العجز المنطقي والحرب الاستباقية !

 

بقلم: نصر شمالي

قبل أيام كتب أحد القراء الأميركيين إلى صحيفة "واشنطن بوست" يقول: شأن معظم الأميركيين أريد أن أصدق أن الحرب ضدّ العراق ضرورية على الرغم من أن جميع مبرراتها غير صحيحة. أريد أن أصدق أننا محررون لا محتلون، طيبون وليس أشراراً، وأن هناك سبيلاً للخروج من هذه المحنة. لقد قرأت أن جيشنا المحتل يستخدم أساليب الجيش الإسرائيلي، إحراق البيوت وتطويق قرى بكاملها بالأسلاك الشائكة واحتجاز أسر المتمردين، وأنا أشعر بالعار لأنني أبقى هادئاً. قال أحد عقدائنا لصحيفة "نيويورك تايمز": بجرعة قوية من الخوف والعنف والكثير من المال للمشاريع أعتقد أننا نستطيع إقناع هؤلاء الناس أننا هنا لمساعدتهم! ذلك العقيد هو ممثلنا في العراق. إنه الأميركي القبيح وهكذا نحن! هل أسلوب "إسرائيل" تجاه الفلسطينيين هو حقاً النموذج الذي كان في ذهننا نحن الأميركيين عندما سعينا لاحتلال العراق؟ إن جيشنا يختار نموذجاً من الواضح أنه أخفق في "إسرائيل". لا أستطيع تصوّر مكان أسوا نتوجه إليه لاستخلاص الدروس، حيث يحتاج المواطن الإسرائيلي العادي إلى شجاعة الجندي كي يصعد فقط إلى حافلة ركاب!

الحرب الاستباقية فكرة الديمقراطيين !

إن ما يتحدث عنه المواطن الأميركي هو سياسة الحرب الاستباقية التي تطبق ضدّ العراق بأساليب إسرائيلية. إنها الحرب التي تشن ضدّ كل من لا ينصاع بالكامل للإدارة الأميركية، وإن نزعة تنموية مستقلة فحسب هي عدم انصياع يستوجب الحرب من وجهة نظر الأميركيين!

لقد انطلق هذا الإتجاه الحربي، اللاعقلاني واللامنطقي واللاأخلاقي، قبل ثلاثين عاماً ونيّف، حين انكشف لأول مرة تحوّل الولايات المتحدة من دولة دائنة إلى مديونة ومن مصدّرة إلى مستوردة، حيث بادر الديمقراطي ديفيد روكفلر، صاحب بنك تشيس مانهاتن، ودعا إلى تشكيل ما سمّي باللجنة الثلاثية، نسبة إلى الأقاليم الثلاثة أميركا وأوروبا واليابان، وهي لجنة غير رسمية تكوّنت من أصحاب المال والأعمال والإعلام وأخذت على عاتقها إعادة تشكيل العالم لصالح الاحتكار الربوي الأميركي بالدرجة الأولى، ولو على حساب الحلفاء والأصدقاء، ووضعت لتحقيق هذا الهدف أسس الحرب الاستباقية!

لقد لخص الديمقراطي زبيغنيو بريجنسكي، فيلسوف اللجنة الثلاثية ومديرها، الإتجاه الأميركي الجديد على النحو التالي: إن العالم يتحوّل بسرعة إلى مدينة واحدة، وتركيبة سكان العالم تشبه تركيبة سكان مدينة أميركية كبيرة، أغنياء وفقراء وأخيار وأشرار. إن كل دولة سوف تكون مثل حيّ أو حارة أو ضاحية، فبعض الدول أحياء فخمة، وبعضها حارات فقيرة، والبعض الآخر عشوائي مثل حارات الصفيح والخيش في الضواحي! لقد شرح بريجنسكي بإسهاب كيف أن العالم هو كذلك دائماً، وأن الأميركيين سوف يديرونه كمدينة عالمية على أساس أنه لا يمكن أن يكون إلا كذلك، فمهمتهم ضمان أمن الأرستقراطية العالمية وحماية الملكية الفردية والمصارف والشركات، أما أسلوبهم فهو الحرب الاستباقية المفتوحة التي تشنّ ضدّ الدول/ الحارات، مثلما يفعل البوليس الأميركي من حين لآخر للحدّ من جنوح العصابات، فاستئصال الجريمة جذرياً مستحيل، ومهمة الغارات أو الحرب الاستباقية هي مأسسة الجريمة، وتحويلها من فوضوية إلى منظمة، وجعلها مقبولة ومندمجة عضوياً في البنية الإجمالية للمدينة العالمية!

