الثورة الملعونة والنفط المسروق !

بقلم: نصر شمالي

عندما يتحدث الأميركيون عن أوضاعهم العسكرية القتالية في العراق فإنهم لا يخفون ارتباكهم وقلقهم وعجزهم وإن هم حجبوا معظم التفاصيل. لقد تكرر اعترافهم بالصعوبات الميدانية الهائلة التي تواجههم، بل أقرّوا علناً أن احتمال هزيمة كارثية ليس مستبعداً، وأنها إن حدثت فستكون أخطر بما لا يقاس من تلك التي حلّت بهم في فيتنام، فهل هم يقولون الحقيقة، أم يناورون لإخافة الشعب العراقي وابتزاز حلفائهم ؟ إنهم يوحون بأن المقاومة ليست في متناول أيديهم، وأنهم لا يستطيعون القطع بعد بحتمية دحرها وتصفيتها، أي أن الحرب لم تحسم ولم يربحوها وإن أكّدوا تصميمهم ومقدرتهم على ربحها، وإنه لمن الصعب أن لا يؤخذ ما يوحون به على محمل الجدّ، وأن نعتبره مجرّد مناورة، لأن نتائج عمليات المقاومة، بفعاليتها العظيمة الأثر، لا يمكن أن تكون غير جدّية، وورقة لعب يستخدمونها في مناوراتهم الإبتزازية ! غير أن الأميركيين يتحدثون في الوقت نفسه عن انطلاقة عمليات "إعمار العراق" السلمية! إنهم يستعرضون الأرقام والحصص، ويجرون الإتصالات مع الدول والشركات فيحرمون هذه ويمنحون تلك بناء على مواقفها من احتلالهم للعراق، فكأنما الحرب حسمت نتائجها لصالحهم قطعاً، فهل هم يعكسون نتيجة تأكدوا منها سلفاً، أم يناورون لاستدراج الحلفاء إلى القتال كي يساعدونهم في الخروج من مأزقهم؟

ليس من الحكمة، بعد ما عانيناه دهوراً من مفاجآت وخيبات، أن نسارع إلى الجزم بأن تناقض الخطاب الأميركي مفتعل أو حقيقي، غير أن ما يحدث هو أن البعض يصيخ بسمعه إلى أخبار المعارك العسكرية فيرى الحرب طويلة ومفتوحة على جميع الاحتمالات، والبعض الآخر يستمع إلى أخبار المعارك الإقتصادية ويعتبر الحرب منتهية ومحسومة لصالح الأميركيين، ليس في العراق فحسب بل في البلدان العربية جميعها أيضاً !

على أية حال، إن ما نستطيع القطع به هو أن الحرب ضدّ العراق بدأت في مطلع العام 1991، وكان مقدراً للاحتلال أن يكون فصلها الختامي الذي تنتهي به العمليات العسكرية وتبدأ العمليات الاقتصادية، غير أن ما أريد له أن يكون نهاية سعيدة تحول كما يبدو إلى بداية مقيتة، وإذا كان ثمة مناورات وألاعيب فإن ذلك لا ينفي ظهور مفاجآت جدّية غير متوقعة أربكت برنامج المحتلين وفتحت الباب أمام جميع الاحتمالات.

بلادة ذهنية تستدعي الدهشة !

إلى أن ينجلي الموقف أكثر في العراق، قد يكون من المفيد العودة إلى أمثلة قديمة تساعدنا على فهم هذا التناقض المربك في الخطاب الأميركي المتناقض. ففي عام 1919 كان العالم مدمّراً وملطخاً بالدماء بعد الحرب العظمى التي نشبت بين أطراف رأس المال الدولي الربوي، غير أن أصحاب الشركات الاحتكارية وحكوماتهم كانوا يتبادلون التهاني، ويفركون أيديهم حبوراً وغبطة، لأن صناديقهم فاضت بأرباح تلك المجزرة البشرية الهائلة! لقد كان كل شيء يسير على أفضل مايرام من وجهة نظرهم لولا ذلك الحدث الصغير الذي عكّر صفوهم قليلاً، وهو ثورة الرعاع الأوباش عام 1917، والتي كانوا على ثقة تامة من أنهم سرعان ما سوف يتغلبون عليها ويتجاوزونها كأن لم تكن ! وهكذا استمرت جيوشهم تخبّ في أطراف القيصرية الروسية المدمّرة، تتعاون مع المتمردّين ضدّ الثورة هنا وهناك، وتتسابق من أجل الاستيلاء على حقول النفط، وكل منها تمني النفس بالاستئثار بتلك الحقول واستبعاد حليفاتها، فقد اعتبرت حقول النفط تلك ثمرة من ثمار الحرب العالمية التي يحق للمنتصرين وحدهم قطفها!

