الارتزاق الاستثماري في حرب العراق!

بقلم: نصر شمالي

في تشرين الأول/أكتوبر عام 2002 أعلنت قيادة الجيش الأميركي أن ما يزيد على 200 ألف وظيفة في وزارة الدفاع سوف "تلزم" للشركات المدنية الخاصة في إطار المرحلة الثالثة من أعمال خصخصة قطاعات القوات المسلحة!  وبالطبع، إذا كان لا بد من استطلاع آفاق هذا التوجه مسبقاً، وتحديد ميادين النشاط العسكري/التجاري قبل الانطلاقة الكبرى على طريق خصخصة الحروب، فقد كان العراق أحد الميادين الرئيسية التي تم استطلاعها في وقت مبكر، وتحضيرها كساحة حرب مفتوحة للارتزاق الاستثماري!

لقد قوبل إعلان قيادة الجيش الأميركي، عن تلزيم مئات ألوف الوظائف العسكرية لشركات خاصة، بانتقادات واسعة وقوية، حيث رأى العديد من الخبراء أن هذا التصرف الجانح في ما أريد له أن يكون عملية إصلاح بنيوية، لن تنتج عنه بالضرورة فعالية أكبر، فإذا كان أحد الأهداف الكبرى هو تخليص الجيش من أعباء تلك الوظائف فإن عدد الموظفين العاملين بموجب عقود مع وزارة الدفاع كان أكبر بأربع مرات من عدد الموظفين المدنيين، الأمر الذي دفع روبرت هارناج رئيس الاتحاد الأميركي للموظفين الفيدراليين للتصريح بما معناه أن هذا التحول نحو خصخصة قطاعات الحرب يهدف الى التنصل الرسمي من المسؤولية الأخلاقية والقانونية إزاء ما ينجم عن الحروب!

التحرر من القوانين والأخلاق!

لقد جرى توقيع أكثر من 3000 عقد بين الحكومات الأميركية المتعاقبة وبين الشركات الخاصة، في الفترة 1994-2004، تضمنت تلزيم خدمات الحرب الخارجية الى جانب الجيش الأميركي، وبلغت قيمة تلك العقود أكثر من 300 مليار دولار، وقد دخلت الشركات الأميركية الخاصة، متعددة الجنسيات،تدريجياً الى قطاعات الجيش، عبر الزيادات التدريجية في عدد الموظفين من القطاع الخاص العاملين في ميادين المعارك الى جانب القوات المسلحة الأميركية. وقد توزع أولئك الموظفون على قطاع الخدمات اللوجستية، وورشات الصيانة، وأقسام الهندسة الحربية، ومؤسسات تطوير أنظمة الأسلحة الحربية. وبينما كانت نسبة الموظفين من القطاع الخاص واحداً الى كل مئة جندي خلال حرب الخليج عام 1991، فقد ارتفعت هذه النسبة الى واحد من عشرة في العام 2003، أما في العام 2004 فقد احتل العاملون من القطاع الخاص الحجم الثاني في قوات احتلال العراق، أي ما يعادل 20% من قوات الاحتلال الأميركية!

من المبررات غير الصحيحة التي اعتمدت عليها الإدارات الأميركية المتعاقبة أن هذا التحوّل نحو القطاع الخاص سوف يكون لصالح التوفير في الموازنة العامة، غير أن الوفر المؤمل لم يتحقق، وما حدث هو أن الشركات الخاصة المتعددة الجنسيات أصبحت أكثر قدرة على تحويل بنود الميزانية الأميركية لصالحها. إن الاستراتيجية الأميركية في حربها ضدّ "الإرهاب" في العالم عموماً، وهي استراتيجية الحروب المتفرقة التي يجب أن تكون محددة المكان، وبسيطة، ومفتوحة الزمان، أي دائمة، هذه الاستراتيجية صارت مهمتها فتح أسواق للارتزاق الاستثماري في خدمة الشركات، وصار الحفاظ على زعامة واشنطن للعالم مجالاً دولياً لنشاط المرتزقة المدنيين الذين مكنوها من الانسحاب العسكري من بعض المناطق الأقل أهمية، وأخذوا على عاتقهم التخفيف عن قواتها المسلحة، بتحمل الأعباء الأقل حيويةً، والإنطلاق متحررين من كل قيد قانوني أو أخلاقي!

إختلاق الحرب وبيع احتياجاتها!