الجمهوريون يطبقون الاستراتيجية الديمقراطية !

ليس الفارق بين الحزب الجمهوري والديمقراطي سوى الفارق بين الليكود والمعراخ، وهكذا فإن الجمهوريين عندما جاؤوا إلى الحكم واصلوا تنفيذ المهمة التي بدأها الديمقراطيون مع اختلاف في لغة الخطاب فقط، فقد استخدم الديمقراطيون لغة علمانية بينما استخدم الجمهوريون لغة توراتية!

لقد راح الرئيس الجمهوري رونالد ريغان يتحدث علناً، منذ عام 1981، عن حرب عالمية لابد من خوضها كتمهيد لمجيء السيد المسيح، وكبداية للألف عام السعيدة التي تخصه هو و أمثاله، فكان يقول أن المسرح الأول للحرب المقدسة القادمة هو الشرق الأوسط، حيث "إسرائيل" هي الديمقراطية الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها في بقعة من العالم قد تشهد مأساة هرمجدون! لقد كان يقصد بهرمجدون التوراتية بلدة مجدّو الفلسطينية، على الطريق بين جنين وحيفا!

إن الرئيس بوش يستخدم اليوم في خطاباته لغة هي خليط من العلمانية والتوراتية، والخطاب الأميركي بوجهيه ليس سوى عملية خداع للبسطاء والسذج، من الأميركيين بالدرجة الأولى، حيث يعزف الديمقراطيون على وتر المنافع المادية والجمهوريون على وتر الخرافات التوراتية المتأصلة على نطاق واسع، والغرض في الحالتين هو توفير الوقود البشري للحرب!

الحرب الاستباقية مغامرة مجنونة !

إن بريجنسكي، الذي أصبح مستشاراً للأمن القومي في عهد الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر، كان قد نبه في شروحاته إلى صعوبة التغلب على الروح الوطنية والقومية عند الشعوب الأخرى، علماً أن استئصال هذه الروح شرط لقيام المدينة العالمية، وهو أوصى بالمثابرة والتقدم بواسطة الحرب الاستباقية!

لقد تعاقب على سدّة الرئاسة، منذ ولادة فكرة الحرب الاستباقية والمدينة العالمية عام 1969، سبعة رؤساء، ديمقراطيان اثنان وخمسة جمهوريين، من دون أن يظهر أي منهم ولو ميلاً لإعادة النظر بالفكرة المجنونة المستحيلة، فتوالت الزيادات الفلكية في الإنفاق العسكري الأميركي، من عهد إلى آخر، على أمل استردادها بسرعة من ثروات الشعوب المقهورة وفوقها الأتاوات والأرباح الفاحشة!

غير أن هذا يحدث اليوم في عالم منهك صحت أممه ووعت خطورة ما يجري على مصيرها بمجمله، فبينما يهلك كل عام عشرات الملايين من البشر بسبب الفاقة تصرف واشنطن على تدريب جنودها ما يعادل ضعف ميزانية التربية والتعليم لأكثر من نصف مليون طفل في جنوب آسيا فقط! إن ثمن غواصة أميركية نووية واحدة يعادل تكلفة الدوام المدرسي لستة عشر مليون طفل على مدى عام كامل في البلدان الفقيرة! إن الحرب الاستباقية تشنّ ضدّ هؤلاء الأطفال لحرمانهم حتى من الكفاف. إنها حرب مجنونة يشنونها ضدّ مليارات البشر، بل ضدّ العالم أجمع، ولذلك فإنها محكومة بالفشل.

Hosted by www.Geocities.ws

1