أوهام الاستقلال بالأمس.. والديمقراطية اليوم!

في ظل الإدارات الرأسمالية الربوية، خاصة اليوم، فإن علاقات الحرب، لا علاقات المنطق، هي التي تحكم العالم، إنها علاقات الغاب لا علاقات الحضارة، ولو عدنا إلى الماضي قليلاً، وهو ما يجب أن نفعله دائماً لتصويب مواقفنا الراهنة، فسوف نرى أن الأعوام العشرين التي تلت الحرب العالمية الأولى لم تكن سوى مرحلة استعداد للحرب العالمية الثانية، ولم تكن سوى مرحلة انتقال إلى مرحلة أعلى من مراحل الاستعمار، تقودها إدارة جديدة أعظم بغياً وأشد قسوة، إنما بأساليب جديدة وخطابات جديدة، فالحربان العالميتان كلتاهما نشبتا بين أطراف رأس المال الدولي الربوي، فانطلق كل طرف يحاول الاستيلاء على أكبر حصة ممكنة من جنوب العالم المستعمر، واحتلال أفضل موقع مؤثر في قيادة العالم.

الصراع على موقع القيادة!

فبينما كانت الإدارات الاستعمارية القديمة، مثل الإنكليزية والفرنسية، تتقهقر في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى لصالح الإدارة الأمريكية، كانت برلين وطوكيو في حالة تأهب قصوى لقطع الطريق على الوريث الأمريكي، ولانتزاع أكبر جزء من رأس المال الدولي، ولوضع اليد على أوسع مساحة من المستعمرات والخريطة الدولية، ومن ثم الحلول في موقع القيادة الذي لا يزاحمهما عليه أحد، فكان ذلك يستدعي بالنسبة للألمان مثلاً توحيد أوربا جغرافياً وسياسياً بقيادتهم عن طريق الحرب، إذ إن التكافؤ مع قوة الولايات المتحدة الصاعدة يفرض عليهم ذلك، وحيث مواجهتها مواجهة مجدية لا يمكن أن تتحقق بأقل من أوربا موحّدة على رأسها قيادة مركزية، وبالطبع فإن الأمريكيين ما كانوا ليسمحوا بذلك، لا للألمان ولا للفرنسيين ولا حتى للإنكليز.

سكين واحدة وقبضات متعددة!

إن حلم توحيد أوربا تحت قيادة واحدة، سلماً أو حرباً، ظل يراود الأوربيين عبر القرون الثلاثة الماضية، وظلت محاولات تحقيقه تتكرر من قبل الألمان والفرنسيين خاصةً، ولكن من دون جدوى ولأسباب موضوعية ليس هنا مجال استعراضها، أما الدافع الرئيسي لهذا الحلم الإمبراطوري فقد كان دائماً موجوداً خارج القارة الأوربية، خلف المحيطات في القارات الأخرى.

كان الواقع الأوربي هو الذي يحدد أشكال الأساليب التي يجب اتباعها والأدوات التي يجب استعمالها لتحقيق التوحيد، فسواء بالنسبة للألمان، أو الفرنسيين أو الإنكليز، كان السير في اتجاه الحلم الإمبراطوري، الرأسمالي الاستعماري، يتطلب دائماً التعبئة العرقية أو التعبئة المذهبية و أحياناً كلاهما معاً، بسبب الفسيفساء الإنسانية التي يتشكل منها سكان أوربا، وكان لا بد لتلك التعبئة من أن تكون متطرفة في طروحاتها بما يكفي لجعل الجنود يتقدمون في ميادين القتال بأعلى قدر من الحزم في محيط لا حدود لتعقيداته، أما في الولايات المتحدة، التي هي استطالة أوربية، فكان الوضع مختلفاً بسبب موقعها الجغرافي الذي ظل يسمح لها بقدر كبير من المناورة، لإخفاء نواياها الحقيقية الإمبراطورية الاستعمارية ولتضليل الشعوب بمظاهر ناعمة وخطابات معسولة تجعل الشعوب ميالة إلى الاطمئنان وفقدان الحذر، أما الهدف فهو واحد دائماً، سواء في أوربا أم اليابان أم الولايات المتحدة، وليس هناك من هم أكثر سخفاً، ولا نقول أكثر، من أولئك الذين اعتقدوا بالأمس بصحة انحياز واشنطن إلى استقلال الشعوب وحريتها، ويعتقدون اليوم بصحة انحيازها إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان. ففي التعامل مع أمم الجنوب كانت السكّين ومازالت واحدة، تتحرك دائماً على عنق الفريسة الجنوبية بطريقة واحدة، أياً كانت القبضة الممسكة بها، أوربية أو يابانية أو أمريكية.

