السودان من مصرع غوردون الى أزمة دارفور!

بقلم: نصر شمالي

في مثل هذا الشهر من عام 1985، في 26 كانون الثاني/ يناير بالضبط، قرعت أجراس الكنائس اللوثرية في العاصمة البريطانية لندن، وعمّت مظاهر الحداد العام! لقد صادف ذلك اليوم ذكرى مرور مائة عام على مصرع غوردون باشا، المفوض البريطاني العام والحاكم بأمره في السودان الشقيق العزيز!

لقد لقي غوردون مصرعه في ذلك اليوم من عام 1885، في تلك اللحظة التاريخية الفريدة، المهملة، التي كانت فيها قوات الثورة السودانية تطهّر الخرطوم، العاصمة الرائعة المثلثة، من القوات البريطانية في هجوم مذهل في بسالته وفعاليته، وحيث كانت أجساد شهدائنا السودانيين الأبرار، بجلابيبها البيضاء، تغطي السهوب الى حيث لا يصل البصر المجرّد!

                                                              قائد الفصيل السوداني الباسل؟

في ذلك اليوم قبل أكثر من مائة عام، بعد أن اخترقت القوات الثورية السودانية بأسلحتها الخفيفة البسيطة خطوط النيران البريطانية الكثيفة المتفوقة، واقتحمت العاصمة المحتلة، توجهت فصيلة منها على وجه السرعة الى مقرّ المفوّض البريطاني، الحاكم بأمره غوردون باشا!

كان غوردون قد تقهقر صاعداً الى سطح المقر العام حيث وقف هناك، على السطح، يدور حول نفسه وقد أسقط في يده وغامت الدنيا أمام نظره المضطرب، أما قائد الفصيل الباسل، محمد نوباوي، فكان أول من وصل الى السطح، وهاهو ذا وجهاً لوجه أمام رمز الجبروت والطغيان الأنكلوسكسوني، الذي راح يحدّق مذهولاً في عينّي البطل السوداني! لقد كان ممثل الإمبراطورية الباغية بكامل ثيابه وقيافته العسكرية، وبكامل أسلحته، وقد حشرج مخاطباً قائد الفصيل السوداني: ولكن، أين محمد أحمد؟!

لقد كان المفوض البريطاني غوردون، الحاكم بأمره في السودان، يتوقع ويأمل، كفرصة أخيرة، أن يجد أمامه محمد أحمد شخصياً، أي الإمام المهدي القائد العام للثورة السودانية، وهو كان محقاً في توقعه، ومعذوراً في أمله، باعتباره الممثل الذي يجسد الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب الشمس عن مستعمراتها، وبالتالي كيف لا يأسره القائد العام للثورة شخصياً في تلك اللحظة التاريخية المجيدة التي تحقق فيها التطهير الكامل للعاصمة من القوات البريطانية؟!

أما محمد نوباوي، قائد الفصيلة الثورية، الذي كان واقفاً يحدق في عيني عدوّه كالنسر من دون أن ينبس بحرف واحد، فقد كان جوابه على سؤال الطاغية البريطاني سريعاً وبسيطاً وعملياً: لقد عاجله بطعنة نجلاء من حربته أزهقت روحه على الفور!

الثورة المهدية عربية إسلامية

لكن الإمام المهدي، القائد العام للثورة السودانية، كان له بالفعل رأي آخر ويفضل مصيراً آخر للطاغية البريطاني غوردون: فقد أراد القبض عليه، وإبقائه حياً والاحتفاظ به أسيراً! لماذا؟ لأن الإمام القائد كان يريد أن يفتدي به أحمد عرابي قائد الثورة المصرية الأسير في قبضة البريطانيين!

لقد كانت تلك الثورة السودانية تتطلع بعيداً، الى مجمل الوطن العربي الكبير الممزق المستعمر، والى مجمل العالم الإسلامي المبدّد والمستعبد، فهي لم تكن مجرّد ثورة محلية، وهي منذ ذلك التاريخ (1885) كانت تعي أن لا خلاص خاص لأي من البلدان العربية والإسلامية، وأن ميدان عملياتها متكامل مع ميدان عمليات إخوانها في مجمل ما يسميه الأميركيون اليوم بالشرق الأوسط الأكبر! وكيف لا يكون شأنها كذلك والسودان ركن أساسي من أركان العصر العربي الإسلامي العالمي، حتى أن مجموع البلدان الأفريقية الممتدة عبر وسط أفريقيا، ما بين البحر الأحمر والمحيط الأطلسي، كان يطلق عليها جميعها اسم بلاد السودان؟!

