الذين يريدون دحض البديهيات الهندسية !

بقلم: نصر شمالي

يقول زبيغنيو بريجنسكي، الشخصية الديمقراطية الأميركية البارزة، في واحد من آخر أحاديثه ما يلي:" يواجه العالم بأسره أزمة لم يسبق لها مثيل. إن اضطرابات سياسية شديدة تشهدها المساحة الكبيرة من العالم الممتدة من جنوب آسيا إلى المحيط الهندي، ومن السويس إلى سنكيانغ، وتشكل هذه المناطق خطاً أيديولوجياً فاصلاً لا يضعها في مواجهة الولايات المتحدة وحسب بل أيضاً في مواجهة العالم الغربي بكامله"!

ولكن، لماذا تضع الاضطرابات السياسية هذه المناطق الآسيوية والأفريقية في مواجهة الولايات المتحدة وأوروبا حسب بريجنسكي؟ جوابه هو: لأنها تسببت في أزمة ليس لها مثيل تواجه العالم بأسره! وبما أن الآسيويين والأفارقة لا يطمعون بالاستيلاء عنوة على ثروات أميركا وأوروبا، ولا يفكرون قطعاً باجتياحهما وإخضاعهما، بينما العكس يحدث طوال الوقت، فلابد أن بريجنسكي يعتبر المناطق التي حددها ممتلكات للأوروبيين والأميركيين وليس لأصحابها، وأن الاضطرابات فيها تعيق تصرّف المالكين بممتلكاتهم، أما العالم فهو يقتصر، ولا بد، حسب المفاهيم الغربية، على أميركا وأوروبا! وباختصار، فإن بريجنسكي وأمثاله يعتبرون بلدانهم التي تشكل الخمس هي العالم الذي يملك كل شيء، ويعتبرون البلدان التي تشكل الأخماس الأربعة مجرّد مجال حيوي، مثلما لو كانت كواكب أخرى لا ضير أبداً في استباحتها من قبل الخمس المختار! وهكذا يسترسل بريجنسكي متحدثاً عن صدام الحضارات مثلما لو أنه يتحدث عن صدام كواكب متباعدة تفصلها مليارات السنين الضوئية، ويدعو أوروبا للتعاون مع الولايات المتحدة لدرء أخطار الكواكب الأخرى من جهة، وللسيطرة التامة عليها واستثمارها من جهة ثانية!

جرائم الرؤساء، أم جرائم النظام ؟

والحال أن أوضاع العالم لم تكن في أي زمن مضى أشدّ وضوحاً وقابلية للفهم والحسم مثلما هي عليه اليوم، أما تعابير بريجنسكي وأمثاله فهي مجرّد محاولات لتضليل البشرية بجعل الأوضاع تبدو غامضة، مأساوية، وجعل الولايات المتحدة وأوروبا وحدهما قادرتين على معالجتها بالقوة المسلحة عندما يقتضي الأمر ذلك!

غير أن المسلمات العلمية المجرّبة، المعروفة منذ أكثر من قرن ونصف، توضح لنا بجلاء أن الفوارق الاقتصادية بين الأمم، والفوارق المعيشية بين الطبقات، هي من طبيعة النظام الرأسمالي العالمي، وأنها هي التي تحدّد وظائفه، وتقرر مصائره في النهاية، وأن نظام الحريات الديمقراطية الرأسمالي الذي يعتمده بريجنسكي وأمثاله، لا يخفّف من حدّة الفوارق بين الأمم والطبقات، بل يزيدها شدّة وتفاقماً، لأن العملية الديمقراطية البرلمانية الرأسمالية لا تعدو كونها تضليلاً وتخديراً للضحايا من جهة، وتمويهاً لأجهزة الاضطهاد والقمع والتدمير الشامل من جهة أخرى، وبالطبع فإن رؤية هذه الحقيقة العلمية الثابتة والمعاشة لا تحتاج إلى وجود الاتحاد السوفييتي، فهي كانت قائمة قبل ظهوره، وهي استمرت أثناء وجوده، ولا تزال مستمرة بعد زواله إنما بصورة أشدّ ضراوة وفتكاً وتطاولاً، وها هي الولايات المتحدة، الأولى في العالم بتجربتها البرلمانية الديمقراطية، تمارس عمليات الإبادة الشاملة في أفغانستان والعراق وفلسطين كما لم يشهد العالم من قبل أبداً، وهاهي الديمقراطية البريطانية العريقة تساندها عسكرياً وسياسياً، وهاهي "الواحة الديمقراطية" الصهيونية تسير في ركابها وتباريها في جرائمها، فهل نعتبر ذلك مجرّد ممارسات خاطئة أقدم عليها بوش وبلير وشارون، أم أنه الجوهر الاستبدادي الإبادي للنظام الاحتكاري الربوي العالمي، حيث هذا النظام لا تقوم له قائمة إلا على أساس تأكيد الفوارق الاقتصادية بين الأمم والتفاوت المعيشي بين الطبقات ؟

إدارة الظهر للفكر العلمي !

