قرنان منذ أول حرب أميركية ضدّ العرب !

بقلم: نصر شمالي

في عالم ظالم غابت عنه لغة المنطق الإنساني، وسادته لغة الحرب الهمجية وعمليات قتل المستضعفين ونهبهم وإخضاعهم لقوانين التمييز والاحتكار، ليس غريباً أن نسمع من الإدارة الأميركية مالا أذن سمعت وأن نرى من أفعالها مالا عين رأت ! إن الرئيس الأميركي الذي غضّ الطرف باستمرار عن قتل أطفال فلسطين وتشريد أهالي فلسطين بعد هدم بيوتهم وإتلاف حقولهم لم يتورع عن القول أنه لو كان زعيماً إسرائيلياً وسمع عبارات الكراهية التي تصدر عن الإيرانيين ضدّ الإسرائيليين لشعر بالقلق ! وهذا الكلام الغريب يصبح فظيعاً عندما ننتبه الى أنه جاء في معرض التمهيد لعمليات عدوانية ضدّ إيران بحجة برنامجها النووي الذي يشكل خطراً على الكيان الصهيوني، فهذا البرنامج، من وجهة نظر الإدارة الأميركية، يشكل تلقائياً خطراً على الأمن القومي الأميركي، وأيضاً على الأمن الإسرائيلي باعتباره جزءاً لا يتجزأ من الأميركي، أما القواعد النووية الإسرائيلية فينظر إليها باعتبارها عكس ذلك تماماً !

والحال أن الولايات المتحدة، التي تقدم نفسها شكلياً باعتبارها دولة من الدول، تتصرف عملياً باعتبارها المركز الإمبراطوري للعالم أجمع، وبالفعل فإن دستورها لا يتضمّن حدوداً لها ( مثل الكيان الصهيوني ) فهي تعتبر نفسها طليقة اليد في عالم تراه بمجمله مجالاً حيوياً لمصالحها، فكيف نفهم مقولة الأمن القومي الأميركي، ومقولة الأمن الإسرائيلي، إذا كان الحال كذلك، وهو فعلاً كذلك !

غير أن المعضلة تصبح أشد تعقيداً عندما ينظر الضحايا الى الولايات المتحدة ويتعاملون معها باعتبارها دولة عادية، مثلها مثل أية دولة أخرى، الأمر الذي يعني عذاباً بشرياً مفتوحاً لا نهاية له، اللهم إلا إذا أعاد الضحايا النظر في زاوية رؤيتهم وطرق تعاملهم مع هذه " الدولة " باعتبارها ليست كذلك ! وأغرب ما في الأمر أن الإدارات الأميركية المتوالية لا تحرص كثيراً على إخفاء حقيقة " دولتها "، ففي خمسينات القرن الماضي، أثناء مؤامرة ستون الأميركية ضدّ سوريا، سأل أحد القادة السوريين أحد القادة الأميركيين: لماذا تتآمرون ضدنا وبين حدودنا وحدودكم قارات ومحيطات ؟ أجاب الأميركي: إن حدودنا تكون حيث تكون مصالحنا ! وهذا يعني أن لا أمن قومي للأمم جميعها، ولا حدود جغرافية أو سياسية أو اقتصادية للأمن القومي الأميركي !

أسباب الحرب ضدّ الصين !

إن تقدير الإدارات الأميركية لأهمية منطقة ما من مناطق العالم لا تأخذ بالحسبان مصالح ومصائر الشعوب التي تعيش في تلك المنطقة، بل مصالح شركاتها فحسب، ففي منتصف القرن التاسع عشر، قي عام 1842، أعلن الرئيس الأميركي جون كوينسي آدامز: " إن الالتزام الأدبي بإجراء مبادلات تجارية بين الأمم يرتكز كلياً، وبصورة حصرية، على التعاليم المسيحية ( يقصد اللوثرية طبعاً ) لكن الصين، وهي أمة ليست مسيحية، نظامها شرس ومعاد للمجتمع، والمبدأ الأساسي للإمبراطورية الصينية مبدأ معاد للتجارة، فهو لا يعترف بوجوب إجراء مبادلات تجارية مع بلدان أخرى، وقد حان الوقت لوضع حدّ لهذا التعدي الفظيع على حقوق الطبيعة البشرية وعلى المبدأ الأساسي لحق الأمم !

