أزمة النظام العالمي في مؤتمر ميونيخ ؟

بقلم: نصر شمالي

ليس من الصعب بل من المستحيل فهم السياسات الدولية في وقائعها اليومية والمرحلية إذا لم ننطلق من الحقيقة التاريخية الكبرى المتعلقة بوحدة شبكة هذا النظام العالمي السائد منذ قرون، علماً أن النظام العالمي غير النظام الدولي، حيث الأول ثابت، ملازم للعصر  الأوروبي الأميركي، يجسد عقيدته التاريخية، ويستمر به ويضمحل باضمحلاله، أما الثاني (النظام الدولي) فهو متحرك، تتبدل فيه المواقع ومراكز القوى، والخرائط السياسية والجغرافية، وتتبّدل عاصمته الرئيسة وأساليبه السياسية، إنما من دون أن تتبدّل عقيدته التاريخية وطبيعة علاقاته الأممية والطبقية!

إن هذا النظام العالمي (وليس الدولي) يتكوّن من المراكز والأطراف، من الأثرياء والفقراء، وإن كل مكوّن من مكوّناته يشترط وجود المكوّن الآخر بالصورة التي هو عليها، بحيث يؤكد حضور كل مكوّن حضور الآخر، وبحيث ينفي غياب أي منها وجود الآخر، فإذا تأكّد الحضور بالصورة التي تجسّد هذه المكونات استمر هذا النظام العالمي، وإذا حدث الغياب، أي تبدّلت الصور وموازين القوى، انهارت عقيدة النظام العالمي وعلاقاته وبدأ بالاضمحلال، وقد حدث أن شكّل الاتحاد السوفييتي خطراً جدياً على هذا النظام الاحتكاري الربوي العالمي، وأشار إلى نظام عالمي بديل مختلف يفترض أن يحلّ محله، والنظام البديل صار مطلوباً اليوم بإلحاح أكثر من ذي قبل، على الرغم من فشل التجربة السوفييتية التي لابد وأن تتجدّد وتتكرّر متلافية النواقص ومستكملة شروط النصر، علماً أن قيادة التكرار المنتظر ليست وقفاً على بلد بعينه ولا على أمة بعينها!

تبدّل في اللهجة الأميركية!

قبل اجتياح العراق أعمت الأنانية وغطرسة القوة عيون أعضاء الإدارة الأميركية وقلوبهم، فأداروا ظهرهم لحقيقة وحدة شبكة النظام العالمي الذي يقودونه هم أنفسهم، واعتقدوا أنهم يستطيعون التصرف وحدهم وعلى هواهم، فتجاهلوا قيادات الفقراء تماماً، وأهملوا باحتقار قيادات حلفائهم الأثرياء، فما الذي ترتّب على ذلك؟ لقد تعرّض النظام العالمي لبلبلة خطيرة، وسرعان ما اضطربت الأهداف الأميركية المعلنة وخفتت، ثم وجد الأميركيون أنفسهم في مأزق حقيقي، وقبل أن يستكمل احتلال العراق عامه الثاني رأينا رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي يقف أمام مؤتمر ميونيخ الأطلسي (في 12/2) معتذراً عن حماقات إدارته، متراجعاً شخصياً عن إهاناته وإساءاته لحلفائه قبيل احتلال العراق، مؤكداً على الحقيقة التي أدار لها ظهره بقوله :" لا يمكن لأمة أن تقاتل الإرهاب وحدها"! أي أنه لا يمكن لأمة أن تحمي النظام العالمي وحدها. وقد تظاهر رامسفيلد بالتغريد ضمن السرب، فشرح لحلفائه بنبرة "نقد ذاتي" أن وحدة النظام العالمي لا تعني بالضرورة التماثل في التكتيكات ووجهات النظر طالما أن الحلفاء يلتزمون المثل ذاتها! أي طالما أنهم يدينون بالعقيدة التاريخية ذاتها.

لقد أعلن السناتور الديمقراطي جوزيف ليبرمان، المرشح لمنصب نائب الرئيس الأميركي، قائلاً :" عشنا عامين أو ثلاثة أعوام قاسية في علاقاتنا عبر الأطلسي، لكن ذلك انتهى وأصبح من الماضي"! أي أن الأزمة التي كادت تعصف بالنظام العالمي قد تبدّدت، بينما اعتبر الناطق باسم الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني أن سبب تبدّل اللهجة الأميركية هو واقع الحرب في العراق، واكتشاف الأميركيين استحالة المضي في هذه الحرب وحدهم! ثم أضاف مشدّداً أن الأميركيين ما زالوا على موقفهم نفسه في مجال تشكيل التحالفات! أما رئيس الجمعية البرلمانية لحلف شمال الأطلسي، الفرنسي بيار لولوش، فقال :" إن اللهجة الأميركية أصبحت أكثر نعومة، لكن رامسفيلد الجديد يطالب بحرية المناورة نفسها، التي أتاحت له بناء تحالفات خاصة وفقاً لكل مهمة، في حين أن حلف الأطلسي يعمل نظرياً على أساس قاعدة الإجماع"! أي أن رامسفيلد ليس مخلصاً ولا جاداً في تراجعه عن أخطائه، وأنه ما زال يغفل "أساس قاعدة الإجماع".

