أيّ تقاطع بين مصالح العراق والاحتلال ؟!

بقلم: نصر شمالي

يخطئ كثيراً جداً أولئك الذين يراهنون من أجل خلاصهم وتقدمهم على الخصائص "الحضارية" والتقاليد الديمقراطية لأنظمة بلدان الشمال الثرية، فالتاريخ يعلمنا أن الأوساط الحاكمة في تلك البلدان لم تتورع أبداً عن إدارة ظهرها لمبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان التي تدعي عشقها، وعن التصدي لشعوبها بمنتهى القسوة عندما أحست أن مصالحها الخاصة يمكن أن تتعرض للخطر، وقد تكرر ذلك في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وألمانيا وغيرها حتى الأمس القريب، وهو ما زال قابلاً للتكرار في أية لحظة، خاصة في حالة نجاح الشعوب الأخرى في وضع حدّ لعمليات السلب والنهب والاستعباد والقتل التي تمارسها هذه الأوساط خارج حدود بلدانها.

إن بعضنا يتمادى في رهانه على ديمقراطية النظام الأميركي، ويزعم أن الأوساط الأميركية الحاكمة مقيّدة بها تماماً، وأنها لا تستطيع تجاوز حدّ معين في تعاملها السلبي مع شعب العراق مثلاً، ويرى أن مصالح العراق تقاطعت مع مصالح الديمقراطية الأميركية وأنه مهما حدث فإن الشعب العراقي سوف يخرج بفضل الاحتلال رابحاً، حيث التقاطع سوف يدمجه لصالحه في اللعبة الديمقراطية الأميركية، إنما في حال نجاته من عدوان الإرهابيين المتخلّفين الذين يمارسون العنف والتخريب، فهل هذا معقول؟!

إنهم يندّدون بالعنف المسلح في فلسطين والعراق، ويتصيّدون بعض الإرتكابات التفصيلية التي لا مفر من وقوعها، ويبنون عليها مواقف معادية للمقاومة المشروعة الواجبة، التي يرون فيها إضاعة لفرصة التقاطع النادرة بين مصالح الشعب العراقي/ الفلسطيني وبين ديمقراطية الأميركيين والإنكليز، وإن في هذا كله، إذا أحسنّا الظن، سذاجة وسطحية لا حدود لهما!

نظام يقوم على الحرب !

والحال أن النظام الأوروبي/ الأميركي، الاحتكاري الربوي، ينهض منذ تأسس قبل خمسة قرون على العمليات العسكرية الحربية المفتوحة، فبالإضافة إلى الوظائف الأمنية، الدفاعية والهجومية، تشكل هذه العمليات العسكرية فرعاً رئيساً من فروع نشاطه الاقتصادي الصناعي والتجاري! صحيح أن الحروب العسكرية تخللت حياة الأمم عبر جميع العصور، لكنها لم تكن أبداً قاعدة أكثر من كونها استثناء كما هو حالها في هذا العصر الأوروبي/ الأميركي، فنظام هذا العصر يقوم أساساً على اقتناص الفرائس، وإن مطالبته بالتوقف عن شنّ الحروب تعادل مطالبة الذئاب بالكفّ عن مهاجمة القطعان! إن إيقاف هذه الحروب المفتوحة على جميع الجهات لا يمكن أن يتحقق بالحوارات الفكرية والمعايير الأخلاقية والإجراءات السلمية! إن المفاوضات ممكنة فقط عندما تكون مدعومة بالقوة المسلحة، واللجوء إلى المفاوضات من دون قوة ميدانية مسلحة أثبتت وجودها، أو بعد تفكيك مثل هذه القوة مقابل الدخول في مفاوضات، هو الانتحار بعينه!

كذلك، فإن ما يتوجب علينا إدراكه هو أن ازدهار الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في البلدان الاستعمارية تحقق دائماً بفضل المستعمرات التي كانت ترسل إليها فيضاً من الثروات كافياً لقطع الطريق على أية معارضات داخلية خطرة، وقد حدث في الحرب العالمية الأولى أن بريطانيا تحوّلت دفعة واحدة إلى دولة بوليسية تمارس القمع ضدّ الصحافة والأحزاب التي كانت تفضح خفايا الحرب وتعارضها، وها هي الولايات المتحدة تشهد اليوم ظهور الدولة البوليسية السافرة، وهاهي أجهزتها تكمّم أفواه الإعلاميين في العالم عموماً، ولا تتورع عن اغتيال الصحفيين غير المنضبطين على هامش عملياتها الحربية في العراق وفي فلسطين!

التجار المحاربون والجنود المتاجرون!