ولكن، حين راحت لندن تقرع أجراس الحداد اللوثرية، بمناسبة مرور مائة عام على مصرع غوردون (1985) ترى ألم تتذكر تلك المساحات الشاسعة من أرض السودان الطاهرة المغطاة بأجساد الشهداء، التي جعلت الأرض ناصعة ومرصعة بما لا يحصى من الزهور الدموية القانية؟! ترى ألم تتذكر لندن المجاهد محمد نوباوي، وتتخيله واقفاً بجنان ثابت، يحدّق في عيني غوردون رمز طغيانها وتعاليها وتألهها دون أن ينبس بحرف واحد، قبل أن يوجه إليه طعنته النجلاء؟! وأي دروس استخلصتها من ذلك؟ في الواقع، هي لم تستخلص الدروس الصحيحة بل مازالت حتى يومنا هذا مندفعة لتحقيق مصالحها الدنيئة غير الشرعية، بقيادة واشنطن، تواجه محمد نوباوي المتجدد في العراق، وفي فلسطين، وفي السودان، وفي كل قطر من أقطار العرب والمسلمين!

إن لندن تتذكر ولا تنسى قتلاها، وكذلك واشنطن، أما بعضنا نحن العرب فإنه ينسى ولا يتذكر شهداءنا و أبطالنا، أو أنه يتظاهر بذلك لسبب أو لآخر، فمن منا يعرف وجه البطل قائد الفصيل الثوري محمد نوباوي ومن يتذكر اسمه اليوم؟! ولكن يكفيك أن يكون الله لك يا محمد نوباوي، فإذا كنّا نحن أهلك لا نعرف اليوم وجهك، ولا نتذكر اسمك، ولا نقيم ذكراك، فإن الله الحق يعرف اسمك ووجهك ويحفظ ذكراك!

محمد نوباوي العراقي الفلسطيني!

اليوم يواصل محمد نوباوي خوض حربه العادلة، ليس في دارفور وغيرها من أقاليم السودان فحسب بل في فلسطين والعراق وأفغانستان، وفي مجمل البلاد العربية والإسلامية، فهناك محمد نوباوي العراقي، وهناك محمد نوباوي الفلسطيني، والسوري والمصري والجزائري والأفغاني والباكستاني..الخ!

إن الطاغية غوردون الأنكلوسكسوني اللوثري الصهيوني، يلقى مصرعه يومياً في العراق وفي فلسطين، وبالمقابل تغطي أجساد شهدائنا الأبرار شاشات التلفزة على مدار الساعة، فأية معارك تاريخية هائلة هذه التي تخوضها أمتنا ضدّ طغاة العالم، منذ مصرع غوردون باشا عام 1885 وحتى يومنا هذا؟!

إن الفلسطينيين محاصرون اليوم حصاراً يخيّرهم بين الموت السريع والموت البطيء، ولا خيار ثالث! أما هم فقد اختاروا طبعاً طريق المقاومة والاستشهاد الذي يفتح وحده المجال لخيار ثالث خارج إرادة العدو، وهم على يقين من أن حطين قادمة! وإن العراقيين محاصرون بدورهم أيضاً، لكنهم يحاصرون عدوّهم في الوقت نفسه، وهذا هو الجديد العظيم الأهمية تاريخياً في وضع العرب والمسلمين اليوم!

منذ نيسان/ أبريل 2003 وحتى يومنا هذا قدّم العراقيون على مذبح الحرية أكثر من مائة ألف محمد نوباوي! لقد اندلعت هذه الحرب الهائلة في العراق متصلة اتصالاً وثيقا بمخططات الأميركيين والبريطانيين في السودان، الذين بدأوا منذ عام 2000 يعدّون العدّة للاستيلاء على إقليم دارفور السوداني، والذين اتخذوا قرارهم بالاحتلال المباشر للعراق منذ ذلك العام أيضاً، لماذا؟

السودان والعراق وأنبوب النفط العملاق!

لقد رأينا أنه ما أن تحقق احتلال العراق حتى بدأ التصعيد بوتائر عالية في إقليم دارفور السوداني، وسرعان ما بدأت تبرز أسماء عدد من القادة السودانيين الدمى مطالبين "بالديمقراطية وحقوق الإنسان"، على طريقة قادة شمال العراق، بل هم استعاروا لميليشياتهم اسم ميليشيات شمال العراق!

