اللجوء إلى برنامج فينكس الفاشل؟

بقلم: نصر شمالي

بكثير من الدقة والصحة يمكن القول أن الإدارة الأميركية ما كانت لتقدم على احتلال العراق لو لم تعتقد بتوفّر شرطين: الأول هو استحالة ظهور مقاومة وطنية عراقية، والثاني هو حتمية العثور على أسلحة الدمار الشامل، فالشرط الأول ضروري للإنطلاق على الفور بالراحة التامة في عمليات المال والأعمال الربوية، وفي مقدمتها استرداد تكاليف الحرب التي يتحملها العراق والتي قدّرت بمبلغ 180 مليار دولار، وفوقها الفوائد والأتاوات والغرامات، والشرط الثاني ضروري لإقناع الرأي العام العالمي، وخاصة في الولايات المتحدة وبريطانيا، بأن الاحتلال جنبه أخطار أسلحة الدمار الشامل.

لقد اعتقد الانجلو اميركان أن نجاحهم في إحكام الحصار المهلك على مدى أكثر من عشر سنوات كان كافياً لتحقيق الشرطين المذكورين، وكافياً في حدّ ذاته لحسم نتائج الحرب مسبقاً لصالحهم، وهكذا سمعناهم قبل بدء الاجتياح البرّي يتحدثون عن إركاع وإخضاع الدول الأخرى المحيطة، بل احتلالها إذا اقتضى الأمر ذلك، وهنا نستطيع أن نقول أيضاً بكثير من الدقة والصحة أن الشرطين المذكورين لو تحققا لكانت قواتهم العسكرية باشرت عملياتها الميدانية البرية شرقاً وغرباً من دون أدنى تلكؤ!

من قزوين إلى الأطلسي

لقد اعتقدوا أن الحصار الطويل المبيد نجح في إنجاز ثلاثة أرباع العمليات العسكرية القتالية وأكثر، وأنهم حسموا مسألة إطلاق يدهم في المنطقة الشاسعة ما بين بحر قزوين والمحيط الأطلسي، حيث تتواجد معظم الكتلة النفطية العالمية، فبعد احتلال العراق لن تقوم قائمة للمقاومة الفعالة لا شرق العراق ولا غربه، لا في إيران وأفغانستان وباكستان ولا في فلسطين وسورية ولبنان، فالقواعد الأميركية الثلاث في أفغانستان والعراق وفلسطين سوف تجهز سلفاً على كل أمل بالمقاومة، وسوف تضع الأطراف الدولية الأخرى في حالة من التسليم التام بالأمر الواقع، غير أن المفاجأة المذهلة، بظهور المقاومة الوطنية وبعدم العثور على أثر لأسلحة الدمار الشامل العراقية، وضعتهم في مأزق حقيقي، وجعلت أوضاعهم، خلال الأشهر الستة التي تلت العمليات البرية، صعبة جداً على جميع الجبهات، فبدا ارتباكهم واضحاً سواء في تعاملهم مع الداخل العراقي أم مع دول الجوار ودول العالم عموماً. لقد اختفت إلى حدّ كبير تلك النبرة الواثقة التي طغت على تصريحاتهم قبل الاحتلال، وصاروا يتحدثون بقلق عن ورطة فيتنامية جديدة قد تكون الأخطر، ويتحوّلون في طرائق تعاملهم مع الآخرين داخل العراق وفي المنطقة والعالم إلى طرائق فيها الكثير من التراجع. لقد اكتشفوا أن تحقيق أهدافهم ما بين قزوين والأطلسي ليس محسوماً وليس بالسهولة التي قدّروها!

الرئيس الأميركي يعترف بالمأزق

ويقيناً لو أنهم لم يفاجأوا بالمقاومة العراقية، ولم يفشلوا في الوقوع على أثر لأسلحة الدمار الشامل، لما حرّروا مؤخراً الودائع المالية الإيرانية، بل كانوا فكروا بأسرع طريقة للاستيلاء على المصرف المركزي في طهران، فالزلازل ليست السبب لتحرير الودائع الإيرانية، بل جاءت ظرفاً مواتياً للإقدام على هذه الخطوة التي يعود سببها الحقيقي إلى مأزقهم في العراق، وفي فلسطين وأفغانستان أيضاً، وقد اعترف الرئيس الأميركي بالمأزق علناً عبر حديث أجرته هيئة الإذاعة البريطانية، في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، حين قال أن الولايات المتحدة لن تغادر العراق قبل الأوان رغم تكثيف الهجمات ضدّ قوات التحالف، وأن على العراقيين أن يعرفوا بأنها لن تغادر بلدهم قبل الأوان، أنها لن تسارع بالرحيل، مضيفاً أن ذلك لا يعني أن الوضع ليس صعباً، فهو صعب بالتأكيد! لقد قيل هذا الكلام في وقت أظهر فيه استطلاع للرأي نظمه معهد يوغوف أن 60% من البريطانيين يعتقدون أن الرئيس بوش يشكل تهديداً للسلام العالمي، وأن الحرب ضدّ العراق لا مبّرر لها على الإطلاق!

