النفط للاحتكارات الربوية والمصائب للبلدان المنتجة!

بقلم: نصر شمالي

ليس التاريخ الحديث للبلدان المنتجة للنفط، خاصة إيران والعراق، سوى تاريخ السياسات الاحتكارية النفطية العالمية في هذه البلدان. ولم تكن تلك السياسات مجرّد ردود أفعال على سياسات البلد المنتج، حيث لم يشفع لإيران والعراق وجود محمد رضا ونوري السعيد على رأس السلطة فيهما، وهما المواليان للشركات وحكوماتها، فقد كان وجود النفط في حد ذاته هو البلاء الأعظم! وفي العام 1951 كانت السياسات الأجنبية المدمّرة، المرتكزة إلى النفط، هي المسألة التي ألهبت الشارع الإيراني، فالنفط لم يكن مجرّد ثروة ينهبها الأجانب بل كان يوصف فعلاً أنه البلاء الأعظم الذي حلّ بإيران، والذي بسببه تفتعل الأزمات افتعالاً، سواء بين الشركات والدول الأجنبية أم مع الشعب الإيراني، وبسببه ترتكب الجرائم الفظيعة من دون أسباب مباشرة مفهومة ضدّ الشعب، بل لإبقائه مرهقاً ومشغولاً عن ثروته المبدّدة المنهوبة، حتى لقد تمنى بعض القادة الإيرانيين حقاً لو أن النفط لم يكن موجوداً في بلدهم أصلاً، وإنها لأمنية ردّدها عرب أيضاً، ومازالوا يردّدونها!

إخفاء الحقائق عن الشعب!

في مطلع الخمسينات أبرمت الحكومة السعودية اتفاقية مع شركة آرامكو تحصل بمقتضاها على 50% من الأرباح حسب النموذج الفنزويلي، فبادرت الحكومة الإيرانية طالبة التفاوض ومتطلعة إلى التعامل بالمثل، حيث دعا رئيس الوزراء على رازامار إلى إعادة النظر في امتيازات الشركة الأنكلو – فارسية. غير أن رئيس الوزراء ذاك ظل متكتماً على ما يدور في المفاوضات، ورفض الكشف لشعبه عن مطالبه وشروطه، متحسباً للشعور العام المتأجج ضدّ الاحتكارات الأجنبية، والذي لم يكن ليقبل بأقل من تأميم النفط! أما الشركة البريطانية فقد أعلنت من جهتها، في ما بعد، أنها اقترحت التسوية على أساس المناصفة في الأرباح، وهو ما كان رازامار قد امتنع عن إذاعته!

لقد كان ذلك كله يجري في جوّ من الغموض التام، بينما الشعب متعطش لمعرفة الحقائق وعظيم الإحساس بوطأة سياسة الاحتكار على حاضره ومستقبله. وأياً كانت حقيقة ما كان يدور في الظلام، فإن الشركة البريطانية، من جهتها أيضاً، لم تبذل في حينه أية محاولة لإعلان عرضها الذي زعمته في ما بعد حول المناصفة! وعندما ردّ رئيس الوزراء الإيراني على هجوم أنصار التأميم بالتحذير من أن بريطانيا قد تطالب في حال التأميم بتعويض يتراوح ما بين 800 – 1400 مليون دولار (بأسعار ذلك الزمان!) وقع حادث اغتياله، في السابع من شهر آذار /مارس 1951!

محاولة للخلاص بقيادة مصدق

في العاشر من الشهر نفسه (آذار /مارس 1951) صوّت المجلس النيابي الإيراني لصالح التأميم. وبعد ذلك بشهر أصبح الدكتور مصدق رئيساً لمجلس الوزراء، وقد كان يشغل منصب رئيس لجنة البترول. وما أن حلّ اليوم الأول من أيار/ مايو حتى وجد الشاه نفسه مرغماً على إعطاء موافقته، وهكذا أصبح مشروع البرلمان بتأميم النفط قانونياً!

لقد كان ذلك حدثاً عظيماً، جديداً وفريداً في نوعه، وراح اللورد ستراتالموند، رئيس مجلس إدارة الشركة البريطانية، يصرخ بأعلى صوته: "إنها لطمة فظيعة حقاً، أن تصحو صباحاً لتجد نفسك وقد فقدت معظم ما تملكه من النفط"!