القول الفصل للبحرية الأميركية!

والحال أن النظام الربوي العالمي يعيش أزمة بنيوية، هيكلية، وقد بلغ بعد خمسة قرون تلك الذروة التي لا صعود بعدها، والتي لا يليها سوى البدء بالانحدار، وليست تصرفات رامسفيلد وأمثاله سوى انعكاساً موضوعياً لهذه الأزمة المستعصية التي لم تعد قابلة للعلاج، وهكذا فإن اللهجة الأميركية الناعمة، التراجعية، أمام مؤتمر ميونيخ الأطلسي، لا تعني امتناع الأميركيين عن توجيه الضربات الغامضة والمواربة لحلفائهم في هذه القارة أو تلك وفي هذا البلد أو ذاك، ولا تعني امتناعهم عن إسقاط نظام لا يريد حلفاؤهم إسقاطه، وعن اغتيال شخصية صديقة لحلفائهم أكثر مما هي صديقة لهم، إذا كان اغتيالها يعرقل محاولات النيل من تفرّدهم بالقرار واستئثارهم بالغنائم، أي أن الأميركيين، سواء وعوا أم لم يعوا، لا يستطيعون إلا أن يكونوا معولاً يهدم أركان هذا النظام العالمي الفاسد بدفعه نحو المزيد من مهاوي الفساد!

إن سياسة الإدارة الأميركية، في الخليج العربي مثلاً منذ أوائل السبعينات أي منذ حلّت محل بريطانيا، هي سياسة الردع السياسي والاستخباراتي والعسكري، وسياسة الحرب الاستباقية التي لا تسمح لأية دولة أخرى، عدوة أو صديقة أو حليفة، بمجرد التفكير في الحلول محلها أو معاملتها معاملة الندّ! أما حسم الموقف، عندما لا ينفع الكلام، فهو للأسطول الحربي الذي له الأولوية في السياسة الأميركية النفطية! وبالطبع، فإن هذا النهج يعكس أزمة النظام العالمي من جهة، ويعمقها ويزيدها استفحالاً من جهة ثانية.

النفط خط القتال الأول!

تستهلك الولايات المتحدة من النفط الخام حوالي 21 مليون برميل يومياً، منها حوالي 12 % تأتي من البلاد العربية، وبقدر ما تحرص بعض الدول العربية النفطية على الاحتفاظ بعلاقات قوية مع السوق الأميركية الضخمة، فإنها تحرص في الوقت نفسه على موازنة علاقاتها التجارية الدولية قدر الإمكان، باللجوء إلى نظام المناقصات التجارية بدلاً من الاتفاقات الثنائية، أي دعوة الآخرين مثل روسيا والصين والدول الأوروبية للاشتراك في المناقصات، الأمر الذي لا تستطيع واشنطن الاعتراض عليه، لكنها تستطيع قطع الطريق عليه، أو تقويضه إذا ما قطع شوطاً، بالتآمر لإسقاط الشخصيات الفاعلة والوسيطة، بل باغتيالها إذا لم يكن ثمة حلّ آخر، لأن السيطرة الأميركية على الطاقة ليست قضية تجارية فحسب بل سياسية أيضاً، وقد ظهر ذلك بوضوح تام في النصف الأول من عام 2003 أثناء اضطرابات فنزويلا، ثم أثناء اضطرابات نيجيريا، وأخيراً خلال الحرب ضدّ العراق، حيث السيطرة الأميركية على مصادر الطاقة وأسواقها كان الضمانة لخوض المعارك دون الخوف من مخاطر انهيارات كبرى، علماً أن الإدارة الأميركية احتلت العراق للسيطرة على نفطه والاعتماد عليه كبديل للنفط السعودي إذا ما تطلبت التطورات والضرورات مثل هذا البديل، حسب ما شرح الصهاينة في الإدارة الأميركية من أمثال ولفوفيتز نائب وزير الدفاع!

منذ عملية "عاصفة الصحراء" عام 1991، كان هناك تنسيق بين الإدارة الأميركية ووكالة الطاقة الأميركية وبعض دول الأوبك لتأمين ضخ كميات من النفط تعوّض أي نقص ممكن نتيجة للعمليات الحربية، وما كان ممكناً للعمليات الحربية أن تتواصل وتستمر لولا مثل هذا التنسيق في ميدان النفط، الذي هو خط القتال الأول، وبقدر ما تشكل هذه الميزة مظهر قوة آنية للإمبراطورية الأميركية فإنها تشكل مظهر ضعف للنظام العالمي الذي لا يمكن أن تحافظ عليه أمة لوحدها وبقوتها الخاصة، كما سمعنا من بعض المشاركين الكبار في مؤتمر ميونيخ.

www.snurl.com/375h

 

Hosted by www.Geocities.ws

1