خلفيات التناقض بين أطراف رأس المال الدولي ؟

بقلم: نصر شمالي

أثناء عمليات التأهب لاحتلال العراق ووضع اليد على كنوزه راحت الإدارة الأميركية المتعالية المتغطرسة تخاطب حليفاتها الرأسماليات بما معناه: يتوجب عليكم المساهمة في العمليات الحربية تحت إمرتنا، وسوف نعطيكم ما نقدّر نحن أنكم تستحقونه من الغنائم! لقد كان الأميركيون يعتقدون أن العراق أصبح في حوزتهم سلفاً بعد ثلاثة عشر عاماً من الحصار المحكم الذي أنهكه، والذي أودى بحياة مئات الألوف من العراقيين، فالحصار أنجز ثلاثة أرباع العمليات الحربية، وكان مقدّراً للاحتلال أن يكون نزهة تتوّج الحرب التي بدأت منذ عام 1991!

لقد كانت واشنطن تعتقد أنها سوف تعطي حلفاءها ما تقتضيه ضرورات التحالف التاريخي وما تقتضيه مصلحة النظام الرأسمالي العالمي الذي ينبغي أن تبقى عواصمه القيادية موحّدة في سياساتها الدولية كي تستمر الهيمنة على أمم الجنوب، أما مساهمتهم العسكرية الحربية في العراق فنظرت إليها كأنما هي مجرد تعبير سياسي تضامني لا قيمة ميدانية عملياتية له! وبالطبع، رفض الحلفاء موقف واشنطن، وراح الغيظ يأكل أحشاءهم، لأنهم شعروا بالمهانة من جهة، ولأنهم (وهو الأساس والأهم) لم يطمئنوا لتقديرات واشنطن العسكرية الحربية، ولا لخطابها السياسي، ووجدوا في ذلك خطراً على النظام الرأسمالي العالمي بمجمله في حاضره ومستقبله، وهو النظام الذي يعتبر أمنه واستمراره التاريخي مسؤولية جميع العواصم الرأسمالية، صغيرها وكبيرها!

وبالفعل، كانت مخاوف حليفات واشنطن في محلها، فها هي الإدارة الأميركية الديكتاتورية تتخبط اليوم سياسياً وعسكرياً في العراق، وها هو وزير الخارجية الأميركي في بروكسل، قبل أيام، يدعو الاتحاد الأوروبي إلى القيام بواجباته في العراق:" مهما كانت خلافاتنا في الماضي حول العراق فإننا نتطلع حالياً إلى الأمام، ونمدّ أيدينا إلى الأوروبيين، ونأمل أن يبادلونا بالمثل، لقد وقعت الحرب، وعلينا أن تقضي على حركة التمرد.. الخ"!

لماذا توقفت الحروب بين الرأسماليين ؟

قبل حوالي ستين عاماً كان مثل الحدث العراقي كفيلاً بنشوب حرب عسكرية بين العواصم الاستعمارية حول مصير الغنائم، لكن الحرب العالمية الثانية، التي هي اشتباك مسلح بين أطراف رأس المال الدولي، كانت آخر الاشتباكات المسلحة التي تكررت عبر القرون السابقة، فقد انتهت تلك الحرب بتدمير معظم الرساميل الألمانية واليابانية، وبإضعاف معظم الرساميل الأوروبية الغربية، بما فيها البريطانية، أما رأس المال الأميركي الذي خرج من الحرب سالماً معافى فكانت تلك فرصته التاريخية، التي طال انتظاره لها، للسيطرة على إدارة الاقتصاد الدولي والسياسة الدولية، وللإنفراد بقيادة النظام الربوي العالمي!

لقد بدأت منذ ذلك التاريخ مرحلة الهيمنة الأميركية، مدعومة بإنتاجية عالية لقوتها العاملة، حيث توافرت للرأسمال الأميركي قدرة كاسحة على المنافسة في جميع الأسواق الدولية، وقد عمل في معرض تحقيق هيمنته على جبهتين: أولاً، مشروع مارشال لإعادة بناء رأس المال في أوروبا عموماً. ثانياً، إعادة بناء رأس المال في ألمانيا واليابان تحديداً! لماذا هذا الفصل؟ لأن المجتمع الفرنسي والإيطالي كان متقدماً جداً في ميدان العمل السياسي والنقابي، ولذلك ركّزت الإدارة الأميركية جهودها على دعم كل من ألمانيا واليابان، من أجل إحكام الحصار ضدّ الاتحاد السوفييتي والصين، ومن أجل ضبط المجتمعات الأوروبية الغربية المتقدمة سياسياً ونقابياً، وللحدّ من فعاليتها السياسية، وأيضاً، وهو الأهم، لأن عائدات التوظيف الرأسمالي في أوروبا الغربية أقل من عائدات اليابان وألمانيا، ففي أوروبا الغربية تكون التكلفة أعلى والإنتاج أقل بسبب تقدم مجتمعاتها نقابياً وسياسياً، بينما في اليابان وألمانيا تكون التكلفة أقل والإنتاج أعلى، بسبب الضعف النسبي النقابي والسياسي، وبسبب الانضباط الجمعي الذي اعتاد عليه اليابانيون والألمان!

الرياح تجري خلافاً لرغبة القبطان !

