العراق يصعّد الكفاح ضدّ الاحتكار النفطي!

بقلم: نصر شمالي

لم تنشر شركة النفط البريطانية في العراق، في أي وقت من الأوقات أية أرقام عن الأرباح، كما أنها لم تحط الحكومات العراقية قبل ثورة 14 تموز/ يوليو 1958 علماً بأي شيء عن هذا الموضوع! لقد كان ممكناً الحصول على بعض الأرقام فقط بطرق جانبية، مثلما حدث عندما كشفت شركة ستاندرد نيوجرسي الأميركية في عام 1937 عن حصتها العادية في شركة نفط العراق الإنكليزية، حيث قالت أنها تتراوح ما بين 19 – 143 مليون دولار، نتيجة استثمار يقل عن 14 مليون دولار، ولكم أن تحسبوا نسبة الأرباح إلى نسبة التوظيفات! وفي وقت آخر قالت جرسي أنها حققت ربحاً قدره اثنان وخمسين سنتاً في البرميل الواحد! علماً أن هذا الرقم يعادل أكثر من ضعف المبلغ الذي كان يدفع للعراق من العائدات والضرائب جميعها، ومع الانتباه أن العائدات المخصصة للعراق كانت تبقى تحت سيطرة المصارف والحكومات الأجنبية التي كانت تستردها عن طريق التحكم بأوجه إنفاقها!

ثورة العراق عام 1958

في الرابع عشر من تموز/ يوليو عام 1958 ثار الشعب العراقي بقيادة بعض ضباط الجيش المتحالفين مع الحركة الوطنية، فأطيح بالنظام الملكي والحكومة العميلة. وقد أثار ذلك الحدث العظيم قلقاً واسعاً في أوساط الاحتكارات الربوية، خاصة النفطية، فأنزل الأميركيون قواتهم في لبنان كخطوة في عملية التصدّي لردود الفعل الإيجابية التي اجتاحت المنطقة العربية، وفي محاولة لإيقاف التداعيات والانهيارات التي يمكن أن تطال المصالح الاحتكارية العالمية. وأعلنت واشنطن أن "التدخل لن يمتد إلى العراق ما دامت الحكومة الثورية في بغداد تحترم مصالح الغرب البترولية"!

كان الحال في العراق مثلما كان الحال في إيران تماماً، بل كانت أوضاع الشعب العراقي أشدّ تعقيداً ومأساوية. وقد ورث العهد الجمهوري الجديد عن شركة نفط العراق الإنكليزية وحكومتها التابعة جهازاً حكومياً تعساً، متعفّناً، ونظاماً اقتصادياً بائساً راكداً، ووضعاً اجتماعياً متخلفاً، حيث 85% من أبناء الشعب أميين، وحيث الفنيون المدربون يشكلون قلة ضئيلة لا تستحق الذكر، والتعليم العالي لا يزال في بداياته الأولى، أما الأمراض وسوء التغذية فكانت تنهك الملايين! وهكذا فإن قضية النفط لم تكن هي المسألة في حدّ ذاتها، بل كانت مواجهتها، متمثلة بالاحتكار الأجنبي، مدخل إجباري لمعالجة أوضاع العراق بمجملها.

وبالطبع، كانت تجربة تأميم النفط في إيران الجارة حافزاً قوياً جداً للحركة الوطنية العراقية كي تنهض بقوة وتطالب بالسير على النهج التحرري ذاته، فمنذ عام 1952 أعلن أحد أعضاء المجلس النيابي العراقي:" سنظل دائماً مؤمنين بأن الوسيلة الوحيدة لامتلاك موارد هذه البلاد هي التأميم، وسنواصل الضغط والإلحاح حتى تتخذ هذه الخطوة"! لقد كان ذلك تجاوباً طبيعياً مع ما كان يحدث في طهران، وقبل ثورة تموز/ يوليو بستة أعوام، فالشعبان المتآخيان حضارياً وإسلامياً كانا يعيشان مأساة مشتركة واحدة سببها عدو مشترك واحد.

الإنكليز يتنكرون حتى لحلفائهم!

لقد اضطر نوري السعيد، رئيس وزراء العراق شبه الدائم قبل الثورة، أن يجأر بالشكوى أثناء وجوده في لندن لحضور اجتماعات حلف بغداد السيء الصيت، فأعلن أن بلاده لا تملك شيئاً تمنحه لطلاب الامتيازات الأجانب، لأن شركة نفط العراق الإنكليزية ترفض التخلي عن شبر واحد من الأراضي الواقعة تحت سلطتها، ثم أضاف:" يثور بين العراقيين سخط شديد عندما يرون أمثال تلك الاتفاقيات التي أبرمت بين الشركة اليابانية وبين كل من الكويت والسعودية، وينبغي على شركة نفط العراق أن تتفهم موقفنا"! غير أن سادة الشركة من ذوي العقول الباردة، والقلوب التي لا تعرف الشفقة والرحمة حتى بصدد أصدقائها وأتباعها، لم تتفهم موقف نوري السعيد ولم تأبه لمصيره، فكان ذلك آخر ما صدر عنه بخصوص هذا الموضوع، حيث قتل بعد أسابيع قليلة على أيدي جماهير الشعب العراقي المندفعة كالسيل الجارف تأييداً للثورة!

