الشركات الربوية تخصخص الحرب في العراق!

بقلم: نصر شمالي

تتعالى الصيحات في أكثر من مكان مندّدة بالحرب ضدّ العراق، داعية إلى وقفها باعتبارها مجرّد تورّط أحمق، ومن جهة ثانية تتعالى صيحات أخرى مندّدة بالعنف المسلّح المقاوم، وتتصيّد بعض الإرتكابات التفصيلية الميدانية لتتكىء عليها في إدانة المقاومة المسلحة عموماً، فسواء في العراق أم في فلسطين يدعو بعض العرب بحزم إلى التوقف عن العمليات الحربية والتحوّل إلى طاولة المفاوضات، وإن في هذا كله، إذا ما أحسنّا الظن، سذاجة وسطحية لا حدود لهما، لأن  العمليات العسكرية الحربية فرع أساسي من فروع العمل الاقتصادي التجاري الرأسمالي، وهي حالة لازمت النظام الرأسمالي العالمي في جميع مراحل تطوره، باعتباره يقوم أساساً على اقتناص الفرائس، وإن مطالبته بالتوقف عن شنّ الحروب تشبه مطالبة الضواري بالكفّ عن مهاجمة القطعان!

إن حروب النظام الرأسمالي العالمي، التي تشكل ركناً أساسياً من أركان مكوناته ووجوده، لا يمكن إيقافها بالتفاهم السلمي والحوار الفكري. وإذا كانت المفاوضات واردة، بل ضرورية، فإنها ممكنة فقط عندما تكون مدعومة بإرادة القوى المسلحة المتقابلة في ميدان الصراع، أما الذهاب إلى المفاوضات من دون قوة ميدانية مسلحة صامدة، أو بعد حلّ مثل هذه القوة وتجريدها من السلاح، فهو يعني القبول المسبق بنتيجة واحدة هي الانصياع والاستسلام الكامل، ومن يقبل ويفعل ذلك فهو إنما يعبّر عن قبوله بحياة العبودية!

الرهان على ديمقراطية الرأسماليين!

هناك من يراهن على الأخلاق الحضارية والتقاليد الديمقراطية للاحتكاريين الربويين، وخاصة الأنكلوسكسون في بريطانيا والولايات المتحدة، بل هناك من لا يتورع عن تبرير العمليات العدوانية في العراق وفلسطين باستفزازات أهل العراق وأهل فلسطين وسوء تقديرهم السياسي، فيتوجهون باللوم بل بالإدانة إلى أبناء أمتهم بالدرجة الأولى! غير أن التاريخ يخبرنا أن الرأسماليين المستعمرين كانوا دائماً يضعون جانباً على الفور جميع ما يزعمونه، من عشق للحرية والتقاليد الديمقراطية وحقوق الإنسان، عندما تتعرض مصالحهم لأدنى مقدار من الخطر، وهم يقدمون على فعل ذلك في بلادهم مثل غيرها، فعندما نشبت الحرب العالمية الأولى تحوّلت بريطانيا دفعة واحدة إلى دولة بوليسية تمارس القمع ضدّ الرأي وضدّ الصحافة والأحزاب، لأن الحركة التقدمية البريطانية كانت مزدهرة ونشطة ضدّ الحرب، أما قبل ذلك فقد عاشت بريطانيا لعشرات السنين في مناخ من الحرية بلغ الحدّ الأقصى، لأن مستعمراتها كانت ترسل إليها ثروات خيالية تكفي لقطع الطريق على أية انتقادات داخلية مؤثرة! وها هي الإدارة الأميركية اليوم تمارس سلطة امبراطورية بوليسية ضدّ إعلامها والإعلام في العالم عموماً، وقد رأيناها تستهدف الصحفيين في العراق ولا تتورع عن اغتيالهم عندما أظهروا حدّاً أدنى من الموضوعية والنزاهة، وهاهي تتحكم بمصادر الأخبار مرغمة إياها على عدم نقل الوقائع الحقيقية من ساحات القتال.

الحرب لا تتوقف، بل تتطور!

غير أن الحرب الملازمة لوجود النظام الاحتكاري الربوي العالمي تبدو اليوم، في العراق وفلسطين، وقد بلغت سوّية الذروة التي لا صعود بعدها، إنها ذروة الجبروت وذروة الصعود في الوقت نفسه، حيث لم يعد ثمة جبروت أكثر ولا صعود أكثر، وبدلاً من التقاط المعاني العميقة لهذه اللحظة التاريخية الفاصلة في حياة البشرية نجد هناك من يلطمون ويندّدون ويصخبون داعين إلى وقف الحرب عن طريق المفاوضات، وبعد إيقاف عمليات العنف والإرهاب من قبل المقاومين! والحال أن إيقاف هذه الحرب بالمفاوضات ليس في يدنا ولا في يد إدارة بوش، فمصير الحرب مرتبط بقوانين تطور النظام الرأسمالي وبمصيره، وها نحن نرى اليوم قطاع الشركات الخاصة المدنية وقد تعسكر ونزل بنفسه مباشرة إلى ميدان القتال ليندمج موظفوه في جملة الجنود النظاميين ويحاربوا معهم كتفاً بكتف!