في الحقيقة، كان القانون الذي أصدرته حكومة مصدق، وكذلك بقية الإجراءات المتممة التي تلته، ردّاً شاملاً على المظالم الطويلة الأمد التي نزلت بالشعب الإيراني، فالمسألة لم تكن بالدرجة الأولى مسألة تحقيق مكتسبات واستنكار لغبن في العلاقات المادية، بل كانت مسألة خلاص من الشرور الأجنبية التي أنهكت الشعب الإيراني اجتماعياً ووطنياً.

لكننا، إذا قصرنا الحديث على الجانب المادي والمالي، فسوف نجد أن إيران قبضت 45 مليون دولار عن العام 1950 الذي سبق عام التأميم، بينما قبضت وزارة المالية البريطانية مبلغ 140 مليون دولار هو حصة الحكومة البريطانية فقط، حيث لا علاقة لهذه الأرقام المتواضعة بسيل الذهب المتدفق على خزائن الشركة البريطانية التي لم تكن حساباتها خاضعة لأي تدقيق، والتي لم تكن تذيع أية بيانات حقيقية عن عملياتها!

وإذا عدنا إلى السنوات 1927 – 1940، فسوف نجد أنه لم يدخل الميزانية الإيرانية أي مبلغ من النفط، وأن الأموال كانت كلها مودعة في لندن من أجل شراء معدات حربية لحماية إيران من الاتحاد السوفييتي! وفي عام 1941 صادرت جيوش الحلفاء تلك الأسلحة والمعدات بحجة وجود ميول ألمانية إيرانية! وهكذا كان الشعب ينظر من بعيد إلى إيرادات بلاده وهي تنفق على ذلك النحو، فتتلاشى وتختفي خارج الوطن!

الحكومة البريطانية شرطي الاحتكار!

بعد صدور قوانين التأميم تشبثت بريطانيا بما دعته امتيازاتها في إيران، وهي امتيازات يمتدّ أجلها إلى 98 عاماً! لقد أعلن البريطانيون بوقاحة لا مثيل لها أن إيران قيّدت نفسها بملء إرادتها لثلاثة أجيال قادمة! وبالفعل، فقد كانت الشركة البريطانية تعمل في إيران كأنما هي تمتلك البلد، وكأنما الشعب الإيراني هو المتطفل الدخيل! لقد كانت تفرض سيطرتها السياسية والاقتصادية، وتقيم المصانع الخاصة بخدمات الشركة بملء حريتها، مثل مصنعها الخاص للجعة، وطاحونتها الخاصة للدقيق، ومعملها الخاص لمواد البناء، ومطابعها الخاصة بها.. الخ! وبالمقابل، كانت عبادان، مدينة النفط الأكبر في المنطقة، تتشكل من أكبر تجمع أعشاش في المنطقة، حيث أكواخ الصفيح البالي، ونفايات الورق المقوى والخيش، يتكدس فيها العمال كالقطعان، يعانون من القذارة والوضاعة والجوع والمرض!

وما هو بالغ الدلالة أن إيران حصلت في كل سنة من سنوات التأميم القصيرة على عائدات تعادل كل ما حصلت عليه خلال السنوات الخمسين الأخيرة! لكن المسألة التي لم تكن قد اتضحت بعد بصورة كافية هي وحدة النظام الربوي العالمي، وأن أية معركة لا يمكن أن تكون مجدية وحاسمة إذا جرى الإعداد لها على أساس أن فرعاً من فروع النظام العالمي هو العدوّ كله! وبالفعل، كانت حكومة الولايات المتحدة الأميركية على الخط، تتابع ذلك الصراع الدائر بين الشعب الإيراني بقيادة الدكتور مصدّق وبين البريطانيين!

لقد تكشفت الصعاب التي تعترض إيران في صراعها مع مؤسسة كان يفترض أنها مؤسسة خاصة وليست حكومية، وإذا هي غير ذلك تماماً، حيث الحكومة البريطانية ليست سوى شرطي في إمرة الشركة! وكان يفترض أن المعركة تدور ضدّ البريطانيين تحديداً، سواء كشركة أم كحكومة، وإذا بها ليست كذلك أيضاً، حيث برز الاحتكار الأميركي فاغراً فاه لالتهام الإيرانيين والبريطانيين!

العيش بالكفاف مع الكرامة!

في مواجهة حكومة مصدّق الوطنية، توجه البريطانيون إلى مجلس الأمن التابع لهيئة الأمم، متسلحين بامتيازهم الطويل الأجل، ولدهشتهم العظيمة امتنع مجلس الأمن عن التدخل، وكذلك امتنعت محكمة العدل الدولية عن إصدار حكم في نزاع يدور بين إحدى الحكومات وإحدى الشركات! لقد رفضت وجهة النظر البريطانية التي قالت أن النزاع يدور بين حكومتين، هكذا كان الظاهر، أما حقيقة الأمر فهي أن الحكومة الأميركية، ومن ورائها شركات النفط الأميركية، كانت هناك في هذه المؤسسات الدولية، تتحفز للانقضاض على الفريسة الإيرانية والحلول محل البريطانيين في إيران!

