مطالبة العرب رسمياً بالانتحار!

بقلم: نصر شمالي

عندما تنتقل الحرب إلى طور الاشتباك المسلح تتحول إلى محنة كبرى، حيث ذلك يعني عطالة منطق العقل وسيادة منطق القوة الباغية اللاعقلانية، وهذا ما تشير إليه أوضاع فلسطين والعراق بوضوح، وقد فرضت عليهما الحرب النارية فرضاً فلا مفر من مواجهتها، والخيار المعروض عليهما هو الموت بها أو من دونها! وهاهنا، أمام هكذا خيار، تتحول المحنة إلى امتحان لجدارة الأمة بالحياة، فهو امتحان استثنائي لقواها المعنوية والمادية، لروحها وعقلها، ولأدائها وفعاليتها، فإما أن تبرهن أنها تستحق العيش الإنساني، وإما أن تضمحل وتزول!

الأعداء لا يعترفون بوجود أمتنا!

غير أن المسألة لم تتوقف على نتائج الحرب النارية كي يقرروا ما إذا كانت أمتنا جديرة أم غير جديرة، حية أم ميتة، فهم منذ أوائل القرن العشرين، بل منذ نهايات القرن الذي سبقه، أعلنوا على لسان الصهاينة اليهود أن فلسطين أرض بلا شعب، سوف تعطى لشعب بلا أرض! وبالطبع، هم كانوا يعرفون أننا نقطنها، لكنهم اعتبرونا أمواتاً، أو في حكم الأموات الذين لا يستحقون الحياة!

ولأنهم قرروا سلفاً أننا في حكم الأموات، فقد واظبوا دائماً على ممارسة سياسات تؤكد أكذوبتهم القائلة بأرض بلا شعب لشعب بلا أرض! وماذا باستطاعتهم أن يفعلوا غير ذلك؟ فنحن نفهم جيداً مأزقهم، وأنهم أسرى أكذوبتهم، وأنه، بمجرّد أن يتخلوا عن مقولتهم الملفقة، سوف ينهار دفعة واحدة كل البنيان الذي نهض عليها!

هكذا تصبح المقاومة العربية الباسلة، الفريدة من نوعها في التاريخ البشري، مجرّد إرهاب لا يبرهن عن وجود أمة عريقة، منتجة للحضارة، وجديرة بالحياة لأنها تجيد الدفاع عن وجودها، بل يبرهن عن وجود مجرّد وحوش يجب تطهير الأرض منها، ابتداء بالأطفال رماة الحجارة الذين يتسلقون دباباتهم بينما هي تطلق حممها، وانتهاء بالاستشهاديين الذين ترمز عملياتهم إلى أروع وأعظم معاني الفداء والتضحية الإنسانية الطوعية لصالح الخير العام، وهكذا أيضاً نرى الإدارة الأميركية، الراعية الأولى للإرهاب الإبادي الاستيطاني، وهي تسرع لنجدة مشروعها الصهيوني المترنّح، معلنة أنه لا بد من إبادة المقاومة على أيدي العرب أنفسهم قبل العمل على إقامة "دولة فلسطينية"!

إنه الإعلان الأميركي الذي لا يعني سوى التأكيد على المقولة الصهيونية القديمة: أرض بلا شعب لشعب بلا أرض! أما "الدولة" الموعودة فمن الواضح أنها سوف تكون مجرّد معازل (كامبات) تحوي نفايات أمة يصرون أنها منقرضة، يزورها السائحون كما يزورون المتاحف وحدائق الحيوانات!

النظام العالمي والدمار الذاتي؟

غير أن الإدارة الأميركية وهي تطالب العرب رسمياً بالانتحار، عندما تدعوهم للقيام نيابة عنها بتدمير عناصر مقاومتهم ومكوّنات إنسانيتهم، المادية والمعنوية، تفعل ذلك بينما تواصل انتشارها في جميع القارات، وحروبها تتسع لتشمل جميع الشعوب، وبينما كثير من المراقبين، من مختلف الجنسيات بما فيها الجنسية الأميركية، يرون أن سياسة السيطرة العسكرية يصعب نجاحها، لأن الاقتصاد الأميركي يعاني عجزاً مزمناً، ولأن المجتمع الأميركي يعاني ترهلاً لا علاج له، حيث 80 % من الأجهزة المستخدمة في الأسلحة الأميركية تنتج في اليابان، وخاصة ذات النظم التكنولوجية العالية، التي يشير الأميركيون إليها باعتبارها دليل قوتهم التي لا تقهر! كذلك، هناك من المراقبين، في بريطانيا والولايات المتحدة خاصة، من يرى وهو يتابع حمى النشاط العسكري الأميركي أن بين انتصارات النظام الاحتكاري الربوي العالمي في ميادين الإنتاج وبين قربه من لحظة الدمار الذاتي ما يستدعي العجب! ومن أدلتهم على ذلك أن مسألة السيطرة العسكرية الأميركية دولياً لم تعد مقتصرة على مجرّد إخضاع بلدان الجنوب ونهبها، ولا على مجرّد ضبط أطراف رأس المال الدولي في أوروبا واليابان، فقد دخلت صناعة الأسلحة الحربية، ومثلها صناعة المخدّرات، كفرع رئيسي من فروع الاقتصاد الأميركي و كعنصر دمار شامل، بينما تبدو الاحتكارات الربوية المتوحشة غير آبهة للمستقبل البشري، فهي تنشط يوماً بيوم، ولا تفكر باقتراب نظامها العالمي من لحظة الدمار الذاتي!

