بالفعل، ليس هناك أسوأ من يساري سيئ!

بقلم: نصر شمالي

قد يصحّ القول أن التيارات السياسية التاريخية، المناضلة من أجل الاستقلال والحرية ومن أجل بناء عالم نظيف من الاحتكار والتمييز، تشبه في تركيبتها الأجسام البشرية بصورة من الصور، حيث في تكوين كل تيار ما يقابل أعضاء وحواس جسم الإنسان الفرد: العقل والقلب، والسمع والبصر، والأيدي والأرجل، وكذلك الأظافر والأسنان..الخ! بل إنه ليبدو أيضاً أن في تركيبة كل تيار إفرازات ومطرودات ونفايات كما الحال في الجسم البشري وإن بأشكال أخرى، أي أن بنية التيار الاجتماعي السياسي تحتوي على أشخاص يحدث أن يتحولوا إلى إفرازات ملفوظة أو مطرودة عبر تفاعلات تشبه في نتائجها ما ينجم عن تفاعلات الجسم البشري! وبعد أن يلفظ التيار المناضل إفرازاته أو يطردها، أو تغادره تلقائياً، فإن من غير الممكن تجاهل مصدر الأشخاص / النفايات أو إنكاره، أو عدم اعتبارهم محسوبين عليه! إن الإشارة إلى أصولهم سوف تستمر، كإسلاميين أو قوميين أو يساريين أو شيوعيين!

إن تشبيه بعض المرتدّين بالإفرازات الخبيثة ليس مبالغة، بل لعلهم أخطر من ذلك، غير أن أخبثهم وأخطرهم قاطبة هم أولئك الذين يعودون بأصولهم إلى تيار اليسار القومي أو الشيوعي، والسبب أن هذا التيار، حسب معايير العصر، هو الأعمق فكراً والأغزر علماً والأوسع تجربة وأفقاً والأشمل نضالاً، ولأنه كذلك فلابد أن تكون نفاياته هي الأسوأ والأخبث!

لقد قرأت قبل سنوات مقالة لكاتب يساري مصري تضمنت استنتاجه الذي يقول:" ليس هناك أسوأ من يساري سيئ"! وهذا الاستنتاج يتردّد اليوم في ذهني كثيراً وأنا أسمع ما أسمع وأقرأ ما أقرأ مما يقوله بعض اليساريين ويكتبونه!

مكر ساذج، ومناورات مكشوفة!

نضطر لقول ذلك، بأسف وحزن، ونحن نتابع هذه الأيام ما يصدر عن بعض إفرازات التيار اليساري القومي والشيوعي من أقوال وأفعال معادية لأصولهم، ليس أصولهم الحزبية التنظيمية، بل الفكرية الاجتماعية الإنسانية، فالإنسان الطبيعي المستقيم (المحترم) قد يخرج من تنظيمه الحزبي، لكنه لا يخرج أبداً على تياره وانتمائه التاريخي، الفكري والاجتماعي والإنساني، مرتداً إلى نقيضه! إنه لا يدير ظهره لموسكو الاشتراكية أو للقاهرة القومية، التي كان موالياً لها بالأمس، متجهاً بكل بساطة إلى نقيضها واشنطن، حتى وإن تغيّرت سلباً عقيدة هذه العاصمة أو تلك وتغيّر موقفه منها في وضعها الجديد!

قد تكون بعض الانفعالات التي نطالعها هنا وهناك مفهومة ومعذورة وإن كانت غير مقبولة، وقد تكون بعض الترّهات الحمقاء تصدر عن هذا أو ذاك محمولة، غير أن ما يستحق التوقف والردّ هو تلك المحاولات الماكرة لاستخدام أدوات التحليل ضدّ منتجيها لتضليل جماهيرها، مثل تلك المقالة لليساري السوري التي أشرنا إليها سابقاً والتي نشرت في صحيفة "الحياة" بتاريخ 17 نيسان الماضي، حيث راح الكاتب يسوّق اليمين والرأسمالية بأدوات تحليلية يسارية اشتراكية، ويسوّق الاستعمار و"المسألة الأميركية" كما أسماها بأدوات تحرّرية وسوفييتية، فأي مكر ساذج وأية مناورات مكشوفة، فكأنما هو يحاول توظيف صورة فرج الله الحلو لتجميل وتسويق صورة بول وولفويتز!

ولكن وولفويتز، الذي يقال أنه من أصول يسارية تروتسكية، لم يستخدم أدوات يسارية في خطابه منذ ارتدّ وانخرط في صفوف اليمين الأميركي، فلماذا يفعل اليساري العربي ذلك؟ هل هي عملية انتقال تكتيكية متدرّجة؟ هل هو إمعان مقصود في إلحاق الأذى بالفكر اليساري وأدواته قبل الإنتقال العلني الحاسم إلى صفوف اليمين؟ وإلا فلماذا لا يمضي قدماً إلى موقعه الجديد المختار في نطاق ما أسماه المسألة الأميركية التي دعانا للتعامل معها بمرونة واستيعاب؟!

