لماذا فشلت برامج النمو والتطور المستقل؟

بقلم: نصر شمالي

لا يزال العالم محكوماً بقانون التفاوت الاستعماري الرأسمالي الذي بدأ العمل به قبل قرون. إنه قانون مطلق من قوانين الرأسمالية الاحتكارية، يجري العمل بموجبه على مدار الساعة، ويفرض بالقوة العسكرية كلما اقتضى الأمر ذلك، فقادة هذا النظام العالمي الربوي يعتبرون التفاوت في النمو هو التوازن، ولا يسمحون بتطور الأمم جميعها بالسوية نفسها، فيتصدّون لأية محاولة يقدم عليها قطر من الأقطار لتحقيق التكافؤ في التطور، ويعتبرونها إخلالاً بالتوازن!

لقد حاولت دول عربية عديدة، خاصة على مدى النصف الثاني من القرن العشرين، تنفيذ برامج وخطط خمسية تنموية طموحة، فانهمك قادتها في محاولات الإحاطة بأوضاع وإمكانيات بلدانهم، وفي السعي للحصول على مساعدات خارجية نزيهة، وهم اجتازوا بعض المسافات المهمة المؤثرة، بفضل العون السوفيتي خاصة، فنهض القطاع العام كبنية تحتية مادية وبشرية أعطت الأمل بإمكانية النمو والتطور، غير أنها سرعان ما وقفت عند حدّ معين لم تتمكّن من تخطيه، وبالتالي لم يتحقق أبداً في أي ميدان قدر كاف من الاستقرار الذي يؤسس لشوط بعيد المدى وغير قابل للنكوص والتقويض، وفي ما بعد رأى البعض في ذلك فشلاً للنظرية من أساسها، وهذا غير صحيح بالطبع!

على أية حال، شهدت نهايات القرن العشرين انهيار تلك المحاولات وإنجازاتها، وانطلق فحيح الأفاعي معتبراً القطاع العام عقبة ضخمة في وجه النمو، فبدأت عمليات تصفيته في بعض البلدان، ولم يتردّد بعض القادة الجدد في اعتباره خطأ فادحاً من الأساس، وفي الدعوة للالتحاق باقتصاد السوق الليبرالية المفتوحة، وهكذا دخل في روع الكثيرين كأنما تلك الإنجازات التقدمية الكبرى كانت جميعها بلا طائل، فهل الأمر هو كذلك حقاً، وهل نستطيع بالفعل تحقيق النمو والتطور عبر الانخراط في السوق الدولية الرأسمالية؟

قانون التفاوت لا يسمح بالتقدم!

في الواقع، إن الذي حدث عبر مختلف الأساليب والوسائل هو "إعادة التوازن" أي "التفاوت" إلى العلاقات الدولية التي يرعاها الظالمون، فمحاولات التنمية المستقلة في كل من مصر وسورية والجزائر والعراق وغيرها لم تفشل بسبب العوامل الداخلية وحدها، بل بسبب العوامل الخارجية التي ينهض عليها قانون التفاوت الرأسمالي العالمي المطلق، الذي بموجبه غير مسموح لأحد بالتقدّم حتى وإن بالتعاون مع المراكز الرأسمالية وبإشرافها وموافقتها، وقد رأينا كيف تصدّوا لما سمّي بالنمور الآسيوية، المتعاونة معهم إلى أبعد الحدود، عندما تجاوزت حداً معيناً لا يجوز تخطيه، فأفلسوها في طرفة عين، ثم تركوا بعضها يعيد هيكلة اقتصاده من جديد تحت السقف المحدّد!

غير أن قانون التفاوت، الذي لا تقوم للنظام الربوي العالمي قائمة من دونه، لا يحول دائماً دون أن تلعب المصادفات والضرورات والتعقيدات الدولية دورها في تمكين بلد ما من البلدان العدوة، مثل الصين وألمانيا واليابان، أو الضعيفة مثل سنغافورة والإمارات وكوريا الجنوبية وتايوان، أن تبلغ سوية متقدمة من النمو والتطور، ومثل هذا الحدث يقع أيضاً كمحصلة لجملة من الحسابات والتقديرات الإقليمية والقارية، وهي حسابات عويصة ومعقدة تفرض نفسها على قادة النظام العالمي، فقد اقتضى الحفاظ على التفاوت مع إندونيسيا العملاقة، مثلاً، إنهاض سنغافورة الصغيرة العظيمة التطور على مقربة منها، واقتضى الحفاظ على التفاوت مع الصين وإبقائها تحت سقف معين أن تنهض تايوان واليابان على تخومها.. وهكذا! بل إن بعض هذه البلدان، مثل الإمارات، تبدو متفوقة اليوم من نواح كثيرة على دول أوروبية عريقة، بل وعلى بعض الولايات الأميركية، غير أن مثل هذه الظواهر تبقى مضللة وعابرة مهما صعدت ومهما دامت، فهي من جهة مراكز ابتزاز في خدمة النظام العالمي، وهي من جهة أخرى محتواة تماماً بحيث تعاد في لحظة إلى وضعيتها السابقة إذا ما اقتضى الأمر ذلك!

يستنهضون أعداءهم عند الضرورة!

ومن غرائب هذا العصر الاحتكاري أن المنتصرين في الحرب العالمية الثانية أخذوا بيد ألدّ أعدائهم: الألمان واليابانيين والطليان! وقد حدث أنهم فكروا بالأخذ بيد الهند كدريئة لمواجهة الصين الشعبية، ولو أنهم استقروا على هذا الرأي لكانت الهند تحتل مكانة اليابان، لكنهم اختاروا اليابان على الرغم من بيرل هاربور! ومن جهة أخرى اختاروا ألمانيا عدوهم الرئيس كدريئة في وجه الاتحاد السوفييتي،وبالطبع وظفت الفعاليات الذاتية الجبارة للبلدين العدوين المهزومين في صالح تعزيز النظام الاحتكاري العالمي، وفي مواجهة أمم الجنوب حيث الأكثرية الساحقة من البشر، وذلك كله من أجل الحفاظ على قانون التفاوت!

وبالمقابل، وأيضاً من غرائب هذا العصر، أن المنتصرين نظروا إلى العرب باعتبارهم أمة واحدة كبيرة وخطيرة على التوازن (الذي هو التفاوت) مع أنهم في العلن لا يعترفون بها أبداً أمة واحدة، فهم تعاملوا معها مثلما تعاملوا مع روسيا والصين، باعتبارها خطراً كامناً يستحق الحروب الاستباقية الوقائية، وحكموا عليها بالدمار الشامل فأقاموا الكيان الصهيوني في قلبها، وكبديل عنها، وكدريئة ضدها، ولم يتوانوا على مدى العقود في عزل ومحاصرة وتدمير أي قطر عربي فكّر بمحاولة تنموية مستقلة، من أي نوع كانت، والعراق هو آخر مثال على ذلك!

وهكذا فإن العرب يدفعون اليوم غالياً ثمن قابليتهم لتحدي قانون التفاوت الرأسمالي، وإنه ليتوجب علينا أن نعي جيداً هذه الحقيقة، وأن نكف عن الهذر والخلط بين القوانين الصحيحة وبين التطبيقات التي فشلت بسبب القصور المفهوم في الداخل والحصار الحربي الشامل والمتواصل من الخارج.

www.snurl.com/375h

 

Hosted by www.Geocities.ws

1