التأسيس لمدينة عالمية واحدة غير فاضلة !

بقلم: نصر شمالي

تحوّلت الولايات المتحدة علناً من دولة مصدّرة ودائنة إلى مستوردة ومديونة في أواخر العقد السابع من القرن الماضي، وقد حدث ذلك بينما هي منصرفة لتعزيز نفوذها السياسي والعسكري في جميع القارات، وبينما حلفاؤها وأتباعها في أوروبا الغربية واليابان يراكمون الثروة بعد أن أعفتهم واشنطن إلى حدّ كبير من أعباء الإنفاق العسكري، وغفلت عنهم وهم ينصرفون بمعظم جهودهم إلى الإنتاج والتجارة! لقد وجدت الولايات المتحدة نفسها فجأة تدفع باهظاً ثمن تفوقها ونفوذها العسكري والسياسي على حساب نشاطها الإنتاجي والتجاري، حيث الجزء الأعظم من الكتلة النقدية العالمية تكدّس في أوروبا الغربية واليابان، وحيث ذلك كان بالمصادفة التاريخية تعويضاً كبيراً لتلك الدول عن تقهقرها سياسياً وعسكرياً أمام واشنطن!

في تلك الفترة (أواخر الستينات) انهمك قادة الولايات المتحدة من الحزبين في معالجة تلك المعضلة الهائلة، ولم يجدوا أمامهم لمواجهة ذلك التطور التاريخي الخطير الذي تعرّضت له مكانتهم وهيمنتهم سوى ابتكار أساليب غير شرعية وغير معتادة، تقوم على صياغة العلاقات الدولية وإدارتها بواسطة القسر والإكراه وفرض الأتاوات، وبدأ مفكروهم بالفعل في صياغة أشكال للعلاقات الدولية تتفق مع تصميمهم على الانفراد بإدارة العالم والتحكم به لصالحهم قبل كل شيء، فكان من أبرز هؤلاء المفكرين الديمقراطي زبيغينو بريجنسكي، الذي أعدّ كتاباً عنوانه "بين عصرين" ترجمه إلى العربية الأستاذ محجوب عمر وأصدرته دار الطليعة في بيروت عام 1980.

النخب في مواجهة الأمم!

لقد تضمن كتاب بريجنسكي الفكرة التي أصبحت شائعة وهي أن الكرة الأرضية صارت "مدينة عالمية واحدة"، فلا قوميات ولا وطنيات ولا حدود ولا إيديولوجيات، بل عالم /مدينة تحولت فيه الدول إلى حارات وأحياء، وتقف فيه النخب الأرستقراطية (اقتصادياً وسياسياً وثقافياً) في مواجهة الحارات/ الدول المغلقة المتمردة أو المارقة، وفي مواجهة الحارات/ الدول الضعيفة المغلوبة على أمرها، حيث بيوت الصفيح التي تعجّ بالعصابات!

في ذلك الكتاب تحدث بريجنسكي عن "مدينة عالمية واحدة" قال سلفاً أنها لن تكون فاضلة، ولم يشر أبداً إلى إمكانية التفكير بإصلاحها، بل أصرّ على بقائها غير فاضلة، يديرها الأميركيون بالتعاون مع النخب العالمية الموحدة لصالح الأرستقراطية العالمية الموحدة! فالعصابات/ الشعوب يجب أن تبقى، وأحياء الصفيح/ الدول يجب أن تبقى، وعلى الإدارة الأميركية أن تحسن إدارة هذه المدينة العالمية غير الفاضلة كما هي، فتعمل مثلاً على مأسسة الجريمة (المقاومة) كي يسهل تنظيم العلاقات معها، أما العصابات (المقاومة) غير الممأسسة فيجري التعامل معها بشنّ الغارات المسلحة ضدّها من وقت لآخر، للتخفيف من غلوائها وليس لاجتثاثها تماماً! لقد وضع بريجنسكي صورة لعالم من مدينة واحدة، من شاكلة شيكاغو ونيويورك في النصف الأول من القرن العشرين، حيث الغارات ضدّ العصابات تشنّ لحفظ التوازن وليس للقضاء عليها نهائياً، لأن وجودها مكوّن أساسي من مكوّنات البنية الأميركية!

في حينه، علّق الفرنسي جان بييركوت على ما جاء في كتاب بريجنسكي بصدد عصر "المدينة العالمية الواحدة" القادم قائلاً:" إن هدف بريجنسكي هو الحفاظ على الموقع المتفوق للغرب الرأسمالي الصناعي في العالم، والحفاظ على موقع الولايات المتحدة المتفوق ضمن الغرب الرأسمالي الصناعي المتقدّم"!

