عن مستقبل المحتلين في العراق !

 بقلم: نصر شمالي

قبل أن يؤسس الأميركيون دولتهم، وبعد تأسيسها وحتى يومنا هذا، ظل الهدف الحقيقي الوحيد لحروبهم هو استعباد الأمم، والاستيلاء على ثرواتها، والسيطرة على أسواقها، لكنهم دأبوا على إخفاء هدفهم الحقيقي ما أمكنهم ذلك، وعلى إعلان مبررات وأهداف مغايرة إن كان لها أساس ووجود في الواقع فإنها معدومة الصلة بأهداف الحرب، أي أنها مجرّد ذرائع لا تتردّد الإدارة الأميركية في إغفالها وتجاوزها إذا ما انكشفت وفقدت ضرورتها. وهكذا رأينا الرئيس الأميركي يسارع إلى التأكيد على بقاء قوات الاحتلال في العراق واستمرار العمليات الحربية فور الإعلان عن وقوع الرئيس العراقي في الأسر، مدللاً على أن كلامه السابق عن الاستبداد وحقوق الإنسان والديمقراطية كان مجرّد ذريعة وغطاء لإخفاء هدفهم الحقيقي الوحيد وهو: استعباد شعب العراق، والاستيلاء على نفطه، والسيطرة على أسواقه الداخلية والخارجية.

الحرب العامة والحرب الخاصة

لا تستطيع الإدارة الأميركية، في جميع الأحوال، تنفيذ سياساتها وتحقيق أهدافها من دون الاعتماد على قوى محلية، فهي تبدأ عادة ببذل قصارى جهودها من أجل تشكيل إدارة وطنية مستقلة وديمقراطية ظاهرياً، ومن أجل تشكيل قوات مسلحة وطنية ظاهرياً، كي يقوما نيابة عنها وبتوجيه مباشر منها بقمع الشعب وإنهاكه وإرغامه على الإنصياع والاستسلام، وهذه الإجراءات هي جوهر ما يسميه الاستراتيجيون الأميركيون بالحرب الخاصة. إنهم يعتبرون مثل هذه الحرب ضرورية، على الرغم من فشلها غالباً، لأنها تمهّد لحضورهم المباشر في الميدان، وتبرره بصورة أو بأخرى، سواء أكان التبرير مقنعاً أم غير مقنع.

غير أن الوضع في العراق بدا مختلفاً، حيث عجزوا عن إيجاد قوى محلية في الداخل تتولى مهمة الحرب الخاصة وتمهّد لهم طريق الحضور المباشر المبرّر ولو شكلياً، فكان أن استعاضوا عن مرحلة الحرب الخاصة بمرحلة الحصار المحكم الذي أهلك مئات الآلاف من العراقيين ودام أكثر من عشر سنوات، ثم جاؤوا بعد ذلك بحكومتهم المحلية على دبابات أميركية بدلاً من أن تأتي مسبقاً على دبابات عراقية عجزوا عن تأمينها.

لقد كانت المفاجأة مذهلة حقاً حين استقبلهم العراقيون بالرصاص بدلاً من الورود، واكتشفوا أن سنوات الحصار الطويلة لم تنل من وعي الشعب العراقي وصلابته، فاضطربت برامجهم وتعثرت خططهم، ووجدوا أنفسهم في خضم الحرب العامة المباشرة بصورة لم يحسبوا حسابها مسبقاً، فكان عليهم الانخراط فوراً في عمليات القمع والاضطهاد العنيف للشعب العراقي بمختلف الأشكال والأدوات.

الهدف قاعدة نفطية عراقية

إن اضطهاد الشعب العراقي وإذلاله وقتله هو المهمة التي كان يتوجب على الحصار النجاح في تنفيذها وإيصالها إلى غاياتها بانصياع الشعب واستسلامه التام. وعندما انطلق الأميركيون على الفور يمارسونها فإن ذلك لم يكن نتيجة نقص في سلامة إدراكهم وحسن تصرفهم، بل لأنها مهمة لابد من إنجازها، طالما أنها لم تنجز مسبقاً من قبل حكومة عميلة ولم تنجز بواسطة الحصار الطويل، فالشعب العراقي يجب أن يستسلم صاغراً بسرعة قبل أن تأتي لحظة الانكشاف العملي لهدفهم الحقيقي، وهانحن نراهم يتخبطون بين إنجاز مهمة قمع الشعب وبين ضرورة البدء بعمليات النفط والمال والأعمال التي كانوا سيبدأونها منذ بداية الإحتلال، حين اعتقدوا أن الشعب العراقي سوف يستقبلهم بالورود.

