استخلاص العبر من زلزال المحيط الهندي !

بقلم: نصر شمالي

تشكل منطقة حوض المحيط الهندي التي ضرب الزلزال المدمر عدداً من بلدانها مركز الثقل العالمي بمجمله، سواء من جهة المواد الخام الزهيدة التكلفة أم من جهة اليد العاملة الرخيصة الأجر. إنها بحيرة الثروات الأزلية والمنطقة الأساس التي ينهض عليها النظام العالمي، ولذلك ينشر الأميركيون فيها ما لا يحصى من قواعدهم العسكرية ومؤسساتهم البوليسية، ويعلنون من حين لآخر، على أعلى المستويات، أنها منطقة تقع ضمن دائرة نفوذهم وشؤونها تعود إليهم وحدهم، وعندما تقتضي الضرورة لا يترددون في شن الحروب ضد شعوبها، مثل الحرب ضد العراق التي يعتبرونها خطوة أولى على طريق تشكيل "الشرق الأوسط الكبير" في قلبها‍‍‍‍‍.

غير أن الأميركيين، الذين ينفقون المليارات على قواعدهم ومؤسساتهم وحروبهم في منطقة المحيط الهندي، أعلنوا عن معونة للملايين من ضحايا الزلزال مقدارها 35 مليون دولار‍‍! ثم دفعهم الحرج لإضافة صفر إلى هذا الرقم البائس! ثم سمعنا رئيسهم يكلف والده وسلفه بجمع التبرعات للمنكوبين! وليس في هذا ما يستدعي الاستغراب، حيث الأميركيين لا يعطون أبداً أبداً بل يأخذون دائماً ودائماً، وهم عندما يدفعون المليارات يكونون على شبه يقين من أنهم سوف يستردونها سريعاً أضعافاً مضاعفة‍‍!

والأدهى من كل ذلك هو التبجح الوقح، فقد علّق أحد الأميركيين على حجم الخسائر التي نجمت عن الزلزال أنها كان ممكناً أن لا تبلغ هذا الحد لو توفرت أجهزة إنذار مبكر! إنهم يقولون ذلك وهم الذين نصّبوا أنفسهم سادةً للمنطقة والعالم عموماً، بحيث لا تستطيع أي من دول الجنوب تطوير أي من أوضاعها دون استشارتهم والحصول على موافقتهم، فلماذا لم يخطر ببالهم، ومصالحهم في معظمها تقع في حوض المحيط الهندي، توفير أجهزة الإنذار المبكر ولو في قواعدهم العسكرية العملاقة!

عشرة آلاف من أربعة مليارات!

والحال أن قسوة الزلزال، بكل أهوالها ‍‍‍‍التي فاقت تصورات البشر وقدراتهم، لا تعادل قسوة سادة هذا العصر الأوروبي الأميركي، فالإنسان ينظر إلى ما فعله الزلزال في غمضة عين مدركاً أن بدايات الحياة على هذا الكوكب ونهاياتها ليست في متناول إرادته، ويرى أن رحلة العمر القصيرة هي التي يمكن أن تكون في متناوله، فالظلم والعدل هما من صنع يديه، وبالتالي فإن ما يجده غير مفهوم ولا مقبول هو تألّه الطغاة الذين حوّلوا حياة الشعوب إلى حالة مستديمة من البؤس والشقاء!

إن عمر الحياة المجتمعية البشرية، التي يدمرونها بلا هوادة، ليس أكثر من جملة في سفر عمر كوكب الأرض التي يقدّر العلماء أنه حوالي أربعة مليارات سنة، بينما عمر الحياة المجتمعية في حدود عشرة آلاف سنة! لقد كانت الأرض في معظم عمرها خالية من أي أثر للحياة، حيث سادتها حقب جليد طويلة، وقد شهدت خلال المليار سنة الأخيرة أربع حقب جليدية هائلة غمرتها في معظمها، والبشرية لا تزال تعيش حتى الآن في الحقبة الأخيرة الرابعة! إن ستة آلاف سنة فقط تفصلنا عن ذوبان آخر مساحات الجليد التي كانت تغطي تماماً المنطقة الشاسعة المعروفة اليوم باسم كندا!

