ألغاز الإحتلال الداعي إلى إنهاء الإحتلال!

بقلم: نصر شمالي

في خطابه أمام مؤتمر ميونيخ الأطلسي قبل أيام، لم يترك الرئيس الأميركي بوش نصيحة تلقتها إدارته لتجنب حرب العراق إلا أوردها، ولا نقداً أو احتجاجاً أو استنكاراً تناول هذه الحرب، قبل نشوبها وأثنائه وإلى اليوم، إلا وضمنّه خطابه بصيغة المتفهم القابل للنقد! لكنه أكّد في الوقت نفسه على تمسكه بمنطلقات سياسته وبأهدافها في العراق وغير العراق، وكأنه يقول: ها أنا بكل روح ديمقراطية عرضت في خطابي كل ما أردتم قوله ولم استنكره، فتعالوا بالمقابل وقفوا إلى جانبي في ما أريد فعله، ولا تستنكروه!

إن ما استجد في خطاب الإدارة الأميركية القديمة/ الجديدة، والذي ردّدته كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الجديدة في جولتها الدولية الأخيرة، ومثلها فعل رامسفيلد وزير الدفاع، وأخيراً الرئيس شخصياً في زيارته إلى أوروبا، هو التوقف عن إعلان رفض ما يقوله الآخرون، والكفّ عن توجيه الإهانات لهم، أما ما عدا ذلك فكل شيء على حاله: قولوا ما تشاؤون بحريتكم الكاملة، وسوف لن أشجب أو أشتم، وأنا أفعل ما أشاء بحريتي الكاملة، وسوف تساعدونني!

تمييز الجدّ من الهذر!

على سبيل المثال، وبغض النظر عن مبررات وجود القوات السورية في لبنان، فقد جاملت الإدارة الأميركية ورئيسها الإدارة الفرنسية ورئيسها في الدعوة للإنسحاب الفوري، حيث الإدارة الأميركية هي أكثر من يعرف تعقيدات هذه المسألة التي نظمها مؤتمر الطائف بصعوبة بالغة، وقد أبدى الكثيرون من المتخصصين والناس العاديين دهشتهم أمام مثل هذه الدعوة الغريبة في أحد وجوهها تحديداً، وهو: كيف تدعو دولة تحتل العراق وتساند الاحتلال في فلسطين إلى خروج القوات السورية من لبنان، مع الاختلاف الجذري بين حالتها وحالة سورية؟! إن مثل هذه الدهشة لم تقتصر على الذين يؤيدون الحضور السوري في لبنان، بل تعدّتهم بداهة لتشمل من لا يؤيدون هذا الحضور، لأن الولايات المتحدة هي آخر من يحق لها منطقياً أن تدعو إلى ذلك على محمل الجدّ، وليس الهذر، باعتبارها تواصل التدخل الفظ في شؤون الدول الأخرى، من موسكو إلى القاهرة، متذرعة برغبتها في إشاعة العلاقات الديمقراطية، ضاربة المثل على ذلك بأفغانستان والعراق وفلسطين، وهي البلدان التي أجرت انتخاباتها الديمقراطية في ظل الاحتلال الأميركي والإسرائيلي المباشر!

نحو المزيد من التورط!

بل إن بعض الإسرائيليين لم يستطيعوا كتمان دهشتهم وسخريتهم، فقد كتب يوري افينيري، رئيس "حركة السلام الآن" الإسرائيلية، معلناً أن الرئيس الأميركي، داعية الديمقراطية والحرية، يهدّد البلدان الأخرى مستعدياً عليها "إسرائيل" فكأنما "إسرائيل" مجرّد كلب حراسة يطلقه بوش متى شاء على من يشاء! بل ذهب افينيري إلى أبعد من ذلك، حيث كشف عن مغزى استبدال رئيس الأركان الإسرائيلي الحالي الذي انتهت ولايته برئيس أركان جديد من سلاح الجو، فقال أن هذا الرئيس الجديد أسهم في تدمير المفاعل النووي العراقي، وأشرف على اغتيال الشيخ الشهيد أحمد ياسين بقصف من الجو، وأنه أول رئيس للأركان يأتي من القوات الجوية، الأمر الذي يعني نية الولايات المتحدة فتح جبهة جديدة ضد بلد آخر بوساطة القوات الجوية الإسرائيلية! ويرى أفينيري أن الاستعصاء الأميركي في العراق، والطريق المسدود الذي يواجهه الأميركيون في العراق بسبب المقاومة الفعالة، كان يجب أن يدفع الرئيس بوش إلى مراجعة سياسته، لكن العكس هو ما يحصل، فبسبب طبيعة الإدارة الحاكمة في واشنطن تندفع السياسة الأميركية نحو مزيد من التورط، في سورية ولبنان وإيران وغيرها!