لكن ارتباك برامج الأميركيين وخططهم لن يثنيهم عن المضي قدماً لتحقيق هدفهم وهو "تملّك" العراق، فهم يحاولون تلافي النواقص وتدارك الأخطاء، ويعتقدون أنهم قادرون على إبادة المقاومة العراقية في مهدها. وحتى لو كانت لديهم شكوك عميقة بصدد النجاح في إبادة المقاومة فإنهم لن يتراجعوا إلا بهزيمة كاملة حاسمة، لأن "تملّك" العراق لا يعني مجرّد تلبية احتياجات بلادهم من النفط، بل يعني مصيرهم كديكتاتورية عالمية لو خسرت معركة العراق فلن تقوم لها بعد ذلك قائمة. ففي عالم تستعصي أزماته على أي حل، ويبلغ عدد الجياع فيه أكثر من مليار إنسان يموت منهم كل عام عشرات الملايين، تتطلع الإدارة الأميركية إلى تعزيز سلطة الأغنياء في العالم عن طريق مزيد من المركزية الديكتاتورية الدولية، والعراق مرشح ليكون قاعدة نفطية أميركية، على غرار القاعدة العسكرية الصهيونية، تساعد الأميركيين إقليمياً ودولياً في التحكم بأصدقائهم وأعدائهم، وفي الحفاظ على مستوى ونمط الحياة في بلادهم.

المسافة بين الحلم والواقع

غير أن الأميركيين يحلمون بمزيد من السيطرة والهيمنة الدولية في ظروف وشروط تاريخية لم تعد تتفق مع أحلامهم، فقد مضى زمن الإمبراطوريات الاحتكارية التي بدأت بالانحدار بعد أن أوصلت العالم أجمع إلى حافة الدمار الشامل، وليس من شك على الإطلاق في أن الأمم تتطلع جميعها اليوم إلى عالم نظيف من الاحتكارات الربوية، وهكذا فإن الحلم الأميركي غير الواقعي يصطدم بحلم أممي واقعي، وتشكل الساحة العراقية والفلسطينية ميداناً لهذا الصدام بين الحلمين المتناقضين كلياً.

لقد أخذ شعبنا، في فلسطين أولاً وفي العراق ثانياً، على عاتقه مهمة إبقاء الحلم الأممي بالخلاص متوهجاً. إن الشعبين الفلسطيني والعراقي ومن ورائهما أمتهما العربية والإسلامية يواجهان الديكتاتورية الدولية المتوحشة بصلابة نادرة، بينما العالم عموماً يبدو مستسلماً ظاهرياً، وإنه لشرف كبير أن يصمد العرب والمسلمون ريثما تنهض الأمم الأخرى، وشرف كبير أن العراق كان سباقاً على طريق تطهير العالم من الإحتكارات الصهيونية الربوية، فمنذ عام 1960 كان للعراق الفضل في تأسيس منظمة الدول المصدّرة للنفط "أوبيك" التي أخذت على عاتقها حماية الدول المنتجة والمستهلكة من شرور المرابين واللصوص ما أمكنها ذلك، وفي عام2000، على الرغم من عشر سنوات من الحصار الإبادي، أدار العراق ظهره للدولار الأميركي المعبود وتحوّل إلى اليورو الأوروبي، وكادت تتبعه دول أخرى في مقدمتها دول الأوبيك، لولا هذه العاصفة الأميركية العمياء المدمّرة التي ثارت في وجه العالم أجمع. وهكذا فإن المسافة تبدو واضحة ومفهومة بين الحلم العراقي الفلسطيني، العربي الإسلامي، وبين الواقع، أما المسافة بين الحلم الأميركي الصهيوني وبين الواقع فتبدو غامضة غير مفهومة، ويستحيل اجتيازها.

إن الولايات المتحدة التي تزجّ بقواتها أكثر فأكثر في الميدان العراقي تندفع أبعد فأبعد في أنفاق مظلمة مليئة بالمفاجآت والتناقضات والعقبات التي لا حلّ لها. وعلى الرغم من جبروتها المادي فسوف تبقى معزولة وضعيفة سياسياً، وسوف تخسر مهما كان مستوى تفوقها العسكري عندما يواجهها الشعب بأكمله، وحينئذ سوف تتقبّل هزيمتها بصمت متجاهلة تماماً حكاية جبروتها وهيبتها!

[email protected]    

 

 

Hosted by www.Geocities.ws

1