الوحدات الخفيفة بدلاً من الثقيلة

لقد اعترف القادة الأميركيون، في مطلع خريف 2003، أن وحداتهم العسكرية الثقيلة تفشل في التعامل مع المقاومة، وقال أحدهم أن الطريقة الوحيدة للإنتصار هي اتباع وسائل غير تقليدية:"يجب أن نلعب لعبتهم. رجال عصابات ضدّ رجال عصابات. يجب أن نرهب العراقيين حتى نستطيع إخضاعهم"! وقال مسؤول أميركي آخر:"إننا نحتاج إلى أسلوب جديد.لدينا هذه القوات التقليدية الكبيرة الموجودة هناك، وهي أهداف سهلة، وما تفعله لا جدوى منه، فلماذا لا نرسل فرق قناصين لقتلهم؟"!

وهكذا تقرر، منذ تشرين الثاني/ نوفمبر، اللجوء إلى ما يسمى برنامج فينكس لتفكيك المقاومة وتصفيتها، وهو البرنامج الذي نفذته وحدات القناصة والاستخبارات الأميركية في فيتنام في الأعوام 1968 – 1972، الذي يعتمد الإعتقال والإغتيال على أوسع نطاق لكل من يشك في تعاطفه مع المقاومة، وقد قتل الأميركيون حوالي41 ألف فيتنامي خلال تلك الأعوام، معظمهم لا علاقة له بالحرب كما أقرّ الأميركيون رسمياً أمام الكونغرس في ما بعد!

غير أن عمل الوحدات الخاصة غير ممكن من دون قوات محلية تقوم بدور الدليل، وقد كان عندهم في فيتنام جيشاً فيتنامياً نظامياً موالياً يعمل في ركابهم، أما في العراق فلا وجود لمثل هذا الجيش، ولا وجود لشبكة استخبارات محلية، لأنهم اعتقدوا مسبقاً أن الحصار الطويل للعراق أغناهم عن مثل هذه القوات، وهاهم الآن يعملون على تدارك هذا النقص الفادح بإعداد قوات ومخابرات عراقية موالية!

الصهاينة وبرنامج فينكس الفاشل

غير أن برنامج فينكس فشل فشلاً ذريعاً في فيتنام، وارتدّ على الأميركيين شعباً وجيشاً وبالاً وأمراضاً مازالوا يعانون منها، ومع ذلك فإن الصهاينة في فلسطين المحتلة أقنعوهم بجدوى هذا البرنامج، لأن الصهاينة يعتمدون هذا الأسلوب الذي يقوم على الاعتقالات والاغتيالات الواسعة وعلى إتلاف الحقول وتدمير المدن، وهم يرونه فعالاً ومجدياً، مع أنه لم يحقق أية نتيجة سياسية حاسمة في فلسطين!

إن الصهاينة في فلسطين ينظرون إلى تعميم برنامج فينكس في العراق باعتباره يبرّر ما يرتكبونه من جرائم، ويسمح لهم بإطالة أمد الحرب بهذه الطريقة، أما الأميركيون فإنهم يتحوّلون إلى هذا البرنامج القذر غير واثقين ولا قانعين، إنما هو الاضطرار بسبب المأزق، وبسبب محدودية الخيارات أمامهم، وبسبب إدراكهم المخيف لما يعنيه أي تراجع يظهرونه في العراق، وفي هذا الجوّ من القلق والإضطراب والخيارات المحدودة، يغامرون بفتح أبواب جهنم بأنفسهم على أمل أن تساعدهم القوى الإقليمية، العربية والإسلامية، في الحدّ من فترة تأججها الذي سيحرقهم بالتأكيد إن طالت.

يقول محللون أميركيون أنه ما زال هناك جدل كبير حول ما إذا كان استهداف عدد كبير من الأفراد المدنيين أسلوباً عملياً وفعالاً لإخضاع العراق، لكنهم مضوا قدماً في زجّ وحدات القناصة، ويأملون إعداد وحدات استخبارات عراقية تساندهم، إضافة إلى تواطؤ الدول المحيطة، وهم يعترفون في الوقت نفسه بمناعة الشعب العراقي. إنهم يتكهنون ويتخبطون ويرتجلون، أي أنهم ليسوا على يقين من جدوى ما يفعلو

Hosted by www.Geocities.ws

1