وهكذا، منذ ذلك التاريخ القديم، اعتبرت الصين شرسة ومعادية للمجتمع ولحقوق الطبيعة البشرية لأنها " لا تعترف بوجوب إجراء مبادلات تجارية مع بلدان أخرى "، فما هي تلك المبادلات التجارية التي أرادتها واشنطن ورفضتها بكين، واستوجبت إعلان الحرب على الصين ؟ الجواب: إنها تجارة الأفيون !

لقد ظهرت السفن التجارية والحربية الأميركية في منطقتنا العربية أواخر القرن الثامن عشر، في نطاق مزاحمة بريطانيا على احتكارها لتجارة الأفيون في الصين. لقد كان الأفيون الذي يحمله الإنكليز من بعض مرافئ البحر المتوسط وينقلونه الى الصين، ويجنون من ورائه ثروات خرافية، هو الذي أثار اهتمام الأميركيين في المقام الأول وجاء بهم الى بلادنا العربية !

كان الأثرياء الأميركيون قد استكملوا قبل سنوات قليلة بناء " دولة " تتفق مع طرائقهم في جمع ثرواتهم، وتخدم بلا تردد مثل هذه الطرائق غير الشرعية، فانطلقوا يشترون الأفيون من بعض مرافئ المتوسط وينقلونه بسفنهم عبر المحيط الأطلسي، فرأس الرجاء الصالح، فالمحيط الهندي وبحر الصين الجنوبي، الى كانتون ومرافئ الصين الأخرى! لقد كانوا يشحنون سنوياً من 4 الى 5 أطنان من الأفيون يسمّمون بها ملايين الصينيين، ويحققون ما يفوق 500% من العائدات، أي مئات ملايين الدولارات بالمعايير المالية لذلك الزمن ! وبالطبع، كانت السلطات الصينية تحاول التصدي لأساطيل الأفيون الإنكليزية والأميركية، فكان الاحتجاج شديد اللهجة الذي سمعناه من الرئيس الأميركي، ثم كانت " حرب الأفيون " الشهيرة التي شنوها ضدّ الصين !

تجار الأفيون زمرة بوسطن !

كانت الموانئ العربية المغاربية هي التي دفعت أثماناً باهظة لإرغامها على تقديم الخدمات لتجارة الأفيون مع الصين، فهي كانت تستقبل السفن التجارية الأميركية، وتقدم لها الخدمات المعتادة، وتتقاضى الرسوم المتعارف عليها دولياً، لكن تجار السموم الأميركيين أرادوا التملص من دفع تلك الرسوم، فاستعانوا بدولتهم وبأسطولها الحربي، وبالفعل عقدت الحكومة الأميركية معاهدة مع حاكم مراكش عام 1786 تعهّد بموجبها إعفاء التجار الأميركيين من دفع رسوم الترانزيت لقاء عشرة آلاف دولار مقطوعة يتقاضاها سنوياً ! وفي عام 1796 وقّعت معاهدة مماثلة مع حاكم طرابلس الغرب، وفي عام 1797 مع حاكم تونس، وهكذا كانت الإدارة الحكومية الأميركية تدفع نيابة عن تجار السموم، من أموال المستوطنين الأميركيين دافعي الضرائب !

لقد شكل تجار الأفيون الأميركيون كتلة قوية متراصة عرفت باسم " شركاء بوسطن "، فكانوا يؤثرون في انتخاب الشيوخ وفي تعيين الوزراء، بل إن أحدهم، المدعو كراونينشيلد، صار وزيراً للأسطول البحري تحديداً، وكانت تلك الزمرة تدفع الرشاوى بانتظام للشيوخ والوزراء والرؤساء !

أول حرب ضدّ العرب !