ما معنى الدعوة للمرونة والاستيعاب؟

بالطبع، لا علاقة لنهج المرونة والاستيعاب بنهج الكفاح والمقاومة، مع قناعتنا بداهة أن لكل ضرورته في حال معينة، فالنهج الأول المقترح يستدعي بالتأكيد التنازل عن فلسطين كل فلسطين، وعن النفط كل النفط بعد التسليم بتحويل العراق إلى قاعدة أميركية، ويعني التخلي عن هويتنا وثقافتنا ونسيان قضية الوحدة أو الاتحاد على أي مستوى مهما كان بسيطاً وشكلياً، والقبول بالانحدار أكثر، إلى تجزئة الأجزاء وإقامة الكانتونات الطائفية والعرقية على أوسع نطاق، ليطمئن المستوطنون الصهاينة على مصيرهم تماماً ويضمنون سيادتهم الإقليمية بالكامل! أما النهج الثاني القديم فهو نقيض الأول، وقد اعتبره اليساري السوري منتهياً، أي ميتاً، حيث كتب:" لا نجد بتصرفنا أدوات فكرية وسياسية للتعامل بمرونة واستيعاب مع المسألة الأميركية، ولم تعد العقائد القومية العربية والشيوعية والإسلامية مؤهلة لرسم سياسات فعالة في مواجهة تحوّل السياسة الأميركية في منطقتنا"! لقد كان يريد وصف التحوّل الأميركي بالإيجابي، لكن استخدامه الأسلوب اليساري في الكتابة استدعى أن يكون متروّياً حذراً! وبما أنه يرى أن عقائد التيارات العربية التاريخية، التي لا تملك الأمة غيرها، لم تعد مؤهلة لرسم السياسات الفعالة، المرنة والمستوعبة للمسألة الأميركية، فلا بدّ وأن في ذهنه عقيدة جديدة بديلة تحلّ محلها، فما هي هذه العقيدة، غير الإسلامية، وغير القومية، وغير الشيوعية؟ لم يكشف اليساري العربي عما يضمره ويبيّته بصدد العقيدة المرنة المستوعبة، بل استعان بخبرته التكتيكية التي اكتسبها في صفوف اليسار، ليتركنا نعاني عملية اكتشافها لوحدنا، حسب أحدث أساليب التربية والتعليم!

ذروة الجبروت بداية الانحدار!

لقد حرص اليساري السوري أن يبدو علمياً مادياً في تحليله، وقوراً هادئاً في نبرته، بينما هو يعرض علينا ضرورة استيعاب المستجدات وتقدير مدى التغيير (الإيجابي؟) في السياسة الأميركية، وأيضاً ضرورة تطوير استعداداتنا الفكرية والنفسية للتعامل مع هذا الجديد، لكنه لفت نظرنا (بإخلاص وتجرّد!) إلى أن التخلص من أسر العقائديات المغلقة المعادية للأميركيين لا يكفي، وحذّرنا من الوقوع في أحضان عقائدية جديدة محابية ومقرّظة لكل ما هو أميركي –حسب تعابيره- فيا لها من مناورات خطرة، على الرغم من بؤسها، وهو يحاول إظهار علميته وموضوعيته وحسن نيته بتحذيرنا من الموالين بالمطلق للسياسة الأميركية، ويعطينا درساً في خطورة المطلق حباً أو كرهاً، آخذاً جهلنا بعين الاعتبار إنما بتواضع، ثم تاركاً لنا حرية اكتشاف مواقعنا في نطاق المسألة الأميركية، فهل هذا يعني اختيارنا التحرك كمعارضة على هدي اليسار الأميركي؟ أم هو لا يمانع أن ينخرط بعضنا في أفق الحزب الديمقراطي الأميركي؟ أم ماذا؟

الخلاصة هي أن الرجل طرح المسألة الأميركية باعتبارها حالة أممية مطلقة لا مجال لمقاومتها ولا مناص من الانخراط فيها إيجابياً، على أن لا نحبّها بالمطلق ولا نكرهها بالمطلق (هل لاحظتم تناقضه في تبني المطلق ورفضه؟) وأن يكون  نضالنا مرناً مستوعباً ومندمجاً في المسألة الأميركية (أي نقابياً مطلبياً مثلاً؟!) ولابد أنه سوف يطرح علينا في القريب العاجل نص عقيدته الجديدة البديلة، المرنة المستوعبة المندمجة، التي مهّد لها بأدوات يسارية بينما هي لن تكون سوى عقيدة اليمين الأميركي!

غير أن الحياة عموماً، والواقع المعاش تحديداً، هما بعكس ما يتوهّم الرجل ويخطط، فالعقائد التي يعتبرها منتهية، بل الأصح يريدها أن تنتهي، لم تكن في أساسياتها، في أي زمن مضى، ضرورية وواقعية مثلما هي اليوم، والسياسة الأميركية الإجرامية، التي يدعونا لاعتبارها مسألة أميركية مستقرة وراسخة عالمياً، لم تكن في أي زمن مضى أشدّ عدوانية وإجراماً، لكنها اليوم ضعيفة منحدرة بعد أن بلغت ذروة جبروتها وصعودها، بعكس ما يتوهّم على طول الخط!

      www.snurl.com/375h  

 

Hosted by www.Geocities.ws

1