ولكن حدث اليوم أن أوساطاً كانت محسوبة على الفكر العلمي أدارت ظهرها لهذا الفكر، وصارت تتجاهل المسلّمات المجرّبة، بل تحاربها محاولة دحضها، فكأنما هي تحاول دحض البديهيات الهندسية! وإلا فكيف يهرب عاقل من همومه المحلية مهما عظمت متوهماً الأمن والسلام والرفاه لشعبه ولطبقته في ظلّ نظام الاحتكار الربوي الصهيوني العالمي، القائم في جوهره على الاضطهاد والقمع والتدمير الشامل، والمنتج لأنظمة الاستبداد عموماً، سواء منها من تعمّد الاستبداد أم من أرغم عليه؟!

إن هذه الأوساط، التي أدارت ظهرها للفكر العلمي، تصرّ على أن ما يحدث في العالم من مآسي حربية إبادية مبّرر بسبب الإرهاب الذي يمارسه الضحايا، أما إذا كانت ثمة مسؤولية تقع على عاتق الأنظمة الديمقراطية المتحضرة، فإن هذه المسؤولية تقتصر على الرئيس الأميركي المحافظ والرئيس البريطاني "المنحرف عن عماليته"، والرئيس الإسرائيلي اليميني المتطرف، وأن ما يحدث مؤقت وعابر وثانوي، يمكن تجاوزه بالانتخابات الديمقراطية الدورية، حين تفوز إدارات أخرى من الحزب الديمقراطي الأميركي، ومن حزب العمل الإسرائيلي، و.. لا ندري أي حزب في بريطانيا طالما أن العمال هم الذين يحكمون الآن!

الارتداد إلى ما قبل الطوباوية!

إن الأزمة العالمية التي لم يسبق لها مثيل، التي يواجهها العالم اليوم كما قال بريجنسكي، هي تأكيد على صحة تحليلات الفكر العلمي، وليس على صحة استنتاجات بريجنسكي وأمثاله، وهي في تفاقمها وتعاظم حدّتها تكشف من جهة زيف النظام البرلماني الديمقراطي الرأسمالي وجوهره الاستبدادي القمعي، وتكشف من جهة ثانية إفلاسه وبلوغه نهاياته، واقتراب البشرية موضوعياً من عملية الانتقال إلى نظام عالمي عادل، لكن الذين أداروا ظهورهم للفكر العلمي يتمسكون اليوم بالنظام الرأسمالي ويعوّلون على "ديمقراطيته" في اجتراح معجزة خلاص العالم! ويحدث هذا في وقت تشنّ فيه الديمقراطية الاحتكارية حروباً ضخمة، إبادية، ضدّ شعوب صغيرة شبه عزلاء، وتتعثر في عملية إخضاعها، على الرغم من عدم وجود نظام رسمي واحد في جميع القارات يعترضها جدّياً وميدانياً، الأمر الذي يؤكد ما ذهب إليه التحليل العلمي منذ القديم بصدد مصائر الاحتكارات الرأسمالية التي تحفر قبرها بيديها! غير أن "جماعتنا" ارتدّوا في هذه اللحظة التاريخية الانتقالية إلى مرحلة ما قبل الطوباوية، لأن الطوباويين في أواسط القرن التاسع عشر كانوا متقدمين على "جماعتنا" الآن، ينتقدون المجتمع الرأسمالي بقسوة، ويشجبونه بشدّة، ويلعنونه على مدار الساعة، ويحلمون بإزالته وبنظام بديل أفضل، على الرغم من عجزهم عن تصور المخرج الحقيقي، بينما المرتدون اليوم يشيحون بوجوههم عن جميع ما استجد من علوم ومعارف ووسائل لم تكن متاحة للطوباويين، ويجادلون لصالح النظام الاحتكاري الربوي العالمي، ويتشبثون بقابليته للتطور إيجابياً وإنسانياً، ديمقراطياً وبرلمانياً، في جميع أنحاء المعمورة!

www.snurl.com/375h

 

Hosted by www.Geocities.ws

1