غير أن البريطانيين واصلوا النزاع وكأنهم ليسوا في عجلة من أمرهم مهما طال الزمن، وتظاهروا بالثقة والاطمئنان، وأنهم لا يعانون أزمة نفطية بفضل تملكهم حصة النصف في آبار الكويت، وهي الآبار التي كانت محتجزة ومغلقة في انتظار اليوم الذي يسمح فيه الطلب العالمي على النفط بتسويق إنتاجها الغزير والجيّد والرخيص! ولكن، في الأزمة الإيرانية، قررت بريطانيا فتح الآبار الكويتية بسرعة لتلبية التزامات الشركة البريطانية إزاء أسواقها، وريثما يركع الدكتور مصدّق على ركبتيه أو يلقى به خارج مجلس الوزراء!

لقد استمرت الأزمة الإيرانية طوال الأعوام 1951 – 1954، وكانت الدهشة كبيرة في مختلف أرجاء العالم إزاء صمود إيران، حيث اعتقد الكثيرون أن الإفلاس سيحل بحكومة مصدق! غير أن إيرادات البترول لم تكن تشكل سوى جزء صغير من إيرادات الحكومة الإيرانية، على الرغم من أنها أصبحت تعادل في كل عام واحد مجموع إيرادات إيران من النفط خلال الخمسين عاماً التي سبقت التأميم! والحال أن 95% من الشعب الإيراني لم تكن لهم أية مصلحة في نشاطات الشركة البريطانية، وهي لم تكن تعود عليهم بأي نفع مادي! ولما كان الشعب الإيراني قد عاش قبل النفط على الكفاف، ولما كانت الشركة البريطانية قد أضافت العذاب إلى الكفاف، فإن الشعب وجد نفسه قادراً لفترة أخرى على مواصلة العيش بالكفاف مع الكرامة طالما أن الموقف يتطلب ذلك!

الأميركيون ينفّذون الهجوم المعاكس!

ولكن، من يتوهّم أن البريطانيين أو الأميركيين، وأمثالهم وأعوانهم، يسمحون بعيش الكفاف مع الكرامة للشعوب؟ فقد تمت عملية إسقاط حكومة الدكتور مصدّق بانقلاب عسكري قادته واشنطن، وأسهمت في التحضير له الاستخبارات الأميركية وفي ركابها الاستخبارات الإسرائيلية، ولم يكن سقوط الحكومة بسبب حاجتها إلى المزيد من التأييد الشعبي، بل بسبب افتقارها إلى التعبئة العامة المنظمة الكافية، ولعل الشروط لم تكن متوفرة والظروف لم تكن تسمح بذلك بعد، غير أن الشروط سوف تتوفر والظروف سوف تسمح في عام 1979.

لقد عاد الشاه الهارب من روما إلى طهران برعاية وإشراف المخابرات الأميركية، وعيّن الجنرال فضل الله زاهدي رئيساً لمجلس الوزراء، وهو الذي قاد الانقلاب شكلياً وظاهرياً، والذي كان قبل ذلك محسوباً على النازيين الألمان، حيث أبعده الحلفاء في العام 1941 بهذه التهمة، وياللعجب!

وسرعان ما دخلت الشركات الأميركية الخمس الكبرى إلى إيران: ستاندرد أوف نيوجرسي، وسوكوني، وستاندرد أوف كاليفورنيا، وتكساكو، والخليج! لقد دخلت هذه الشركات مبدئياً بحصة مقدارها 40%، وتحققت بذلك أحلام أباطرة النفط الأميركيين القديمة في اقتحام ما كانوا يسمونه "كنوز بلاد فارس"! أما الشركة البريطانية المنكفئة فقد حصلت أيضاً على نسبة 40% مضافاً إليها تعويض مقداره عشرة سنتات عن البرميل الواحد، كذلك حصل الفرنسيون على نسبة 20%، حيث الانقلاب واقتناص الفريسة كان ثمرة تعاون جميع الضباع، وبالتالي كان لكل حصته من الأشلاء بما يتناسب مع دوره!

www.snurl.com/375h

 

 

 

Hosted by www.Geocities.ws

1