ماركس طوباوي.. ولينين متعسف.. والاشتراكية ملفقة!

نصر شمالي

قبيل انتصار الثورة الاشتراكية الروسية وبعد انتصارها، وقبيل انهيار التجربة السوفييتية وبعد انهيارها، ثار جدل قوي في أوساط الاشتراكيين بالذات حول الرأسمالية العالمية. فقبل نحو تسعين عاماً دار الجدل حول رأسمالية ما قبل مرحلة الاحتكار ورأسمالية ما بعدها. فقد أراد البعض (الكاوتسكيون) الفصل بينهما لصالح الثانية، فلم يقبلوا أن الإمبريالية هي مرحلة أعلى من مراحل الرأسمالية والاستعمار، مع أن أحداث القرن العشرين كلها وحتى يومنا هذا دللت بصورة قاطعة أنها كذلك! واليوم، بعد نحو تسعين عاماً، يجادل ورثتهم من جميع القوميات حول الرأسمالية في مرحلة الحرب الباردة والرأسمالية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، أي بعد زوال الاتحاد السوفييتي! إنهم يريدون الآن أيضاً الفصل بينهما لصالح الثانية! لقد أصبحت الرأسمالية من وجهة نظرهم شعبية، ديمقراطية إنسانية، تهمها مصالح الشعوب، وتطبّق ما أطلق عليه البعض عنوان اشتراكية السوق! أي أنهم، باختصار، يعدّون الإمبريالية عهداً مضى وانقضى مع الاتحاد السوفييتي الذي مضى وانقضى!

الموقع التاريخي للتجربة السوفييتية!

لقد صارت الرأسمالية توصف بالطيبة الحنون، الصادقة والجادة في نضالها من أجل إشاعة الحرية والديمقراطية وتأكيد حقوق الإنسان، وأنها لا علاقة لها من قريب أو بعيد برأسمالية مرحلة الحرب الباردة التي يتحمل مسؤوليتها الاتحاد السوفييتي الاشتراكي. فالتجربة الاشتراكية ملفّقة وليست بنتاً طبيعية للتاريخ، بينما الرأسمالية بنت طبيعية للتاريخ! إن التجربة الاشتراكية توصف بأنها فرضت تعسفاً من قبل رجل يدعى لينين، ولا بد أنه اعتمد في فرضها قسراً، خلافاً لمنطق التاريخ، على أفكار ماركس الطوباوية بصدد مجتمع الملائكة..إلخ! ومن الذي يروّج لمثل هذه الترّهات والهذيانات، على خطورتها؟ إنهم بعض الاشتراكيين والمناضلين السابقين ضد الرأسمالية والاستعمار! إننا، أياً كانت نوايا هؤلاء، وعلى فرض أنها طيبة وبريئة، لا نستطيع إغفال الصلة، من حيث فحوى الخطاب على الأقل، بين هذا المنطق وبين منطق الاشتراكيين السابقين (التروتسكيين) الذين وصلوا الى قمة السلطة في الحكومة الأمريكية وتحوّلوا الى ما يسمى باليمين الجديد المتشدد!

إن التجربة السوفييتية عملية تاريخية موضوعية، وقعت داخل سياق التاريخ وليس خارجه، وهي ما كان لها إلا أن تنهض بوجود لينين أو من دون وجوده، وما كان لها إلا أن تنهار في المحصلة بتآمر الأمريكيين والصهاينة وبأخطاء القيادة السوفييتية أو من دونها، أما الحمق الذي ما بعده حمق (ولا نقول أكثر) فهو وضعها خارج السياق التاريخي العام، واعتبارها حادثاً كان يمكن تجنبه أو كان يمكن عدم انهياره! ولا يتسع المجال هنا لأكثر من القول إن التجربة السوفييتية الإجمالية كانت فوق الإرادات الفردية مهما عظمت، سواء في نهوضها أم في سقوطها، وإن الموقف الطبيعي منها، الذي يفترض أن لا يكون فردياً ولا تعسفياً ولا طوباوياً، هو الانكباب على دراستها كصفحة هامة، غنية ومتكاملة، تستحق موقعها بجدارة في تاريخ المسيرة البشرية العامة.

يحاولون إشاعة الأمّية والجهل!

إن ما ينبغي الحذر والتحذير منه اليوم هو المواقف المموّهة لأولئك الذين اكتشفوا مؤخراً أن كارل كاوتسكي كان على حق، وأن لينين كان على خطأ، مثل القول إن الشيخ تاج كان على حق ويوسف العظمة كان على خطأ، فانطلقوا في تهريج غير مضحك، يشيع الأوهام ويدفع إلى اليأس العام، في لحظة تاريخية عالمية، استثنائية وانتقالية، سمتها البارزة هي استعصاء أزمة الاحتكار العالمي عدو الإنسان وليس العكس، على الرغم من أن الظواهر السطحية توحي بالعكس!

