الأممية الكاوتسكية تتكرر اليوم كمهزلة!

بقلم: نصر شمالي

قال الرئيس الفنزويلي شافيز قبل أيام أنه يناضل من أجل نهوض شعبه، ومن أجل وحدة أميركا اللاتينية، وضدّ الإمبريالية، تحت رايات البوليفارية (نسبة إلى الجنرال بوليفار الذي خاض حروباً كبرى من أجل التحرير والوحدة) وأبلغ شافيز محدّثه أنه ذكر ذلك أمام الرئيس كاسترو فاستحسنه، ولم يعارض النضال تحت الرايات البوليفارية بدلاً من الرايات الاشتراكية. وبالطبع فإن كلا الرئيسين، الكوبي والفنزويلي، هما اليوم أكثر تشبثاً بالحلّ الاشتراكي لبلديهما وللعالم، لكنهما، بفضل استيعابهما العميق لتجارب القرن الماضي، صارا أكثر نضجاً وأفضل أداء على طريق الخلاص الطويل، حتى أن شافيز يعبّر أيضاً عن التصالح مع التراث المسيحي الإنساني، فتجده حاملاً معه الصليب، ومستشهداً بتعليمات السيد المسيح، واثقاً أن ذلك يعزّز نضاله ولا يضعفه، وهو محق في ذلك طبعاً كما تعلمنا تجارب الماضي! كذلك لا شك أن شافيز وكاسترو يعرفان جيداً الثغرات العميقة، الواسعة، في تجربة الجنرال بوليفار الضخمة، وأول تلك الثغرات اعتماده على الأنكلوأميركان اللوثريين، اللذين جيّروا جهوده ضدّ المستعمرين الأوروبيين (الكاثوليك اللاتين) لصالحهم بالكامل، فكأنما هو عبّد طرق أميركا اللاتينية وأمّنها لينطلق عليها الإنكليز والأميركيون بالراحة! غير أن القائدين المعاصرين، الكوبي والفنزويلي، لم يجدا في ذلك ما يضير التجربة البوليفارية بنزوعها الأصلي إلى التحرر والوحدة والنهوض، وإن في ذلك ما يستحق اهتمامنا الكبير، حيث بينما يوغل بعضنا في تقوقعه الفكري والسياسي الجامد، يوغل البعض الآخر في اندفاعه الداعي إلى الانخراط في الترتيبات العالمية الأنكلوأميركية تحت عناوين الليبرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان!

أممية أرستقراطية عنصرية صفراء !

في بلادنا قطع البعض شوطاً بعيداً على طريق التبشير بالأممية الديمقراطية الأنكلوأميركية، الاقتصادية والثقافية والسياسية، من دون أن يأبهوا لبنيتها الأرستقراطية الطبقية العنصرية، وأغلب هذا البعض كانوا، للأسف، محسوبين على "الأممية الحمراء" الاشتراكية، ومن المدافعين عنها دفاعاً أعمى، أما اليوم فقد انقلبوا لصالح هذه "الأممية الصفراء" المشبعة بالسموم، وراحوا يدافعون عنها دفاعاً أشدّ عمىّ وضراوة وسذاجة، مفتقدين حتى المنطق الشكلي الرصين الذي ميّز دفاع الكاوتسكيين عن الإمبريالية في مطالع القرن العشرين. إن الكاوتسكية تتكرر اليوم كمهزلة!

في الحقيقة، كان كارل كاوتسكي من أبرز الذين لاحظوا مبكراً أنه لم يعد ثمة مجال في العالم لخلاص قومي خاص، لكنه نظر إلى المسألة وتعامل معها من مواقع الأقوياء الظالمين، فقال في إحدى مماحكاته الرصينة:" ليس لدينا من سبب يحملنا على الظن أن التجارة مع مصر (مثلاً) من دون احتلالها عسكرياً، ستنمو بصورة أبطأ بتأثير العوامل الاقتصادية وحدها، فرغبات الرأسمال في التوسع يمكن بلوغها بأفضل شكل عن طريق الديمقراطية السلمية لا عن طريق القسر الإمبريالي"! أي أنه رأى التخلّي عن الاحتلال العسكري المباشر، حيث توسع رأس المال مضمون من دونه عن طريق "الديمقراطية السلمية"، فكأنما هو كان يتنبأ بمرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي، وبقدرة الرأسمالية على "تجديد ذاتها"، لكنه لم يكن مصيباً في توقع ديمقراطيتها وسلميتها!

الأمنيات بدلاً من التحليل العلمي!

غير أن المسألة لم تكن مسألة تنبؤ صائب، بل كانت قراراً اتخذته حينئذ "الاشتراكية الدولية"، أثناء الحرب العالمية الأولى، بالانحياز إلى رأس المال الاحتكاري في بلدانها، فهي فعلت ما أرادته بغض النظر عما توقعته! ولا شك أن انتقالها من معسكر الشعوب المظلومة إلى معسكر ظالميها، كان حدثاً هائلاً وطيباً للرأسمالية التي قدّرته كثيراً، وكافأته كثيراَ، لأنه ساهم مساهمة رئيسة في تجدّدها، وفي إطالة عمرها، وفي ضعضعة صفوف القوى الثورية التي تخاصمها، وفي مقدمتها الاتحاد السوفييتي، وهذا ما تحقق فعلاً لقاء المكاسب التي حققها حزب بلير العمالي وأمثاله!

