إعادة إعمار العراق تعني التهامه بالكامل !

بقلم: نصر شمالي

من يوغسلافيا المنهارة، إلى العراق الصامد، إلى السودان المتأهب، تنطلق فرق الشركات الربوية عابرة القوميات في سباق محموم للاستيلاء على ممتلكات هذه البلدان! إنها شركات المال الحرام والأعمال الشائنة غير المشروعة! إنها الشركات التي تخطت الانتماء الوطني والقومي والإنساني، وتخطت القوانين السماوية والوضعية، غير آبهة لأي اعتبار أخلاقي، فلا شفقة ولا رحمة ولا تردّد في تدمير المدن على رؤوس ساكينها وإبادة مئات الألوف من الأطفال والنساء والشيوخ! إن فرق هذه الشركات تنطلق في أعقاب الجنود الذين يمهّدون لها الطريق بتدمير المجتمعات البشرية التي تشكل عائقاً يحول دون وصولها إلى أهدافها الوضيعة، وهذا العائق ليس عسكرياً بالضرورة، وليس مقاوماً مسلحاً بالضرورة، بل كثيراً ما يكون مسلحاً بإرادته المعنوية وبالقوانين فحسب، غير أن ذلك لا يشفع له، فالجنود النظاميون الذين يقومون بدور العصابات المسلحة في خدمة الشركات الربوية يعاملونه معاملة المحارب المسلح، كما هو الحال في مدينة الفلوجة الشهيدة الباسلة.

التهام بلدان الاتحاد اليوغسلافي بالكامل !

إنهم ينطلقون للاستيلاء على ممتلكات الشعوب الأخرى عنوة واقتداراً، وعندما تنهض الشعوب لمقاومتهم دفاعاً عن وجودها يلصقون بها تهمة الإرهاب، وتهمة اضطهاد أقلياتها، وتهمة العداء للحضارة تحت عنوان صراع الحضارات! إنها التهم اللفظية التي لا تعني سوى تغطية عمليات الإخضاع والسلب والنهب التي ينطلقون لتحقيقها، ففي عام 1999 وبّخ توني بلير حكومة بلغراد الجديدة لفشلها في برنامج "الإصلاح الاقتصادي" أو "إعادة الإعمار" الذي يعني تطبيقه تسهيل التهام بلدان الاتحاد اليوغسلافي السابق، ولم يوبخها على جرائمها في إقليم كوسوفو! والحال أن قاذفات القنابل الثقيلة، الأميركية والإنكليزية، التي ألقت أطنان القنابل ضد المدن اليوغسلافية كان هدفها الفصل بين المجتمع وبين ممتلكاته التي سوف يتم الاستيلاء عليها من قبل الشركات الربوية بعد "خصخصة" جميع الأصول المملوكة من الدولة والمجتمع! لقد كانت يوغسلافيا آخر كتلة اقتصادية كبيرة في الجنوب الأوسط من أوروبا، وكانت لا تزال خارج دائرة هيمنة الشركات التي تعمل انطلاقاً من الغرب، حيث الإدارة الذاتية كانت ما تزال هي السائدة فيها.

لقد شملت الملكية العامة في يوغسلافيا صناعة البترول، والمناجم، والسيارات، والتبغ، حيث 75% من الصناعات كانت قطاعاً عاماً أو قطاعاً مملوكاً اجتماعياً، وحسب قانون "الخصخصة" الصادر في بلغراد عام 1997، حدّدت للعمال نسبة 60% من الأسهم، فجن جنون الأميركيين والإنكليز، وجرى اعتقال الرئيس سلوبودان ميلوسيفيتش باعتباره "مجرم حرب"! وجيء بحكومة طيّعة تقبل بأن تبيع للشركات والمستثمرين الأجانب 70% من القطاع الاقتصادي المملوك من قبل الدولة والمجتمع، وأن تبقي للعمال 15% من الأسهم، ومثلها للدولة!

في العمليات الحربية الضخمة التي قام بها الأميركيون وحلفاؤهم عام 1999 ضدّ يوغسلافيا، استهدف القصف العنيف الشركات المملوكة من قبل الدولة والمجتمع أكثر مما استهدف القوات العسكرية، فقد دمّروا 14 دبابة يوغسلافية فقط، لكنهم قصفوا 372 منشأة صناعية تحوّل عمالها إلى عاطلين، أما المصانع الأجنبية ومصانع القطاع الخاص فلم تتعرض إطلاقاً لأي قصف أو أي أذى!