إن الطابع الانتقالي لهذه المرحلة المتميزة من تاريخ البشرية لا يخفى على عاقل منصف، إذ القائم يجب أن يزول لكنه مستمر، وما يجب أن ينهض لم يظهر بعد، الأمر الذي يعطي انطباعاً مخادعاً باهتزاز اليقين العام وعطالة العقل العام، وبالسيادة السرمدية لما هو قائم، فتسارع الأوساط الاحتكارية الربوية، ويسارع الانتهازيون والسخفاء، لإشاعة الأمّية بجميع الوسائل والأدوات المتاحة، من أجل قطع الطريق على تفتح العقل وتبلور اليقين إلى مستوى المستجدات العظمى! إنهم يفعلون ذلك وهم يعتقدون عن حق أنه ليس أسهل من استمرار السيطرة، ولو إلى حين، على مجتمعات أمّية جاهلة معطلة العقل وفاقدة اليقين!

مظاهر إفلاس النظام العالمي!

إن الإنسان السوي،ّ الذي يتمتع بالحد الأدنى من القدرة على الملاحظة، لا يحتاج إلى كبير جهد كي يكتشف أننا نعيش مرحلة فساد هذا النظام الاحتكاري الربوي العالمي، وكي يلاحظ جاهزيته للانهيار والزوال، تماماً مثلما حدث للنظام الروماني العبودي القديم الذي ظهرت دلائل انهياره واضحة في مراحله الأخيرة! ولا يغيّر في هذه الحقيقة التاريخية العظمى حدث انهيار التجربة السوفييتية، بل لعله يؤكدها في التحليل العميق. ولعل هذه التجربة شرط للتجدد الفعال، ولنهوض البدائل اللازمة التي لم تنهض بعد، بينما نحن نعرف أن الأنظمة لا تزول مهما فسدت واضمحلت إلا بنهوض بدائلها!

لقد تبدلت البنى التحتية العالمية وانتهى الأمر كما يشير ما لا يحصى من الدلائل الملموسة، وبقي أن تتبعها البنى الفوقية العالمية التي يحدث أن يتأخّر تبدّلها، لكنه مؤكد الحدوث! وبالطبع، فإنه لمن السخف أن نحسب ونحدد الأعوام التي سوف يتحقق فيها ذلك، ولكنه من الخيانة في الوقت نفسه أن نتوقف عن النضال من أجل أن يتحقق ذلك، وإن في زمن أولادنا أو زمن أحفادنا!

إن الثورات هي التعبير الحاسم عن وجود حركة التاريخ، أي حركة المجتمعات عبر جميع العصور، وللحيلولة دون تبلور ثورات متجددة، تحتوي التجربة السوفييتية ضمناً وتتقدمها، ومن أجل تأخير نهوض البدائل، ولإعاقة حركة التاريخ، ترى البعض يحاول اليوم تضليل الإنسان بألسنة اشتراكية تنطق بالترّهات، عن رأسمالية شعبية متطورة ومتجددة، وعن ديمقراطية إنسانية تراعي مصالح الطبقات والشعوب المسحوقة، فينطلي هذا الهراء على البعض، إنما مؤقتاً وإلى حين فقط!

إن الشروط التاريخية التي أنتجت التجربة السوفييتية مازالت هي نفسها على صعيد العالم، وما استجد هو فقط أن الرأسمالية الإمبريالية انتقلت إلى مرحلة أعلى، سواء سميت بالعولمة أو بأي اسم آخر، لكن الدلائل الكثيرة، المعيشة والموثّقة، تشير إلى أنها المرحلة الأخيرة من تاريخ هذا النظام الربوي العبودي، الذي غدا بالغ الضعف في ذروة قوته،فهو في القمة التي لا صعود بعدها والتي لا يليها سوى الانحدار، وما علينا إلا التأمل، مثلاً، في هذا المشروع الشيطاني، القسري والملفّق حقاً، الذي يريد أن يجعل من المنطقة الشاسعة، الواقعة ما بين إندونيسيا وماليزيا والمملكة المغربية وموريتانيا، ما يشبه ولاية أمريكية عليها جميع الواجبات وليست لها أية حقوق! إنهم يحاولون تحقيق ذلك فعلاً تحت عنوان (الشرق الأوسط الأكبر!) وهي محاولة مستحيلة بالطبع، وتعكس مجرد نزعة دفاعية عن مجرد الوجود!

أخيراً، فإن الذي دفعني لقول هذا الذي أقوله هو مطالعتي لما كتبه في العدد الماضي الأخ العزيز الدكتور مصباح غيبة تحت عنوان (إذاً ما هو الحل؟) إذ إنني أشاركه تأثره وأتفهّم ملاحظاته.

 

Hosted by www.Geocities.ws

1