نماذج من أفكار بريجنسكي ؟

يقول بريجنسكي في كتابه :"إن السلطات في كل مدينة تفضل التعامل مع الجريمة المنظمة لامع الجريمة الفوضوية. إن السياسة في المراكز السكانية الأميركية هي خريطة نموذجية في هذا المجال، حيث نجد المصالح الخاصة، ومجموعات الضغط، والتجمعات الإثنية، والمنظمات السياسية، والمؤسسات الدينية، والقوى الصناعية والمالية الكبرى.. حتى عالم الإجرام السفلي، ونجد كل ذلك يتفاعل في نمط واحد يشمل حرباً محدودة مستمرة، وتكيّفاً في الوقت نفسه! إن السياسات العالمية تكتسب الآن بعض السمات المشابهة لذلك، فالأمم من مختلف الأحجام، وفي مختلف المراحل التاريخية للتطور، تتفاعل فتخلق الإحتكاك والأنماط المتنوعة من التكيّف والتحالفات المتغيّرة. وبينما تحافظ القواعد الرسمية للعبة في زمن الحرب على وهم أنها لعبة يلعبها أولئك المسمّون "دولاً" فقط، فإن اللعبة تتم في غير زمن الحرب على أساس غير رسمي أوسع بكثير، فبعض الدول تملك سلطة مسيطرة، وبعضها الآخر (الفقيرة) تعيش في كنف شركات دولية كبرى أو في كنف البنوك الكبرى، ولذلك تصبح عملية مواكبة النزاعات الدولية مشابهة لعملية مواكبة التنافر في المدينة! إن إحدى السمات المميزة للتجمعات البشرية الكثيفة هي تحويل النزاعات إلى أمر روتيني، وبذلك يصبح العنف المباشر أكثر تنظيماً ومحدودية، حتى يصل في النهاية إلى درجة يمكن اعتباره معها مجرّد انحراف عما هو نموذجي، وعلى ذلك تتم إقامة قواعد عمل منظمة لإخضاع العنف وحصره في حدود مقبولة اجتماعياً، ويسمح بدرجة معينة من الجريمة على أساس أنه لا يمكن تجنبها! لذلك، وفي سبيل النظام، تفضّل الجريمة المنظمة على العنف الفوضوي، وتصبح الجريمة المنظمة بشكل غير رسمي وغير مباشر امتداداً للنظام! إن الأسلحة ذات القدرة التدميرية الشاملة صار ممكناً استخدامها ضدّ أية نقطة على الكرة الأرضية خلال بضع دقائق، وهو زمن يقلّ عن الزمن الذي تحتاج إليه الشرطة في مدينة كبيرة كي تلبي نداء طارئاً. لقد أصبحت الكرة الأرضية كلها في متناول اليد. إن أهمية الروابط عبر الأمم آخذة في الإزدياد، بينما دعاوى القومية تتناقص شيئاً فشيئاً، وهذا التغيّر قطع شوطاً بعيداً في البلاد الأكثر تقدماً، والنتيجة المترتبة هي مرحلة جديدة: مرحلة العملية السياسية العالمية! إن حروب العالم السفلي في المدينة لا تؤدي إلى استياء كبير إلا حين ينفجر العنف ضدّ السلم الاجتماعي الذي تمثله المصالح الكبيرة المكتسبة كالمصارف والمتاجر والملكية الخاصة، وهكذا تبدو الحروب في العالم الثالث محمولة طالما بالإمكان الإحاطة بمداها الدولي عند مستوى لا يهدّد المصالح الكبرى! إن "المدينة العالمية الواحدة" تفتقر للشعور بالانتماء، وإن كثيراً من المحاولات الحالية في البحث عن النظام هي محاولات لخلق هذا الشعور، أو للعثور على معادل قريب منه.. " الخ!

الجمهوريون يطبقون أفكار الديمقراطيين !

لقد اعتمد بريجنسكي الديمقراطي في صياغة أفكاره على خلفية علمانية، أما الجمهوريون في عهد ريغان وبوش الأب وبوش الابن فقد اعتمدوا في تطبيقها على خلفية لاهوتية، وهاهو القس اللوثري روبرتسون يقول في كتابه (النظام العالمي الجديد) أن "المجموعة الأوروبية وهيئة الأمم ليستا سوى واجهتين لقوى شيطانية تسعى لانتزاع جميع ممتلكاتنا وقيمنا، ولذلك يجب أن تكون هناك حكومة عالمية وقوة شرطة دولية"! أما جورج بوش الابن فقد أعلن في ولاية بنسلفانيا، أثناء الحملة الانتخابية الأخيرة، مايلي:" لقد ذهبت إلى العديد من القمم لكنني لم أجد أياً منها يبحث قضية الإطاحة بطاغية، أو تقديم إرهابي إلى العدالة. إن وظيفة الرئيس (الأميركي) ليست إجراء استطلاعات للرأي الدولي، بل هي الدفاع عن أميركا، واستخدام القوات المسلحة يجب أن لا يكون أبداً خاضعاً لفيتو من قبل دولة مثل فرنسا"!

إن الجمهوريين يندفعون اليوم لتنفيذ فكرة الديمقراطيين وتأسيس "المدينة العالمية الواحدة" بسطحية وفظاظة تكشفان ضحالتها واستحالتها وتعرضانها لخطر السقوط السريع، وهذا ما يزعج الديمقراطيين، فكلا الحزبين أدارا ظهرهما للتاريخ البشري واعتبراه منتهياً، وكلاهما مصممان على نسف الذاكرة الجمعية الإنسانية، وعلى تحويل الأمم إلى مجرّد قطعان بشرية يقودها الكاوبوي، فهل هذا قابل للتحقق؟! الجواب طبعاً هو النفي.

www.snurl.com/375h

 

Hosted by www.Geocities.ws

1