في مطلع القرن التاسع عشر طالب حكام الدول العربية المغاربية بتغيير المعاهدات القديمة المجحفة وبوقف تعسّف البحارة الأميركيين، وبزيادة المدفوعات الى الحد الطبيعي، وإذا بالإدارة الأميركية تسلك على الفور طريق العدوان العسكري، فترسل عمارتين حربيتين الى المنطقة متذرعة بالتصدي للقراصنة، مثلما تتذرع اليوم بالتصدي للإرهاب ! وكان معروفاً أن ذلك التحرك الحربي تم تحت ضغط زمرة تجار الأفيون، مثلما معروف اليوم أن العمليات الحربية تتم تحت ضغط زمرة تجار النفط !

وبالفعل، في السنوات 1801 – 1805 ، شن الأميركيون الحرب ضدّ ليبيا أولاً، فحاصر الأسطول طرابلس، بينما انطلق الدبلوماسيان الأميركيان، القنصل إيتون في تونس والقنصل كارتكارت في طرابلس، يعدّان بنشاط محموم انقلاباً ضدّ حكومة ليبيا مترافقاً مع تدخّل عسكري بحري. وكان ذلك يتم بمعرفة وإشراف الرئيس جيفرسون، وبتعليمات وزير الحربية بيكيرينغ صنيعة تجار الأفيون زمرة بوسطن !

لقد اتصل الدبلوماسيان الأميركيان بأفراد من المعارضة الليبية المتواجدين في مصر، ووقعا معهم اتفاقية تعهدت واشنطن بموجبها تقديم الدعم العسكري والمالي لإيصال المعارضين الى الحكم في طرابلس، وتعهدت المعارضة بتوفير وضع متميز للتجار الأميركيين في ليبيا وبإبعاد التجار الأوروبيين المزاحمين ! تماماً كما يحدث اليوم في منطقتنا ! كذلك اتفق على تعيين القنصل الأميركي في تونس قائداً أعلى للقوات المسلحة الليبية تحت حكم المعارضة!

المجرم يسمى قاهر أفريقيا !

في رسالة الى وزير البحرية الأميركية، تاريخها 13/2/1805 ، قال القنصل إيتون أنه يعتزم الاستيلاء على المناطق الشرقية من ليبيا، ثم قيادة جيش المعارضة المكون من شتى صنوف المغامرين والمرتزقة، ومهاجمة طرابلس، على أن تتكفل مدفعية الأسطول ومشاة البحرية بدعم الهجوم ! وقد بدأ تنفيذ الخطة بالفعل، فتقدم جيش المعارضة بقيادة إيتون يواكبه مشاة البحرية وتدعمه نيران مدفعية الأسطول، فاستولى على إحدى المدن، ورفع على سارية قلعتها العلم..الأميركي ! وهنا بادر حاكم طرابلس ووقّع مع القنصل معاهدة لبّت جميع مطالب تجار الأفيون، وتوقفت بذلك مؤقتاً أول حرب أميركية ضدّ البلاد العربية !

وتجدر الإشارة هنا الى أن تلك الحرب الأميركية الأولى ضدّ بلد عربي سجّلت وخلّدت في الأبيات الأولى من نشيد مشاة البحرية: " من تلال هوتيسوما الى سواحل طرابلس/في السماء وفي الأرض وفي البحر/خضنا معارك الوطن " ! لقد أقنعوا جنودهم أنهم يخوضون معارك الوطن بينما هم يخوضون في حقيقة الأمر حرب تجار الأفيون، حرب المغامرين واللصوص والقتلة المتخفين وراء صفات رسمية، مثلما يخوضون اليوم حرب نهب النفط باسم الوطن ودفاعاً عن الأمن القومي الأميركي !

كما تجدر الإشارة هنا الى مسألة أخرى تتعلق بذلك الدبلوماسي الأميركي إيتون، فهو قاد بنفسه عملاً مسلحاً ضخماً لا يدخل في نطاق عمله كدبلوماسي ضدّ بلد أجنبي، بل وجعل من نفسه قائداً أعلى للقوات المسلحة في ذلك البلد، وبدلاً من توبيخه وتنديد رؤسائه بأفعاله الإجرامية جرى تكريمه وتمجيده بصفته: " قاهر أفريقيا " ! لقد منحوه هذا اللقب، وأهدته سلطات ولاية ماساشوسيتس قطعة من الأرض مساحتها عشرة آلاف أكر !

