المعاني المقلوبة لاستراتيجية الحرب الاستباقية !

بقلم: نصر شمالي

يعني اللجوء إلى الحرب الاستباقية من قبل دولة ما أن هناك خطراً يهدّد أمنها القومي ويتوجب عليها إحباطه قبل أن يستكمل جاهزيته وينطلق ضدها، والخطر على الأمن القومي لدولة ما يكون حقيقياً عندما تضع يدها على ما يؤكد نوايا مبيتة من قبل جهة ما لاحتلال أراضيها، ولإسقاط نظامها الوطني، أو لمحاصرتها وحرمانها من حق التبادل مع الأمم الأخرى وجعلها بالتالي في حكم السجين، أو لتدمير بنيتها الوطنية التحتية وأساطيلها التجارية بالقنابل، أو لاقتطاع جزء من أراضيها وطرد سكانه وتحويله إلى قاعدة عدوانية ضدّها .. الخ، لكن الإدارة الأميركية، التي تعتمد اليوم استراتيجية الحرب الاستباقية الرادعة ضدّ معظم أمم الأرض، خاصة ضدّ الأمة العربية، لا تواجه أياً من هذه الأخطار، فليس هناك على الإطلاق من ينوي احتلال بلادها وإسقاط نظامها، ولا من ينوي محاصرتها وسجنها، ولا من ينوي تدمير قطاعاتها الإنتاجية، فإذا قال أحد أن عملية أيلول/ سبتمبر 2001 كانت تهديداً لأمن الولايات المتحدة القومي، وأن الإدارة الأميركية اعتمدت استراتيجية الحرب الاستباقية بسبب تلك العملية وبعدها، فإننا لن نجادله حول ما إذا كانت تلك العملية بالفعل تهديداً حقيقياً للأمن القومي الأميركي، ولن ننهمك في عرض التفاصيل المعقدة التي أنتجت مثل تلك العملية المروّعة وفي عرض مسؤولية الأميركيين في إنتاجها، بل سنكتفي بالقول أن واشنطن مارست طوال تاريخها استراتيجية الحرب الاستباقية ضدّ البلدان الأخرى، سواء بالوسائل السياسية والاستخباراتية أم بالوسائل العسكرية، وخاصة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية انفرادها بقيادة النظام الاحتكاري العالمي.

السياسة النفطية هي المارينز!

والحال أن الحرب الاستباقية يمكن أن تكون مفهومة، وضرورية ومبرّرة، لو لجأت إليها شعوب أسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية منذ ما قبل مائتي عام وحتى يومنا هذا، فهذه الشعوب، على مدى القرنين الماضيين، كانت على الدوام تتعرض لعمليات الإبادة والاستعمار والاستعباد الأميركي، غير أن شعب الفيليبين لم يفكر أبداً في اعتماد استراتيجية الحرب الاستباقية ضدّ الولايات المتحدة على الرغم من تعرضه للعمليات الإبادية والاستعبادية الأميركية! والشعب الفلسطيني لم يفكر بذلك أيضاً على الرغم من أن الولايات المتحدة باشرت محاولاتها لإنشاء المستعمرات الاستيطانية الاستئصالية في فلسطين منذ أربعينات القرن التاسع عشر! والأفارقة عموماً لم يفكروا على هذا النحو على الرغم من إبادة عشرات الملايين منهم لصالح نهوض الولايات المتحدة بالصورة التي هي عليها!

ولماذا نذهب بعيداً فنعرض أمثلة قديمة، من الفليبين أو فلسطين ومن أفريقيا أو فيتنام، ولا نأخذ مثالاً من أواخر تسعينات القرن العشرين الماضي، حين كان العراق تحت الحصار المميت المحكم منذ ما يقارب عشر سنوات؟ ففي ذلك التاريخ سئل وزير أميركي عن سياسة الولايات المتحدة النفطية، وعن أولوياتها في هذا الميدان، فأجاب:" إنها البحرية الأميركية"! يقصد قوات المارينز مشاة البحرية! أي الحرب، والحرب الاستباقية! وهكذا فإن الحرب الاستباقية ليست دفاعاً عن أمن الولايات المتحدة القومي بل تهديداً لأمن الآخرين القومي، وهي لم تعتمد بعد أيلول/ سبتمبر 2001، بل كانت استراتيجية قائمة ومعمول بها منذ قامت الولايات المتحدة، وما زالت!

الأسطول هو الشرطي القضائي!