غير أن أفعال رأس المال الأميركي، بعد تحقق هيمنته الدولية، قادته لاحقاً إلى تعريض هذه الهيمنة للخطر، فقد تطور رأس المال الياباني والألماني والأوروبي الغربي عموماً على أساس معدّلات ربح أعلى، ومن ثم قدرة أكبر على تركيم رأس المال، وعلى زيادة إنتاجية العمل بمعدلات أسرع من المعدّلات الأميركية، وهو ما عنى قدرة أكبر على منافسة رأس المال الأميركي في السوق الدولية، بل حتى داخل الولايات المتحدة ذاتها! ولقد أدى ذلك في النهاية (أواخر ستينات القرن العشرين) إلى إضعاف مركز الصادرات الأميركية في مواجهة الصادرات اليابانية والألمانية، وهكذا لم يمض ربع قرن بعد الحرب الثانية حتى كانت الهيمنة الأميركية تتعرض للخطر نتيجة تلك التغييرات التي طرأت على هيكل النظام الاقتصادي العالمي، حتى أن الرساميل الأميركية الموظفة في الخارج دخلت بدورها في منافسة مع المركز الأم في الولايات المتحدة، بعد أن حققت قدراً من الاستقلال في مواطنها الجديدة! بل إن الولايات المتحدة انكشفت في تلك الفترة وقد تحوّلت من دائنة إلى مديونة ومن مصدّرة إلى مستوردة! لقد كانت تلك بدايات الصعود الرهيب للشركات الربوية المتعدّدة الجنسيات، التي لا وطن لها ولا قومية ولا عقيدة ولا هاجس لها سوى تكديس الثروات، والتي صارت تتحكم بالعالم عموماً اليوم، بحيث غدا رجال الإدارة الأميركية الحالية من موظفيها وفي خدمتها!

عطب بنيوي لا شفاء له إطلاقاً!

نعود إلى السياق فنقول أن تلك التغييرات الاقتصادية التي طرأت (على حساب الهيمنة الأميركية شبه المطلقة) لم يحدث مثلها على صعيد النظام العسكري العالمي، ففي هذا الميدان بقيت القوات العسكرية الأميركية هي المهيمنة! وجدير بالذكر أن الاقتصاد الياباني والأوروبي استفاد من توفير النفقات العسكرية لصالح التنمية الاقتصادية، وإن هو عانى من الهيمنة العسكرية الأميركية وبالتالي من السيطرة الأميركية على احتياطي الطاقة والمواد الخام الاستراتيجية في العالم، وهو الأمر الذي أدى إلى وضع سقف قسري لقدرة اليابانيين والأوروبيين على المنافسة، وحدّ من الأفاق التي يمكنهم بلوغها! وبالمقابل، عانى الرأسمال الأميركي، إضافة إلى تقهقره الاقتصادي أمام المنافسة، من النفقات العسكرية الباهظة التي مكنته من تطويق العالم أجمع بقواعده، لكنها أثقلته بالأعباء!

وهكذا، في أواخر ستينات القرن العشرين، بدت أزمة النظام الرأسمالي العالمي وتناقضات أطرافه على النحو التالي: الرساميل الأوروبية واليابانية تريد الانطلاق إلى آخر الشوط فتصطدم بالهيمنة الأميركية العسكرية فالسياسية، بينما هي تدرك في الوقت نفسه أنها لا تستطيع الاستغناء عن القوة العسكرية الأميركية، خوفاً من شعوبها ومن شعوب العالم من جهة، ولأنها لا تستطيع تنمية قدراتها العسكرية الخاصة بها إلا على حساب تطورها الاقتصادي من جهة أخرى! أما الرساميل الأميركية، التي أنهكتها المزاحمة الاقتصادية وناءت تحت ثقل الأعباء العسكرية الهائلة، فقد أدركت بدورها أهمية هيمنتها العسكرية، وعدم استطاعتها التلكؤ في ملء كل فراغ خوفاً من فقدانها لزمام العالم ونهوض الشعوب المقهورة. لقد كانت تلك أعراض عطب بنيوي لا شفاء له على الإطلاق!

هكذا دخل العالم مرحلة ما بعد الستينات الرهيبة، حيث صارت الولايات المتحدة تعالج تناقضاتها مع أطراف رأس المال الدولي على حساب الأمم المستضعفة، فلم تعد تأبه للشكليات الدبلوماسية والقانونية، بل تتقدم بفظاظة مباشرة على طريق المزيد من وضع اليد على منابع الثروات الاستراتيجية في البلدان المنهوبة، فتقصي حلفاءها عن عمليات تقاسم الغنائم وتعطيهم فقط ما يكفي للحفاظ على أمن واستمرارية النظام العالمي، وتلحق المزيد من العذاب الفظيع والدمار الشامل بشعوب الجنوب، خاصة العربية والإسلامية حيث الاحتياطي العالمي الرئيس للطاقة، وهاهو العراق يلخص اليوم مجمل ما أشرنا إليه، فإلى أين سيقود هذا الاندفاع الفظ، الأعمى، الميكانيكي، نظام الربا العالمي وقيادته الأميركية؟

www.snurl.com/375h

 

Hosted by www.Geocities.ws

1