لقد كتب لينين معقباً على أفكار كاوتسكي ما يلي:" ماذا تبقى من الماركسية عند كاوتسكي، عندما أخذ في سنوات الحرب، 1914-1915-1916، بوجهة نظر الإصلاحيين البورجوازيين، وأكّد أن "الجميع متفقون" بشأن السلام؟ فبدلاً من تحليل الإمبريالية، والكشف عن عمق تناقضاتها، لا نرى إلا "الأمنية البريئة" في تحاشي هذه التناقضات وتجنبها! لقد انفصل كاوتسكي عن الماركسية بدفاعه في عصر الرأسمال المالي عن "مثل رجعي أعلى"، وعن "الديمقراطية السلمية"، وعن "تأثير العوامل الاقتصادية وحدها"! إن مثل هذا المثل الأعلى، الذي يجرّ موضوعياً إلى الوراء، من الرأسمالية الاحتكارية إلى الرأسمالية ما قبل الاحتكارية، هو خدعة إصلاحية"!

لقد كان لينين يرى بوضوح أن اللحظة التاريخية التي انتصرت فيها ثورة أكتوبر ليست مواتية، لأنها لحظة الانتقال العالمي العاصف إلى مرحلة أعلى هي مرحلة الإمبريالية، وكان يرى أيضاً أن مركز انطلاق الثورة في روسيا ليس مواتياً بدوره، وقد كتب:" إذا لم يهزم المستغلّون إلا في بلد واحد، وتلك هي بالطبع الحالة النموذجية حيث الثورة في عدّة بلدان في آن واحد أمر نادر استثنائي، فإنهم يظلون الأقوى لأن علاقاتهم الدولية هائلة.. سوف يظلون الأقوى حتى في البلد الذي هزموا فيه"! لقد قال ذلك آخذاً بالاعتبار أيضاً ارتداد الأممية الثانية الكاوتسكية، فكأنما يستخلص أن الواقع، إضافة إلى ما استجد من ارتداد أوروبي، سوف يقتضي سياسات داخلية أمنية كريهة، فيها الكثير من الهدر المجاني للجهود والإمكانات الثمينة، ومن الانشغال بالفرعيات عن الرئيسيات، للحفاظ على أمن الدولة فحسب، وهذا ما لم يكن يرضيه ولا يريحه، لكنه لا يستطيع تجنبه!

أعلى مراحل الإمبريالية وآخرها!

لقد كتب كاوتسكي في توصيف الإمبريالية ما يلي:" الإمبريالية: هي نتاج الرأسمالية الصناعية المتطورة جداً، وهي تتلخص في نزوع كل أمة رأسمالية صناعية إلى إلحاق أو استعباد أكثر ما يمكن من الأقطار الزراعية بصرف النظر عن الأمم التي تقطنها"! أما لينين فقد وصفها كما يلي:" الإمبريالية: هي الرأسمالية عندما تبلغ من التطور درجة تحققت فيها سيطرة الاحتكارات والرأسمال المالي، واكتسب فيها تصدير رأس المال أهمية كبرى، وابتدأ تقسيم العالم وتوزيعه بين التروستات، وانتهى تقسيم جميع أقطار الأرض بين كبريات البلدان الرأسمالية.. إن الرأسمالية قبل الاحتكار كانت تمتاز بحب السلام والحرية بأكبر قدر نسبياً، وذلك بسبب من خصائصها الاقتصادية الأساسية، وعلى الأخص في إنكلترا وأميركا، أما الإمبريالية، أي الرأسمالية الاحتكارية التي نضجت في القرن العشرين، فإنها تمتاز، بسبب من خصائصها الاقتصادية الأساسية، بالحدّ الأدنى من حب السلام والحرية وبالحدّ الأقصى والأعمّ من تطوّر العسكرية، فإذا لم يلاحظ المرء هذا الأمر هبط إلى مستوى أكثر خدم الرأسمالية ابتذالاً"!

إذن، فقد دار في مطلع القرن العشرين جدل حول تطور الرأسمالية إلى إمبريالية، اعتبر فيه البعض أن الإمبريالية مرحلة تطور "ديمقراطي سلمي" غير أن ذلك لم يكن صحيحاً، واليوم يدور الجدل حول تطور الإمبريالية إلى "عولمة" حيث العولمة هي أعلى مراحل الإمبريالية حقاً، وبينما يرى البعض في مرحلة العولمة تطوراَ "أممياَ ديمقراطياَ سلمياَ" فإن الوقائع التاريخية تؤكد أنها أشدّ مراحل النظام الرأسمالي العالمي بمجمله قسوة وعنفاً وتدميراً، وتؤكد في الوقت نفسه أنها آخر المراحل في عمر هذا النظام الجائر!

www.snurl.com/375h

 

Hosted by www.Geocities.ws

1