لقد كانت الغنيمة الأعظم للغزاة في يوغسلافيا هي الثروات في إقليم كوسوفو: احتياطات الفحم في أوروبا، كميات هائلة من الفحم الحجري، والرصاص، والزنك، والذهب، والفضة، والبترول! أما جوهرة الغنائم فهي مجمع مناجم تريبتشيا الذي كانت قيمته عام 1997 في حدود خمسة مليارات دولار، وقد استولى على هذا المجمع 2900 من جنود حلف الناتو، وطردوا عماله ومديريه بقنابل الغاز والرصاص المطاطي! باختصار: إن ما حدث في يوغسلافيا كان عملية سلب ونهب عملاقة، وإعادة إعمارها لا تعني سوى إعادة إنتاج ما يستحق السلب والنهب، يقوم فيها المجتمع بدور الخادم المأجور، أما جميع ما قيل عن أسباب الأحداث فهو إما مختلق لا أساس له، وإما ثانوي جداً جرى تضخيمه إلى المستوى الكافي لشنّ الحرب!

التهام أصول الدولة العراقية!

في العراق، انطلقت أيضاً فرق الشركات الربوية، خلف الجنود المدجّجين بالسلاح الحضاري الديمقراطي! ومنذ اللحظات الأولى للاجتياح بدأ الانقضاض على أصول الدولة العراقية والتهامها. لقد أمسكت الآلة العسكرية الأميركية بالعراق لشلّ مقاومته، وأطلقت أيدي فرق الشركات الربوية في عمليات نهب الغالي والرخيص، والثقيل والخفيف!

غير أن ما حدث في العراق هو تطلع الأميركيين إلى الانفراد بالفريسة والتهامها لوحدهم بواسطة شركاتهم التي يملك بعضها وأهمها حكام واشنطن بالذات، فكانت تلك غلطة وبخّهم عليها "عقلاء" الولايات المتحدة، حيث الاحتلال الأميركي للعراق يحتاج إلى إمكانيات الأوروبيين المادية والسياسية، خلافاً لما توهمه بوش وتشيني ورامسفيلد وبقية الفريق الحاكم، وعندما اصطدموا بتصاعد المقاومة العراقية الباسلة خلال أشهر قليلة كانوا قد التهموا أصول الدولة، وفككوا أجهزتها، ليجدوا أنفسهم معلقين في الفراغ، فما التهموه يفترض أنه لا يتجاوز على ضخامته "المقبّلات" الفاتحة للشهية، فإما أن ينسحبوا وإما أن يتابعوا! وكانت المتابعة تعني السيطرة على المجتمع، وتعني نجاحهم في افتعال حرب طائفية وعرقية على الطريقة اليوغسلافية، وتعني تشكيل حكومة وقوات محلية تابعة، وضمان استمرار الإنتاج في حقول النفط خاصة، وهذا جميعه بدا صعباً للغاية من دون مساعدة الأوروبيين الدهاة، الذين استبعدوا منذ البداية بطريقة مهينة!

اليوم، يريد الأميركيون الحصول على مساعدة الأوروبيين لقاء حصة معقولة من الغنائم التي يجري تقاسمها تحت عنوان "إعادة إعمار العراق". غير أن أوضاع الاحتلال في العراق اضطربت أشدّ الاضطراب بفضل المقاومة، بحيث يبدو شبه مستحيل إجراء الانتخابات الصورية العامة الموعودة، ويبدو شبه مستحيل إقامة حكومة قوية موالية وتشكيل قوات محلية كافية، الأمر الذي يجعل الأوروبيين مترددين في تلبية نداءات الأميركيين بالمساعدة، ويدفع القوات الأميركية إلى الإيغال في ارتكاب الجرائم البشعة، التي بدأت تأخذ شكل عمليات إبادة جماعية للعراقيين، كما هو الحال في الفلوجة الشهيدة البطلة. لكن العراق ليس الفلوجة وحدها فحسب، علماً أنها قادرة يقيناً على الانبعاث المقاوم بصورة متجدّدة، ناهيكم عن أن القضية ليست قضية العراق وحده، فالسودان وغيره على الطريق هدفاً لفرق الشركات الربوية المتوحشة، وبالتالي فإن باب الاحتمالات الكبرى مفتوح على مصاريعه، ولا يستطيع أحد الجزم أنها احتمالات في صالح الأميركيين!

www.snurl.com/375h

 

Hosted by www.Geocities.ws

1