لا علاقة للعرب ببلدانهم!

غير أن ما يجب علينا إدراكه هو أن هذه الظواهر الأميركية المدهشة لا تعكس واقعاً جديداً، بل تعبّر بطريقة مستجدّة عن واقع قديم. يقول هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي الأسبق ( حزيران/ يونيو 1975) في عرض له عن نتائج حرب 1973 ما يلي:" لقد سعينا إلى تفكيك الجبهة العربية المتحدة. وسعينا لضمان عدم تدخل الأوروبيين واليابانيين في الجهد الدبلوماسي. وسعينا إلى خلق وضع يمكّن "إسرائيل" من التعامل مع كل من جيرانها فرادى. وهكذا بدأت عملية الخطى الصغيرة"! بل ذهب كيسنجر منذ ذلك التاريخ إلى أبعد من ذلك حين قال أن الولايات المتحدة لن تسمح لأية جهة بالتدخل في شؤون المنطقة العربية، لا للأوروبيين ولا لليابانيين.. ولا للعرب! إن الأميركيين يعتبرون المنطقة العربية واقعة في مجال سيطرتهم وسيادتهم، ولا يحق حتى للعرب التدخل في شؤونها الاستراتيجية، وهذا ما يمكن أن يفسّر لنا اليوم مواقف الإدارة الأميركية التي تبدو متناقضة وغير منطقية، خاصة حين تدعو لخروج القوات السورية من لبنان بينما هي تحتل العراق! إن الاحتلال بهدف الدفاع عن مصالحها، وعن المنطقة التي تعتبرها ملكها، هو حق من حقوقها وحدها، وهو ليس من حق الآخرين بما فيهم العرب! ولكن يصبح من حق القوات المسلحة العربية، النظامية وغير النظامية، أن تقوم بمهمات حربية فقط حين تكون بإمرة هيئة الأركان الأميركية وتقوم بالمهمات القذرة في بلدانها نيابة عن القوات الأميركية، كما تفعل القوات الإسرائيلية!

سفارة القدس وسفارة بغداد!

لن يسمح الأميركيون للأوروبيين أو اليابانيين، ولا للروس أو الصينيين، ولا للعرب أيضاً، بالتدخل في الشؤون الاستراتيجية للمنطقة العربية التي يعتبرونها لهم وحدهم، وهذا يفسّر لنا غوامض الخطاب الذي ألقاه بوش في ميونيخ  حيث تضمن ذلك الخطاب تظاهراً بقبول كل ما قاله الآخرون من جهة، وإصراراً على المضي في السياسة الأميركية المتفردة، "الشرق أوسطية" والعالمية من جهة أخرى!

لقد وقف الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون في شرفة فندقه في القدس المحتلة، ودعا الذين حوله لرؤية قطعة الأرض التي سوف تنهض عليها السفارة الأميركية عام 1999، وهي ثلاثون ألف متر مربع من أرضنا المقدسة! لقد حدث ذلك على هامش قمة شرم الشيخ عام 1997، واليوم يتطلع الرئيس الحالي بوش إلى بناء سفارة أضخم على مساحة من الأرض أوسع في بغداد (عاصمة الرشيد الخالدة الذكر!) تضم آلافاً كثيرة من الموظفين الأميركيين، وتقوم إلى جانب شقيقتها الأصغر في القدس بمهمة إدارة "الشرق الأوسط الكبير"! أي أنه ليس ثمة فارق بين عهد كلينتون وعهد بوش في جوهر السياسة الأميركية، وليس ثمة جديد في المنطقة، التي يعتبرونها ملكاً لهم، سوى ظهور المقاومة العراقية التي لم يجرؤ أي أميركي حتى الآن على القول بإمكانية محدّدة لهزيمتها، وأيضاً المقاومة الفلسطينية التي لم تعد قابلة للاستئصال، والتي بلغت من المناعة الذاتية حداً يجعلها قادرة على الحياة والصمود، والكمون والظهور، ريثما تتبدّل الظروف والشروط العربية والدولية لصالح الحق والعدل.

www.snurl.com/375h

 

 

Hosted by www.Geocities.ws

1