيبني بألم شديد: هذا مستحيل يا رفيق ! " .

وعن المواقف المتطرفة يقول: " عندما زرنا متحف الثورة في لينينغراد رأينا صورة فيها قادة ثورة أكتوبر، ووجدنا صورة تروتسكي محذوفة، فقالت امرأة بيضاء من جنوب أفريقيا: هذا لا يجوز، أين صورة تروتسكي،  لقد كان أحد قادة الثورة فلماذا تحذفون صورته ؟ أجابت الموظفة: حذفنا صورته لأنه كان خائناً ! ردّت المرأة: هذا لا يجوز، يجب إبقاء صورته، وتحدثوا عنه كما تريدون ! يقول الدكتور رشيدات أن كلام المرأة الجنوب أفريقية البيضاء أثار أعصابه فقال لها: إنك تدافعين عن تروتسكي لأنه يهودي ! ثم يضيف: عندما زرنا ضريح لينين قالت المرأة نفسها مشيرة الى جثمان لينين المحنط: هذا مخالف للماركسية ! فأثارني كلامها مرة أخرى وقلت لها: كلامك غير صحيح وأنت تحرّفين الماركسية! يقول الدكتور رشيدات في أوراقه: الآن، بعد مرور تلك السنوات الطوال، وجدت أن ما قالته تلك السيدة فيه جزء كبير من الصحة. إنني أعتقد أن تحنيط لينين مخالف للماركسية، وأعتقد أنه لو استشير قبل وفاته لما وافق على التحنيط، لأنه لا يجوز لنظام اشتراكي في القرن العشرين أن يعود الى أساليب الفراعنة قبل خمسة آلاف عام في تحنيط ملوكهم !

وهكذا نكون – بالمصادفة – قد أنهينا عرض بعض من سيرة الدكتور رشيدات بحديثه عن الفراعنة، مثلما بدأت السيرة بحديثه عن الأهرامات ! وإنه ليسعدني أنني تحدثت في هذه العجالة عن هذا الصديق العزيز الكبير، الذي يستحق الإعجاب والاحترام والتكريم. إنه ليفترض أن دمشق تعامل الدكتور رشيدات في شيخوخته مثلما تعامل أطباءها السوريين في شيخوختهم من حيث الحقوق المهنية، ومثلما تعامل كبار شخصياتها الوطنية القومية بما يستحقونه من إجلال وإكبار. أليس هو الأردني الدمشقي الذي لم يأبه طوال حياته لاتفاقية سايكس/بيكو، وظل يتعامل مع عاصمة الأمويين كأنما تلك الاتفاقية اللعينة لا وجود لها على أرض الواقع ؟  و بالطبع، ينبغي أن لا يفوتني ذكر رفيقة عمره التي قاسمته حياته حلوها ومرها، السيدة العظيمة وداد خلف ( أم عمر ) فكل ما قيل عنه يمكن أن يقال مثله عنها، فلها أيضاً كل الإعجاب والاحترام، وكل الحق في التكريم.                                                   

Hosted by www.Geocities.ws

1