غير أن استراتيجية الحرب الاستباقية المفتوحة على اللانهاية، التي تقوم على احتمالات ما سوف تفعله الأجنّة بعد أن تغادر بطون أمهاتها، ليست من اختراع الولايات المتحدة ولم تبدأ بها، بل هي من السياسات الثابتة لقادة هذا العصر الأوروبي الأميركي ونظامه العنصري الاحتكاري العالمي، فقد كانت بريطانيا سباقة، منذ القرن السابع عشر، في ميدان الانطلاق إلى بلدان بعيدة وتدميرها ونهبها واستعباد شعوبها، وهي لم تعد تكتفي بذلك منذ أواسط القرن التاسع عشر، بل صارت سباقة أيضاً في ميدان تجنيد ضحاياها ضدّ أنفسهم لخدمة مشاريعها الاستعمارية، فخاضت معظم حروبها في آسيا وأفريقيا بجنود محليين من بلدان هاتين القارتين ساقتهم إلى ميادين القتال كالعبيد! وكانت الأساطيل البريطانية تجوب البحار والمحيطات لاعبة دور الشرطي القضائي الذي يرغم الدول على بيع منتوجاتها الخام لبريطانيا بالشروط البريطانية، وعلى سداد الديون مع فوائدها الباهظة للإنكليز تحت طائلة التدمير الشامل لبلدان المديونين، وهاهو الوزير الأميركي يجيب، في أواخر التسعينات قبل أحداث أيلول/ سبتمبر 2001، أن سياسة حكومته النفطية هي: "البحرية الأميركية"!

الدعاية الأميركية تقلب المعاني!

إنه لمن المستغرب، بل من المريب، أن تتركز الاتهامات ضدّ الشعوب المعذبة بسبب ردود فعل بعض أبنائها المهمّشين، مهما كانت مروّعة، وأن يجري تجاهل السياسات الفظيعة التي تمارس ضدّ هذه الشعوب منذ قرون، فقد وضعت إحدى الدول العربية النفطية في قفص الاتهام لأن عدداً من أبنائها ظهرت أسماؤهم أكثر من غيرها في أحداث أيلول/ سبتمبر 2001، علماً أن السياسة النفطية الأميركية في البلاد العربية (حسب دراسة جديدة أعدّها الأستاذ وليد خدّوري) يحدّدها عاملان أساسيان: الأول، هو الاعتماد على القوات العسكرية في تأمين إمدادات النفط العربي، وعدم السماح لأية دولة أخرى، إقليمية أو دولية، بتشكيل خطر على تدفق النفط من الخليج العربي بالشروط الأميركية، وهذا ما أدى لاحتلال العراق! والعامل الثاني هو عدم السماح لأية دولة أخرى، حتى لو كانت حليفة أو صديقة، بالتفكير بالحلول محل الولايات المتحدة في لعب هذا الدور الاستراتيجي!

إن هذه السياسة النفطية الأميركية، الحربية الاستباقية الردعية، تمارس صراحة وعلناً منذ إبعاد البريطانيين عن الخليج العربي في أوائل السبعينات من القرن الماضي، وإن هدف هذه السياسة لم يقتصر في أي يوم على مجرّد استبعاد الآخرين والتفرّد، بل تركز بصورة رئيسة على ضعضعة الأوضاع العربية بصورة دائمة، وعلى إسقاط الأنظمة التي ترى واشنطن احتمال أن تشكل خطراً على هيمنتها لمجرّد نزعتها الاستقلالية!

إن الإدارة الأميركية تمارس سياسة قلب المعاني في خطاباتها الدعائية الإعلامية، فهي تزعم أنها تعتمد استراتيجية الحرب الاستباقية دفاعاً عن أمنها القومي، بينما هي تشنّ الحرب ضدّ الذين من حقهم شرعاً وقانوناً أن يفعلوا ذلك في مواجهتها، حيث هي من يهدّد أمنهم القومي، بل وجودهم من أساسه! وبحجة مكافحة الإرهاب نراها تشن حرباً عالمية ضدّ جميع البلدان والمنظمات والمؤسسات، بعد أن أعطت نفسها لوحدها حق تصنيفها بأنها تشكل خطراً محتملاً على أمنها القومي، وخصوصاً البلدان والمنظمات والمؤسسات العربية، وهذا بمجمله يذكرنا بالإمبراطورية الرومانية في مرحلة اضمحلالها، قبل انهيارها النهائي، حين أصبحت عبئاً مميتاً تنوء بحمله البشرية جمعاء!

www.snurl.com/375h

 

Hosted by www.Geocities.ws

1