المرابون أكلة لحوم البشر!

بدافع الأنانية العمياء، المغلّفة بأقنعة عرقية أو دينية أو إقليمية، ينطلق تجار الحروب أكلة لحوم البشر على دروب إشعال نيران الدمار التي تدرّ عليهم دخولاً هائلة، وهم يبررون أفعالهم، التي يستحيل تبريرها بمعايير المنطق الإنساني، بمقولات مضللة عن: "التركة المشتركة للبشرية جمعاء"! وعن:"المصالح والأهداف الواحدة للإنسان عموماً"! إنها المقولات التي تعني حسب شروحاتهم أنه لا يجوز لشعب واحد منع الدول الأخرى من الوصول إلى ثروة بلده الوطنية التي هي _ في رأيهم_ جزء من إرث عام مشترك! وهكذا فإن "وحدة" العالم تتحقق، حسب خطتهم، بتدميره أولاً، كلياً أو جزئياً، وتحويله إلى أشلاء وشظايا، ومن ثم "توحيده"! وإنه لعين ما نشهده اليوم في العراق.

لقد أعلن الأميركيون، قبل عشر سنوات، أن قواتهم متواجدة في جميع أنحاء العالم من أجل حماية السلام (مجلة فورين أفيرز 1994) وأعلن وزير الخارجية الأميركي، في ذلك التاريخ، مايلي: إن مطالبنا (من العرب) هي تسهيلات عسكرية لقواتنا سريعة الانتشار، ذات الكفاءة والتقنية المتقدمة"! وردّد الرئيس كلينتون، في حينه، كلاماً بالمعنى ذاته وجهه إلى جنوب شرق آسيا، في حين أبلغوا دول الخليج العربي عن عملية نشر قوات برية وبحرية وجوية قوامها ثلاث فرق عسكرية، وخمسة عشر سرباً مقاتلاً، وحاملة طائرات، على أن تقوم دول الخليج بتمويل العملية! وقال مساعد وزير الخارجية الأميركي (بللترو) في تلك الفترة أن أهداف الولايات المتحدة متعدّدة، فهناك الأهمية المتعاظمة للشراكة الاقتصادية مع دول الخليج، وهناك المصالح القوية للشركات الأميركية التي تتولى إقامة الصناعات والبنية الأساسية، إضافة إلى أنه لابد من حماية الأصدقاء، وحماية المصالح الحيوية، والتأكيد على أن الولايات المتحدة مستعدّة للتصرف بحزم عند اللزوم! وفي هذا السياق صرح أحد كبار المسؤولين الأميركيين قائلاً:"إن منطقة الشرق الأوسط، بما فيها الخليج، هي من المناطق التي يطلق عليها وصف:"المنطقة المفتاح"! أي أنها أساسية في السياسة الخارجية الأميركية لأسباب لا تخفى على أحد، ولذلك فإن واشنطن على استعداد لتوجيه الضربات ولخلع أي نظام يقف في وجه مصالحها"!

من يرسم السياسة العسكرية الأميركية؟

إنه ليتوجب علينا، دائماً ودائماً، عدم الانخداع بما تردّده أجهزة الإعلام المضللة، ورؤية الأسباب الحقيقية والقوى الفعلية التي تقف خلف ما يسمى بالسياسة الدفاعية للولايات المتحدة، وهي الشركات الاحتكارية الكبرى، الناجحة، المتصلة بالمراكز العليا للقرار، والتي تتميز بكونها منتفعة من "مخاوف" الدولة والمجتمع، فالمخاوف الأمنية يجب أن تبقى مستيقظة طوال الوقت كي تزدهر أعمال الشركات، وعدم الإحساس بالأمن العسكري، أي بكفاية التسلح التي لا تتحقق أبداً ولا سقف لها، هو ما يرفع أسعار الأسهم في تلك الشركات التي تعمل في ميدان الإنتاج الحربي! إن عقوداً بعشرات ومئات المليارات تعطي للشركات الأميركية المحظوظة، المقربة، من دون مناقصات ولا منافسات، وفي ظروف تكتنفها السرية، فلا غرابة أن تسود القناعة بأن الشركات هي من يرسم السياسة الحربية الأميركية، ولا غرابة في أن يرى المراقبون أن هذا النظام العالمي يندفع حثيثاً نحو لحظة الدمار الذاتي، نتيجة لجشع المرابين ولسياساتهم الحمقاء والعمياء!

 

 

Hosted by www.Geocities.ws

1