لقد كان سلوك الاحتكاريين المرابين مدعاة للدهشة بالفعل، إذ هل يعقل أن تصل بهم البلادة الذهنية إلى ذلك الحدّ، وأن لا يساورهم أي قلق جدّي حول مستقبل حقول النفط؟ لقد اندفع الأميركيون والبريطانيون يدعمون الحكومات المرتجلة المفبركة في مقاطعات القوزاق وأرمينيا وأذربيجان، معتبرين مصير النفط محسوماً نهائياً لصالحهم، فانتقل البريطانيون من بغداد إلى باكو، عام 1918، وشرعوا في إعادة الحياة إلى صناعة النفط فيها، أما الأميركيون فكانوا يطمعون بالاستيلاء على نفط باكو بعد طرد مجلس الحكم الذي عيّنه الإنجليز وتعيين مجلس حكم موالٍ لهم!

جلد الدب قبل صيده !

عبر ذلك الصراع بين الحلفاء وقعت قصص غاية في الطرافة، فقد كان آل نوبل الذين فقدوا ممتلكاتهم الروسية ينتظرون في بولونيا انهيار النظام الجديد بين يوم وآخر، ويطالبون الحكومة الثورية بنصف الإنتاج الروسي من النفط متعامين عن رؤية تأميمه! ثم إنهم باعوا للأميركيين في عام 1920 _ وياللعجب _  كمية من كيروسين باكو مع أن الجيش الأحمر كان هناك! وواصل الأميركيون مفاوضاتهم مع آل نوبل وأقاموا معهم شراكة، ودفعوا لهم مقدماً نصف مليون دولار، ثم بلغت القصة الطريفة الذروة حين دفعوا مرة أخرى لآل نوبل مبلغ 11.5 مليون دولار مقابل حصتهم في نصف الشركة الجديدة، أي في ربع مجمل النفط الروسي! لقد تمّ كل شيء، فوقّعت العقود، ودفعت الأموال، ولم تبق أمامهم سوى مهمة بسيطة وصغيرة لم يتوقفوا عندها واعتبروها بحكم المنتهية، وهي إبادة الثورة الملعونة واستعادة النفط المسروق !

على الجبهة الأخرى لم يفت البريطانيين والهولنديين شيئاً مما يجري بين الأميركيين وآل نوبل، وبما أنهم بدورهم يملكون استثمارات نفطية ضخمة في حقول باكو القيصرية، كانوا قد اشتروها من آل روتشيلد، فقد قرروا التحرّك على جبهتين: أولاً، على جبهتهم الخاصة باعتبارهم مالكين سابقين، ثانياً، على جبهة.. الحكومة الثورية! نعم، على جبهة البلاشفة، أي الإتصال بالملاعين، الملحدين، الرعاع، اللصوص، الذين سيسقطون بين يوم وآخر.. والإتفاق معهم سراً! وقد علم الأميركيون بذلك، وتنبهوا إلى خطورته، حيث هو يعني الاعتراف بسيادة حكومة الثورة على نفطها، الأمر الذي يجعل صفقتهم مع آل نوبل لا تساوي بنساً واحداً، فتدخلت الخارجية الأميركية وأعلنت أنها لن توافق، أبداً أبداً، على أي اتفاقية تعقد مع الحكومة الثورية التي "تتحكم بصفة مؤقتة"! ولكن، من يصدّق أن الأميركيين كانوا في الوقت نفسه بالضبط يجتمعون بممثلين عن الحكومة الثورية الروسية، ويتباحثون معهم سراً في سبل التعاون النفطي مستقبلاً؟! لقد راحوا جميعهم يتبادلون الاتهامات علناً بخصوص الإتفاق سراً مع السوفييت، ويستنكرون خبث السوفييت الذين سرقوا النفط واستباحوا قدسية الملكية الفردية، وفي الوقت نفسه بالضبط كان كل طرف منهم يقوم سراً بما يحذّر الآخرين من فعله!

تحالف الخيانة والانتهازية والجهل!

لقد حدثت الثورة الروسية في زمان ومكان غير ملائمين لتحقيق تغيير ايجابي في الوضع البشري والعلاقات الدولية، فالإحتكارات كانت في زخم صعودها العالمي القوي العاصف، وروسيا كانت طرفاً بعيداً من أطراف منطقة المتوسط الكبرى تسهل محاصرته مهما أوتي من القوة، أما اليوم فإن الأحداث العظمى تتكرر في زمان ومكان ملائمين لتحقيق التغيير الإيجابي المنشود أممياً، في زمن استعصاء أزمة النظام العالمي تماماً وبلوغه مرحلة الانحدار، وفي المنطقة التي يسميها الأميركيون "المنطقة المفتاح" أي مفتاح العالم! غير أن تحالف الخيانة والإنتهازية والجهل يوارب في أقواله وأفعاله، محاولاً إقناع الأمة بدونيتها وصغارها وعجزها، ومقدماً لقوات الاحتلال أعظم التسهيلات والخدمات، فهل سينجح في الحيلولة دون انطلاق فعالية الأمة العربية والإسلامية، وفي إيقاف عجلة التاريخ، وفي إطالة عمر هذا التنين الجهنمي العالمي المتعدّد الرؤوس؟

  

Hosted by www.Geocities.ws

1