بالاعتماد على عشرات ألوف المرتزقة، الذين جندتهم الشركات الخاصة، تحررت قيادة الجيش الأميركي الى حد كبير من الرقابة الإدارية، والإجراءات البيروقراطية، ومن رقابة الكونغرس فيما يتعلق بإقرار إرسال القوات الى حيث يجب أن ترسل في أنحاء العالم، وبالتحرر من مسؤولية القتلى، وصار بإمكانها الإسهام في تنفيذ عمليات تتناقض مع الخيارات الرسمية، وقد تحقق ذلك بنجاح في الحرب اليوغسلافية، حيث كانت الحكومة الأميركية قد أعلنت حيادها في معارك البوسنة، وأن قواتها هي لحفظ السلام، لكن قيادة الجيش الأميركي تركت لإحدى الشركات الخاصة مهمة تدريب وتسليح أحد الجيوش المحلية، خلافاً لقرارات الحظر الصادرة عن الأمم المتحدة، ومكنت ذلك الجيش من الإعداد للهجوم الكبير على كرايينا في العام 1994!

لقد حققت الشركات المتعددة الجنسيات سيطرة كبيرة على ساحات المعارك القائمة والمرتقبة، وراحت تقترح التوسع في استخدام تكنولوجيا المعلوماتية والاتصالات الحديثة، وحسب أحد المدراء فإن الخدمات الحربية التي تقدمها هذه الشركات تتكامل مع منتجاتها! أي أن الشركات تخلق الأزمة، وتفجّر الحرب، وتلفّق احتياجات هذه الحرب من الوسائل والأدوات كي تتاجر بها! إن هذا كله يحدث بعيداً عن الرقابة المركزية والميدانية! إن مرتزقة الاستثمار الحربي، المسلحون بالعقود وبالتلزيمات وبالمدافع أيضاً، يمارسون عمليات التدمير الشامل بلا رقابة ولا قيود الى الحد الذي يهدد التوازن في القوات النظامية! وفد صرّح كينيث روس المدير التنفيذي لجمعية مراقبة حقوق الإنسان أنه: إذا كانت وزارة الدفاع الأميركية تنوي استخدام متعاقدين من القطاع الخاص لتنفيذ مهمات عسكرية أو استخباراتية فيتوجب عليها التأكد من أنهم يخضعون لبعض قيود وأشكال الرقابة القانونية، ذلك أن السماح لهؤلاء بالعمل وسط فراغ قضائي يعتبر تشجيعاً لارتكاب التجاوزات!

اختبار التلزيم قبل قوننته!

لقد أصبح تلزيم الخدمات العسكرية للشركات الخاصة عملاً تقليدياً. وبحكم الخيار الاستراتيجي الأميركي باتت عقود التلزيم وعقود المرتزقة مندمجة على أرض المعركة، فقد أوكلت مهمة حماية المواقع الحساسة في العراق الى شركات خاصة من دون رقابة حقيقية عليها، وأعلنت الحكومة الأميركية أن شركة "إيرينز إيراك ليميتد" هي من سوف يتولى إعداد آلاف العراقيين من أجل حماية منشآت خط أنابيب نفط كركوك-جيهان. ومن أجل إعداد المجندين المرتزقة استعانت الشركة بأعداد كبيرة من عناصر شرطة جنوب أفريقيا السابقين، وسرعان ما انتشرت حمّى الارتزاق الاستثماري في أوروبا، وراح موظفو القوات العسكرية يتحولون الى شركات القطاع الخاص العاملة في العراق، حيث الأجور تفوق عشرة أضعاف أجورهم الرسمية‍‍! وبما أن المجال انفتح لكل من هب ودب فقد انعكس ذلك على مستوى خدمات المرتزقة، ناهيكم عن جرائمهم كالخطف والاغتيال، الأمر الذي يثير قلق أعداد متزايدة من القادة العسكريين الأميركيين!

ولكن، بينما تتزايد أعداد المرتزقة تتعاظم بالمقابل عمليات المقاومة العراقية كماً ونوعاً. إن شركة "فينيل كوربوريشن" التي وقعت عقداً مع البنتاجون (منتصف عام 2003) قيمته 48 مليون دولار لم تحقق النجاح المطلوب في إنشاء نواة الجيش العراقي الجديد الذي يراد منه أن ينوب عن القوات الأميركية وأن يعمل بإمرة الشركات التي خلقته! وقد ارتفع الأجر اليومي لبعض المرتزقة الأجانب الى أكثر من ألف دولار، الأمر الذي يعني مصلحة المرتزقة في مزيد من التورط الحربي الأميركي!

يقول الباحث سامي مكّي: إن الارتزاق الاستثماري هو التعبير الجليّ عن ظهور حروب من نوع جديد، وعن إضعاف دور الدول على الساحة الدولية، وبما أن عمليات الارتزاق أقلعت في إطار السياسات الحكومية، وأنها تجسّد مسبقاً الحروب التي ستتضاعف في نظام العولمة، فإن خصخصة الحرب في العراق تسمح، بكل بساطة، بأفضل اختبار لانعكاسات التلزيم قبل قوننته! 

www.snurl.com/375h

Hosted by www.Geocities.ws

1