قبل ستمائة مليون سنة كانت ألواح الجليد تغطي معظم الأرض، ولا يعرف أحد، إلا النذر اليسير، عن تلك الأزمنة المظلمة، أما عن الأزمنة التي سبقتها فليس هناك من يعرف أي شيء على الإطلاق! ويعتقد العلماء أن حقباً من الأزمنة الدافئة نسبياً بدأت بعد تلك الأزمنة الجليدية المظلمة، غير أن تلك الحقب الدافئة تخللتها، على نحو غير معلل، موجات من البرد القارس، مرة كل 250 مليون سنة تقريباً، ثم بدأت مساحات شاسعة من الأرض بالتحول الى بحار ضحلة دافئة ومستنقعات رخوة لا حدود لها!

لقد عاودت البرودة القاسية كوكب الأرض منذ ما يقارب 50 مليون سنة، وعاد الجليد الى سيادته الشاملة باستثناء فترات ذوبان قصيرة كانت تحدث كل مائة ألف سنة، لكن أية فترة من فترات الذوبان لم تدم أكثر من عشرة آلاف سنة!

وهكذا، فقد ظهر المناخ الحالي، الملائم لنشوء الحياة المجتمعية (وليس ظهور الكائن البشري في حد ذاته) فقط خلال العشرة آلاف سنة الأخيرة التي أعقبت ذوبان ألواح الجليد الهائلة! إن هذا المناخ الملائم ليس سوى ومضة في تاريخ الأرض! إنها مجرد عشرة آلاف سنة من أصل أربعة مليارات سنة! ثم من يدري إن كانت حقب الجليد الطاغية لن تعود؟! وبالتالي أية حماقة تجعل أسياد هذا العصر الأوروبي الأميركي يستكبرون الى حد التأله، ويفتكون بهذه الومضة النادرة؟!

أين يقع مهد الحياة المجتمعية؟

بعد الذوبان الأخير لألواح الجليد الهائلة التي كانت تغطي سطح الأرض، أي قبل حوالي عشرة آلاف سنة، شاع أدفأ طقس شهدته أية حقبة زمنية دافئة تفصل بين عصرين جليديين!

يقول العالم الأميركي صموئيل ماثيوز في دراسته المعنونة (عودة الأرض الى عصر الجليد) ما يلي: "لقد كان دفئاً قاسياً حقاً قبل ثمانية آلاف عام تقريباً بين وادي النيل والخليج (العربي) وعبر مناطق الهلال الخصيب (المشرق العربي) وفي ذلك الزمن الدافئ راح الإنسان يتعلم فنون الزراعة، وترويض الحيوان وتدجينه،  والكتابة، وركوب البحر، وبدأت نظهر معالم الحياة المجتمعية"!

إن هذا يعني – حسب العالم الأميركي وغيره- أن منطقتنا هي المهد لظهور الحياة المجتمعية والحضارات البشرية، وبالفعل فإن الوثائق والمدونات الأثرية، التي تعود إلى أكثر من خمسة آلاف عام، تؤكد أن آلافاً من السنين تفصل بين البدايات في منطقتنا (حوض المتوسط) وبين البدايات في الحوضين البشريين القديمين بدورهما: حوض الهند وحوض الصين ! غير أن هذا القدم لا يعطي أية ميزة عرقية، بل مجرد ميزة الخلق الأسبق، والوعي الأول، والنضج النسبي الأبكر، وإن ما يثير أشد الاستغراب هو أن يصبح هذا المهد الأم هدفاً للكراهية العنصرية والأذى اللئيم المدمّر من قبل أقوام ظهرت بالأمس القريب فقط، في شمال وشرق وغرب أوروبا وفي أميركا! إنها أقوام ما كان لها أن تنهض بالصورة التي هي عليها اليوم من دون التراكمات الإنسانية في منطقتنا خصوصاً وفي آسيا وأفريقيا عموماً، فأية نوازع شريرة، وأي عقل قاصر مهما أبدى من ضروب الإبداع في ميادين العلوم الحديثة ذاك العقل الذي يعمل بدأب على تدمير مهد الوجود المجتمعي؟!