إن إدارة بوش لم تفعل أكثر من البرهان بصورة أوضح من أي زمن مضى عن مقدار الاندماج التاريخي الذي تحقق بين الإدارات الحكومية الرأسمالية وبين الشركات المتعدّدة الجنسية التي يقودها اليوم الرأسمال الأميركي، ففي العام الماضي 2003 حصلت شركة هاليبرتون المتعدّدة الجنسية، التي يعتبر ديك تشيني نائب الرئيس أحد مديريها ورجالها الكبار، على عدد من العقود في العراق بلغت قيمتها أكثر من مليار دولار! إن أكثر من عشرين ألف شخص أرسلتهم الشركات الخاصة إلى العراق ليخوضوا الحرب جنباً إلى جنب مع الجنود، بل إن نشاط بعض الشركات الخاصة يقتصر كلياً على العمليات الأمنية القتالية، وقد زاد عددها عن خمس وعشرين شركة أميركية وبريطانية في معظمها!

إن عملية خصخصة الحرب التي تحققت في يوغسلافيا، والتي تطبق اليوم في العراق، تشكل أول تنفيذ عملي للمناهج الجديدة التي اعتمدتها واشنطن في ميدان تعميم سياسات الخصخصة الليبرالية. إنها عملية تحويل قطاع الدفاع الأميركي واقتصاده لمصلحة القطاع الخاص مباشرة، وهذا التحول سوف يعني افتعال المزيد من الحروب كي تستمر أعمال الشركات، وبما أن تنظيم الحروب يحتاج إلى إعداد الجيوش ، فقد بدأت عمليات تلزيم الشركات الخاصة أعمال إعداد وتجهيز الجيوش من جميع الجنسيات! وبالفعل قامت الشركات الأميركية بإعداد وتدريب جيوش أكثر من أربعين بلداً خلال العقد الماضي، وذلك في إطار برامج التعاون العسكري مع بلدان في أميركا اللاتينية وأفريقيا وبعض البلاد العربية والإسلامية. وبالطبع فإن إعداد وتدريب الجيوش يعني ، من جهة أخرى، سهولة التحكم بعملياتها الحربية المنشودة، وبنتائج مثل هذه العمليات التي يفترض أن تصبّ أرباحها الفاحشة في خزائن الشركات!

السخفاء والسفهاء ينشغلون بالصغائر!

لقد احتلت الشركات العسكرية الخاصة مواقع قيادية حيوية في نظام الدفاع الأميركي، وصارت قادرة على فرض منطقها الخاص (ومعاييره الربح التجاري) في الحملات العسكرية، كما يحدث الآن في العراق. إن هذه الشركات، مصاصة الدماء، تحاول الإنغراس عميقاً في التربة العراقية وفي الجسد الاجتماعي العراقي عبر ما لا يحصى من الوظائف والمهام، بينما المقاومة تحاول الحيلولة دون ذلك على جميع الجبهات، وهذا ما يفسّر لنا عمليات اختطاف بعض الأفراد، ونسف بعض الحافلات والمراكز، بغض النظر عن مدى الدقة والصواب في مثل هذه العمليات، وما يفسّر لنا الاستماتة في عدم السماح بتشكيل حكومة وقوات محلية موالية للشركات، وأيضاً يفسّر لنا الاستماتة في عدم السماح بتدفق النفط العراقي إلى الخارج لصالح الشركات، علماً أن شركة "إيرينز إيراك ليمتيد" الخاصة هي التي تتولى حماية المنشآت النفطية في محيط خط أنابيب نفط كركوك – جيهان، بعد أن رسى عليها التلزيم!

في قطاعات الإمداد والتموين، والصيانة، والهندسة، وتطوير أنظمة التسلح، والمساهمة في العمليات القتالية، زاد عدد موظفي الشركات الخاصة من واحد مقابل مائة جندي عام 1991 خلال حرب الكويت، ثم واحد مقابل عشرة جنود في عام 2003 في العراق، أما اليوم فقد أصبح عدد الموظفين واحداً مقابل كل أربعة من الجنود الأميركيين في العراق!

خلاصة القول هي أن السخفاء والسفهاء وحدهم ينشغلون بحماقات بوش الشخصية، وببعض أخطاء المقاومة الميدانية، عن القضية العظمى التي تتناول مصير أمتهم ومصائر الأمم جميعاً، فأمتنا ليست في موقع الاختيار والإقناع، أو الإملاء والاشتراط، بل هي في موقع الدفاع عن وجودها الأولي المعرّض للاستئصال في حروب لم تسع إليها، بل هي حروب من نتاج وخاصية نظام عالمي ربوي احتكاري يتوجب علينا على الأقل عدم تمكينه من دمائنا وأرواحنا، وضمان بقائنا على قيد الحياة، في هذه المرحلة الانتقالية الحرجة التي يجتازها العالم!

www.snurl.com/375h

Hosted by www.Geocities.ws

1