أسلوب جديد ومضمون واحد!

لقد حدث أن الولايات المتحدة ما كادت تخرج من الحرب العالمية الثانية، منتصرة وحدها في الواقع، حتى بدت كأنما هي الملاذ لتلك المستعمرات المتعطشة للحرية، غير أن الأمل كان كاذباً والاستبشار كان وهمياً، عززته، قبل أن ينكشف، تلك الاستقلالات الشكلية المتوالية في آسيا وأفريقيا، أما ما كان يحدث حقاً فهو أن واشنطن كانت تتطلع وتسعى إلى كنس جيوش الأوربيين واليابانيين من المستعمرات لأنه يعيق انتشار أسلوبها الاستعماري الجديد، القائم على استعباد الأمم بوساطة المصارف والقروض والفوائد والمستشارين والمخابرات، وأيضا بوساطة القيادات المحلية العسكرية والمدنية، المادية والفكرية، بعد أن تربطها بقيود متينة يصعب الفكاك منها، أما الأسطول الحربي الأمريكي فكان عليه أن يتدخل بسرعة وفظاظة من حين لآخر عندما تقتضي الضرورات الاستثنائية ذلك.

وقد حدث أن القيادات الوطنية في المستعمرات توهمت أن نتائج الحرب العالمية الثانية يمكن أن تسمح لها بالاستقلال السياسي والاقتصادي والثقافي، مثلما يتوهم البعض اليوم أن نتائج ما يسمى بالحرب الباردة، أي انهيار الاتحاد السوفييتي في الواقع، يمكن أن يسمح لها بنيل الديمقراطية بمساعدة واشنطن ويا للعجب! إن أوهام الاستقلال المتبددة بالأمس تتكرر اليوم بصورة أكثر سخفاً ومأسويةً في أوهام الديمقراطية المستوردة!

النتائج المترتبة على ذلك!

بالطبع، كانت هناك الأوساط القيادية الوطنية المخلصة في المستعمرات، تلك التي اعتقدت أنه آن لها أن تسير على طريق التنمية لردم الهوة التي تفصل بلادها عن البلاد المتقدمة! أي أن وحدة النظام العالمي التي تشترط تخلف بلدانها وتبعيتها للمراكز الاستعمارية غابت عن بالها! لقد ظلت تتصرف كأنما الدول الثرية القوية تستطيع أن تكون ثرية وقوية بذاتها، و كأنما تحقيق التقدم في المستعمرات السابقة عمل محض إرادي وداخلي، فجلد المثقفون والسياسيون والمصلحون شعوبهم التعيسة بقسوة، وأنّبوها بشدة وهم يحثّونها على النهوض في حد ذاتها ، بينما ذلك لم يكن ممكناً بالطبع! وهاهم أولاء اليوم يجلدونها ويؤنّبونها ويحثّونها على النهوض لردم الهوّة الديمقراطية بينها وبين الأمم المتقدمة! كأنما الحرية والاستقلال تحققا ولم يبق علينا سوى تنظيم علاقاتنا الداخلية ديمقراطياً!

إن النواقص جميعها، العلمية والثقافية والديمقراطية وغيرها، يمكن توفيرها بسرعة مدهشة في حال التحرر من شبكة النظام الربوي العالمي، بينما هذه النواقص تبدو شروطاً ضرورية، مرعية ومحمية وثابتة، في حال استمرار الحياة داخل هذه الشبكة اللزجة اللعينة. فليس ثمة نقص أصلي عند أمة من الأمم، بل هناك وضع سياسي دولي ومحلي، وقد كان تطوير المد التحرري الهائل الذي اجتاح المستعمرات بعد الحرب العالمية الثانية ممكناً جداً لو توافر للقيادات الوطنية قدر كاف من إدراك حقيقة النظام العالمي وحقيقة قيادته الأمريكية الجديدة، وهكذا بدلاً من أن يقطع الطريق على صعود النظام إلى مرحلة أعلى وأعقد، رأينا أداء حركات التحرر، التي توهمت الاستقلال، يسهّل مهمة واشنطن ويمكّنها من الإمساك بناصية العالم، بشقّيه المتقدم والمتخلف!

 

Hosted by www.Geocities.ws

1