والحال أنه، بالإضافة للأطماع التاريخية الثابتة في بلادنا على مرّ القرون، اهتم الأميركيون تحديداً، منذ سبعينات القرن الماضي، برصد مليارات الدولارات لصالح تمديد أنبوب نفطي عملاق ينطلق من ميناء ينبع على ساحل الجزيرة العربية، ويعبر البحر الأحمر، ثم يقتحم إقليم دارفور غرب السودان ليتصل بالأنبوب الحالي في حقول "دبا" التشادية، ثم يتقدم عبر دول وسط أفريقيا ليصب في المحيط الأطلسي! لقد تبلورت فكرة أنبوب النفط العملاق في العامين 1969-1970 حين دخول الاحتياطي النفطي العالمي طور الانحسار على طريق النضوب، وحين تحولت الولايات المتحدة من مصدر الى مستورد، وبدأت الفكرة تتحول الى إجراءات بعد حرب 1973، ولم يكن تأجيج نيران الحرب في جنوب السودان سوى مظهر من مظاهر التنفيذ العملي لمشروع الأنبوب! لقد شكل مشروع الأنبوب النفطي العملاق محاولة أميركية لمواجهة ما يأتي به المستقبل من مفاجآت تؤثر سلباً على مصالح الشركات العالمية الربوية الاحتكارية وعلى طراز الحياة ومستواها في البلدان الاستعمارية التي يشكل سكانها خمس سكان العالم فقط!

إن واشنطن تأمل بعد وضع يدها بالكامل على العراق ومنطقة الخليج والسودان، بالاستيلاء الكامل على الاحتياطي النفطي العالمي الأكبر والأجود والأرخص، أي النفط العربي الإسلامي، ومن ثم دفعه عبر الأنبوب العملاق إلى سواحل الأطلسي الأفريقية، حيث تستقبله الناقلات الأميركية وتحمله إلى حيث تشاء من دون أن يعترضها عائق بشري أو جغرافي أو سياسي، فلا يوجد بين سواحل الولايات المتحدة وسواحل أفريقيا سوى مياه المحيط!

إن السودان سوف يعامل كالعراق وكفلسطين، أي أن ينصاع أبناء شعبه كالعبيد أو يبادوا! لأن المعبر السوداني لأنبوب النفط العملاق يجب أن يكون آمناً تماماً، ومحرراً من أية سيطرة فعلية لأصحابه تماماً، ناهيكم عن أن التقديرات تقول أن إنتاج السودان من النفط سوف يبلغ نصف مليون برميل يومياً خلال العام الحالي 2005، وأن هذا النفط، المتصاعد في زيادته، يتم إنتاجه من قبل السودان بالتعاون مع شركات صينية وماليزية وأوروبية، وقد صمم الأميركيون على طرد هذه الشركات من السودان، وعلى وضع اليد ليس على النفط السوداني فقط بل على السودان بمجمله لصالح الأنبوب العملاق عابر القارات!

سايكس/بيكو في السودان!

إن ما يخطط الأميركيون لتحقيقه في السودان ليس جديداً على السياسات الأنكلوسكسونية اللوثرية الصهيونية، فهم يريدون تمزيق السودان مثلما مزقوا بلاد الشام بعد الحرب العالمية الأولى باتفاقيات سايكس/بيكو! ومثلما كان النفط هو السبب الرئيس لتمزيق المشرق العربي فإنه سيكون السبب الرئيس لتمزيق السودان أيضاً! ومثلما موّهوا أهدافهم الحقيقية في الماضي بذرائع محلية ملفّقة، وباستغلال خلافات وصراعات محلية مصطنعة من قبلهم، فإنهم يكررون اليوم في السودان عمليات التمويه ذاتها!

إن المتوقع والحال كذلك أن تتعاظم الاضطرابات في السودان لتبلغ مستوى العمليات الحربية الكبرى، غير أن ذلك التعاظم المصطنع يشترط "استتباب الأمن" في العراق وفلسطين لصالح الأنكلوسكسون اللوثريين الصهاينة، أي استسلام وانصياع الفلسطينيين والعراقيين، لأن مشروع الأنبوب العملاق لن يكون ممكناً ومضموناً قبل القضاء على المقاومة العراقية، والفلسطينية أيضاً، أي قبل سقوط المنطقة العربية بمجملها في قبضة الأميركيين!

لقد تعهد الأميركيون والبريطانيون منذ أكثر من عام بالقضاء على المقاومة العراقية قبل انتخابات الرئاسة الأميركية، غير أن ذلك لم يتحقق، ولا يبدو في الأفق ما يشير الى احتمال تحققه في المدى المنظور، الأمر الذي يعني أن إرادة طغاة العالم لم تعد متفرّدة وحاسمة، ولم تعد منيعة ضدّ إرادات الشعوب!

    www.snurl.com/375h

 

Hosted by www.Geocities.ws

1