تصوّرات الاحتكارات وأمنياتها الفظيعة!

بعد الثورة العراقية عانى خبراء النفط الأوروبيون والأميركيون قلقاً شديداً، فقد بدا واضحاً أن تجربة مصدق لم تكن حدثاً عارضاً ولا محلياً، وأنها قابلة للتكرار في أي وقت وأي بلد، وقد علق كارميكال، محرر شؤون النفط في صحيفة نيويورك تايمز، على ذلك بقوله:" في ما يتعلق بحكومة العراق التي كانت تعتبر أكثر الحكومات استقراراً وتقدّماً في العالم العربي، والتي كانت الحكومة الوحيدة التي طالما أحسّ الغربيون حقاً أن بإمكانهم الاعتماد عليها، فإن إسقاطها من شأنه أن تكون له آثار اقتصادية وسياسية خطيرة في جميع أنحاء العالم الحرّ، حيث قد يعني ذلك أنه من المتعذّر على أية حكومة صديقة للغربيين في ذلك الجزء من العالم أن تبقى قائمة لفترة طويلة، كما أنه يزيد من ضعف قبضة الغرب غير المحكمة على مصادر النفط الشاسعة في الشرق الأوسط"!

ولكن، هل كانت أقوال معلق نيويورك تايمز حول "استقرار" حكومة نوري السعيد تعكس الواقع؟ كلا بالطبع، إنما كانت تلك أمنيات ورغبات وتصورات عن استقرار قسري يخدم مصالح الاحتكارات، ويتحقق بإرهاق الشعب وإنهاكه بل إهلاكه إذا استدعى الأمر استقراراً كاستقرار المقابر! فالاستقرار الحقيقي الطبيعي لم يكن له وجود في العراق بتاتاً، في أي وقت، بوجود الشركات الاستعمارية وقواتها وعملائها. ومعروف جيداً أنه منذ عام 1921، حين أقام الإنكليز النظام الذي يخدم مصالحهم، وفي إطار اتفاقية سايكس/بيكو التي قطعت أوصال المشرق العربي،فإن الشعب العراقي لم يكف يوماً واحداً عن إبداء غضبه، وقد توالت الانتفاضات والثورات والانقلابات والاغتيالات متواصلة رغم وجود 18 ألف رجل أمن كانوا يجوبون أنحاء بغداد فقط ليل نهار، ورغم السجون التي ظلت مكتظة بالآلاف!

وعلى أثر توقيع اتفاقية حلف بغداد راحت حكومة شركة النفط في بغداد تطارد الأحزاب السياسية وتعطل نشاطها، وتكمم الصحافة الوطنية، وتخمد أنفاس كل معارض لذلك الحلف الاستعماري الذي ولد مترنحاً مزعزعاً، أي أنه لم يكن ثمة استقرار كما زعم الأميركيون والإنكليز، إلا إذا كانت إبادة الشعب كفيلة بتحقيق مثل هذا الاستقرار!

البذخ والهدر في العهد الملكي

كان النظام الملكي العراقي يخصص 70% من عائدات النفط لصالح ما كان يسمى بمجلس الإعمار، وقد راح ذلك المجلس يرتجل السدود على نهري دجلة والفرات، ويقيم الجسور، كذلك شيّد قصراً ملكياً في بغداد بلغت تكاليفه 10 ملايين دولار، وهو مبلغ عظيم الضخامة بحسابات ذلك الزمن، فكان الهدر في مشاريع عامة غير مدروسة، والبذخ في حياة الخاصة من الحكام وأوساطهم، بينما تدهورت أوضاع الزراعة تدهوراً مريعاً على أيدي تحالف الحكام المحليين وملاك الأراضي، وقد حال ذلك التحالف أيضاً دون البدء بأية تنمية صناعية! والواقع أن تلك السياسات التخريبية والعقيمة لم تكن في جوهرها سوى سياسات الحاكم الفعلي الأجنبي، فبينما كانت تقام وتشاد بعناية فائقة الآثار الهائلة الفارغة التي تذكر بعهود القياصرة والأكاسرة، وبينما كان المقاولون والموظفون الكبار وملاك الأراضي يحققون الثراء الفاحش، كان الركود الآسن يشلّ جميع مناحي الحياة العراقية!