ولكن هل هناك من لا يزال يجهل ظهور الشركات العسكرية الخاصة، أي خصخصة الحرب، واحتلال هذه الشركات مواقع قيادية في نظام الحرب الأميركية، وأن منطق القطاع التجاري الخاص ومعاييره في الربح هو الذي يفرض نفسه اليوم في ميادين القتال؟ لقد تحقق الاندماج بين الإدارات الحكومية والتجارية والصناعية والعسكرية، ليس في الولايات المتحدة وحدها بل على صعيد الشركات المتعدّدة الجنسيات التي يقودها الرأسمال الأميركي، وقد رأينا نتائج ذلك في الحرب اليوغوسلافية التي خصخصت، والتي كانت أول تنفيذ عملي للمناهج الجديدة التي اعتمدتها واشنطن لتعميم سياسة الخصخصة على جميع القطاعات بما فيها قطاع الحرب، وتحويل القطاع العسكري الأميركي واقتصاده لمصلحة القطاع الخاص مباشرة، وهذا الاتجاه يعني الإعداد لافتعال المزيد من الحروب كي تستمر أعمال الشركات التي أخذت على عاتقها إعداد وتدريب الجيوش في أكثر من أربعين بلداً خلال العقد الماضي! لقد بدأت ميادين القتال بالتحول إلى أسواق تجارية، والعكس بالعكس، وهكذا رأينا في العام 2003 شركة هاليبرتون المتعدّدة الجنسيات، التي يعتبر نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني أحد مديريها ورجالها الكبار، تحصل على عدد من العقود في العراق بلغت قيمتها أكثر من مليار دولار، ورأينا أكثر من عشرين ألف موظف أرسلتهم الشركات الخاصة إلى العراق لخوض الحرب جنباً إلى جنب مع الجنود، ورأينا الجنود الأميركيين المتطوعين لمدة محدّدة لقاء أجور محدّدة، استثنائية مغرية، يقاتلون إلى جانب موظفي الشركات، وهكذا! فأي تقاطع هذا الذي تحقق بين مصلحة الشعب العراقي والديمقراطية الأميركية، وأي سخف يتضمنه مثل هذا القول، بغض النظر عن موقع قائله ونواياه؟!

خراطيم المرابين تخترق شراييننا!

إن الشركات الأميركية والبريطانية الخاصة، التي فاق عددها العشرات، وفاق عدد موظفيها عشرات الألوف، تحاول غرس خراطيمها عميقاً في تربة أرض العراق وفي جسد شعب العراق، وهي تفعل ذلك بواسطة ما لا يحصى من الوظائف والمهام الاجتماعية والاقتصادية والتقانية محاولة التشبث بشبكة شرايين دماء الجسم العراقي بعد تخديره ديمقراطياً، مثلما يفعل بعض الكائنات الأدنى بفريسته، فهل يتوجب على الفريسة أن تكون مهذبّة، متحضرة، ديمقراطية، وأن لا تبدي أي مظهر من مظاهر المقاومة حفاظاً على التقاطع؟! ولكن المقاومة على جميع الجبهات تحاول، بالطبع، منع الشركات السرطانية المتعسكرة من التمكن والتشبث بالجسم العراقي، وهذا ما يفسّر لنا بعض عمليات اختطاف الأفراد، وبعض عمليات النسف والتدمير، بغضّ النظر عن مدى الدقة والصواب، وهو ما يفسّر لنا الإصرار على عدم السماح بتشكيل حكومة وقوات محلية موالية للشركات، والإصرار على الحيلولة دون تدفق النفط لصالح الشركات، فهل نعتبر ذلك تخلّفاً وإجراماً بحق التقاطع الحضاري الأميركي العراقي؟ هل نرمي أسلحتنا ونندفع لمساعدة الديمقراطي شارون في بناء جداره العازل؟ وتجدر الإشارة هنا إلى أن شركة "إيرينز إيراك ليمتد" الخاصة هي التي تتولى حماية المنشآت النفطية في محيط خط أنابيب كركوك – جيهان، حيث رسى التلزيم عليها!

ليست أمتنا في موقع الإملاء والاشتراط، أو الإقناع والاختيار، كي تتقاطع أو لا تتقاطع مع المشاريع الأميركية الصهيونية، بل هي في موقع الدفاع عن وجودها الأولي المعرّض للاستئصال، فهي تخوض حروباً لم تسع إليها بل مفروضة عليها، وهذه الحروب الدموية، التجارية الصناعية، خاصية رئيسة من خواص هذا النظام الربوي العالمي الذي تقوده واشنطن، وما يتوجب علينا، أقلّه، هو عدم تمكين المرابين من دمائنا وأرواحنا، وضمان بقائنا على قيد الحياة ريثما يتحقق اجتياز هذه المرحلة الانتقالية الحرجة التي تجتازها البشرية جمعاء.

www.snurl.com/375h

 

Hosted by www.Geocities.ws

1