غرائب تعداد سكان الأرض!

إنها مجرد رحلة قصيرة تجتازها البشرية! إنها مجرد عشرة آلاف سنة من أصل أربعة مليارات سنة! فلماذا يحولها الأشقياء الاحتكاريون الصهاينة الى رحلة عذاب مريع متواصل تجعل الإنسان يفضل الزلازل عليها؟!

ولتبسيط المشهد أكثر نذكر أنه، حين بزوغ فجر عصر الزراعة عام 8000 ق.م، كان عدد سكان الأرض حوالي خمسة ملايين! وبعد ستة آلاف عام، حين ولد السيد المسيح، كان العدد حوالي 200 مليون! أما في القرن السابع الميلادي، حين بزغ فجر الإسلام، فلعل العدد لم يكن يتجاوز ربع مليار نسمة! ولم يبلغ عدد سكان العالم المليار حتى عام 1850، أي قبل قرن ونصف من الزمان تقريباً! ويفترض أن جميع من ولدوا وعاشوا على سطح الأرض، منذ عهد الإنسان الأول وحتى يومنا هذا، لا يتجاوز تعدادهم الخمسين مليار! فإذا كان عدد سكان الأرض حالياً يزيد على ستة مليارات فإن ذلك يعني أن تعداد جميع من سكن الأرض من البشر يعادل تقريباً عشرة أضعاف عدد السكان الحاليين ليس إلا! فكيف لا تحمر وجوه الطغاة المتألهين خجلاً وهم يرتكبون جرائمهم الفظيعة بحق الناس، في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها، ويحولون حياة البشر عموماً الى شقاء مقيم؟ لكنهم ليسوا بشراً أسوياء، والخجل عاطفة إنسانية إيجابية يتمتع بها البشر الأسوياء!

نسلّم للزلزال، ولا نسلم للطغاة!

في منطقتنا تقارن الذاكرة الجمعية بين حادث الزلزال الهائل وبين جرائم الأميركيين والصهاينة، الذين يمارسون القتل والتدمير على مدار الساعة وعلى أوسع نطاق، فتأتي المقارنة لصالح الزلزال، حيث الحكمة تتقبل قضاء الله وتتفهمه، لكنها لا تتقبل ولا تتفهم جرائم الطغاة الأشقياء!

ليس للإنسان يد في بدايات الحياة ونهاياتها، فهذا خارج نطاق إرادته، ويتوجب عليه أن يسلّم بها راضياً، وحتى العلماء المعاصرون يتحدثون عن ماض ومستقبل لا حيلة لنا فيه، مثل عصور الجليد القديمة الطويلة واحتمال عودتها التي لا نملك أمامها ما نفعله، مثلما لا نملك أمام الزلازل ما نفعله! غير أن الإنسان مسؤول عن حياته وقادر على تنظيمها بما يتفق مع دورة الحياة الإجمالية، لأن حياته الجمعية ومضة يقترض أن تتوازن وتنسجم مع الوقائع العظمى، الملموسة والمفترضة، لدورة الحياة الإجمالية التي لا يدّ له في بداياتها ونهاياتها!

إن العبرة الأهم التي نستخلصها من حدث زلزال المحيط الهندي هي أن "نعمل لدنيانا كأننا نعيش أبداً"، وهذا يقتضي أول ما يقتضي وضع حدّ لجرائم الطغاة المتألهين، وتحقيق الانسجام بين دورة الحياة البشرية الصغرى وبين دورة الحياة الكونية العظمى، ثم أن "نعمل لآخرتنا كأننا نموت غداً"، وهذا يقتضي أول ما يقتضي أن نتواضع في كل الأمور، وأن نسلّم بأننا مجرّد كائنات عاقلة، مخلوقة وخلاقة، لا تملك من أمر وجودها وزوالها شيئاً! 

www.snurl.com/375h

 

Hosted by www.Geocities.ws

1