مهاجمة تونس ومراكش والجزائر !

غير أن العمليات الحربية لم تقتصر على ليبيا، بل دفع الأميركيون بسفنهم الى ميناء طنجة، وبدأ حصار لا سابق له في زمن السلم، شمل الجزء الشمالي/الشرقي من ساحل الأطلسي والجزء الجنوبي/الغربي من ساحل المتوسط، وفي تشرين الأول/أكتوبر 1804 وجّه قائد الأسطول الأميركي رسالة مقتضبة الى الحاكم المراكشي تتضمن سؤالاً واحداً: " هل يرغب السلطان بالسلام أم بالحرب؟ " فاضطر الحاكم الى التوقيع على معاهدة مماثلة للليبية !

وبعد ذلك توجّه الأميركيون الى تونس يستفزون حاكمها الذي اضطر الى طرد دبلوماسي أميركي، فكان ذلك كافياً ليبدأ قصف تونس من البحر دون سابق إنذار، ثم أرسلوا الى الحاكم مشروع تعهّد يحتوي على كل التسهيلات التي يريدونها لسفنهم وتجارهم، وأنذروه أن التوقيع على الوثيقة في الحال هو وحده الذي ينقذ عاصمته من الدمار الشامل، فتمّ التوقيع على تلك المعاهدة !

وبينما الأميركيون يهمون بالتوجه الى الجزائر نشبت الحرب الثانية بينهم وبين الإنكليز ( 1812-1814 ) وجعلتهم يؤجلون الهجوم على الجزائر، لكنهم عادوا الى خطتهم عام 1815 ، أي فور توقيع معاهدة الصلح مع لندن، فاتجهت سفينتان حربيتان الى سواحل الجزائر ( بحجة مطاردة القراصنة كالعادة ) رافعة أعلاماً بريطانية لتضليل الجزائريين، فنجحت الخدعة ودمر الأسطول الجزائري، ثم راحت المدافع الأميركية تقصف مدينة الجزائر قصفاً ماحقاً، بينما أرسل الى حاكمها إنذار بتوقيع معاهدة من الطراز إياه، لكن الجزائر صمدت حتى عام 1816 ، فاستدعيت سفن إضافية مسلحة بمدافع بعيدة المدى، فطلب حاكم الجزائر وثيقة أميركية تفيد أنه اضطر لقبول الاتفاقية تحت قصف المدافع، فأعطاه المبعوث الأميركي شيلر ما أراد، وأبرمت الاتفاقية الرابعة في 23/11/1816 !

نواة الأسطول السادس الأميركي !

كانت نجاحات تجار الأفيون زمرة بوسطن في استخدام السفن الحربية ضدّ البلاد العربية المغاربية هي السبب الرئيس الذي جعل واشنطن تتخذ قرارها، عام 1820 ، بتشكيل أسطول حربي دائم الحضور في البحر الأبيض المتوسط، فأرغمت إسبانيا على تخصيص مرفأ ماون في جزر الباليار كقاعدة أميركية دائمة، وشكّل ذلك الأسطول نواة الأسطول السادس الأميركي المعاصر ! أما زمرة بوسطن من تجار الأفيون فقد كانوا، من دون أدنى شك أو ريب، نواة الديكتاتورية الأميركية العالمية الحالية، التي لا تعترف بالحدود الوطنية للدول الأخرى ولا بالأمن القومي للأمم الأخرى، والتي تعطي نفسها الحق اليوم بتجويع وتعذيب أربعة أخماس البشرية، تحاصرها وتذلها وتنهبها وتبيدها، خاصة الأمة العربية، وعلى الأخص شعب فلسطين المحاصر منذ قرن، والموضوع تحت مطرقة الإبادة، ناهيكم عن العراق والسودان وغيرهما، فهل يعقل أن تستمر أوضاع العالم على ما هي عليه، يتحكم بها أحفاد تجار الأفيون ؟!

www.snurl.com/375h

Hosted by www.Geocities.ws

1