خطوة عراقية إلى الأمام

لقد تقدم العراق إلى الأمام بعد ثورة تموز/ يوليو، ومضى قدماً في طريق ما أطلق عليه عنوان:" إعادة النفط إلى الوضع الطبيعي" بدلاً من عنوان "التأميم"، فقد كانت الحكومة الثورية تخشى فشل التأميم إذا ما جوبه بزيادة الإنتاج في كل من الكويت والسعودية، كذلك خشيت الحكومة الجديدة أن تنجح مقاطعة النفط العراقي، ولو إلى حين، بتعويضه مؤقتاً عن طريق زيادة الإنتاج في الأقطار الأخرى، بل هي كانت على ثقة من تعرض العراق للحصار والمقاطعة في حال التأميم، آخذة بالحسبان تجربة مصدق، بينما هي بأمس الحاجة لعائدات النفط كدخل رئيس للعراق حينئذ، لكنها سعت في الوقت نفسه إلى إدخال بعض إجراءات التعريب في شركة النفط عن طريق تمليك الدولة لجزء منها، ومن ثم الدخول في عضوية الإدارة واستخدام موظفين عراقيين على نطاق واسع، واشتراط نسبة مئوية أكبر من الأرباح.. الخ، كذلك استخدمت حصة العراق العينية من النفط في تشغيل معمل تكرير وطني بطاقته الكاملة وبموظفين جميعهم عراقيين.

تأسيس أوبيك ذروة العاصفة!

في عام 1960 أقدمت الشركات الاحتكارية على تخفيض أسعار النفط الخام من طرف واحد، فسارع العراق بحزم إلى الدعوة لعقد مؤتمر للدول المنتجة، وتم بالفعل تشكيل منظمة الدول المصدرة للنفط "اوبيك"، وفي الوقت نفسه واصلت الحكومة العراقية مباحثاتها مع البريطانيين حول استردادها لمناطق النفط غير المستثمرة، وفجأة أعلن الاحتكار النفطي العالمي عن عمليات تخفيض أخرى في أسعار الخام، فكانت ردّة الفعل العربية عنيفة جداً بسبب الخسائر، حيث قدّرت خسائر الكويت بمبلغ 46 مليون دولار، وخسائر العراق 24 مليوناً، وإيران 27 مليوناً، والسعودية 33 مليوناً! وعلى أثر ذلك دعت الحكومة العراقية إلى مؤتمر عقد في بغداد (14/9/1960) أعلن فيه عن قيام "اوبيك"، وصدرت عنها ثلاثة قرارات، نص القراران الرئيسان منها على مايلي:

1-     إن البلاد المصدرة للنفط، وقد وجدت نفسها غير قادرة على السكون إزاء موقف الشركات بإحداث تغييرات في الأسعار، سوف تطلب إبقاء الأسعار مستقرة والتراجع عن التخفيضات، وعدم إدخال أي تغيير في الأسعار إلا بموافقة البلاد المنتجة، وسوف يوضع نظام يكفل استقرار الأسعار عن طريق الرقابة على الإنتاج، كما سيقف الأعضاء صفاً واحداً لرفض العروض التي تتضمن تفرقة في المعاملة لصالح أحد الأعضاء من خلال تصرف تقوم به الشركات من جانب واحد.

2-     تتشكل منظمة البلاد المصدرة "اوبيك" من العربية السعودية والعراق وإيران والكويت وفنزويلا، ويمكنها قبول أعضاء جدد بإجماع الأصوات، وهدف المنظمة هو توحيد السياسة النفطية.. الخ

لقد كان إنشاء منظمة "اوبيك" ذروة العاصفة التي هبّت في المنطقة حينئذ، واستمرت لعقد من الزمن، فالمنظمة التي نهضت بمبادرة من العراق كانت أول اتحاد ينهض في وجه كارتل الشركات الاحتكارية، وقد أصرّت البلدان المصدّرة بحزم على عدم السماح بتخفيض دخولها رغم تخفيض الأسعار، وأعلنت أنه إذا كان لابد لأحد أن يعاني من التخفيضات فلتكن الشركات! غير أن المعركة لم تحسم، بل هي استمرت ومازالت حتى يومنا هذا، حيث العراق خصوصاً والدول المنتجة للنفط عموماً يواصلون مواجهة أباطرة النفط، وجيوشهم المحتلة، بعد أن وصل بعضهم إلى مركز الرئاسة في بلدانهم، فاندمجت مصالح الدولة في مصالح الشركات!

www.snurl.com/375h

 

Hosted by www.Geocities.ws

1